عبد الحليم قنديل
تحقيقات 180
20 مايو 2023
بعد هدوء نسبي استطال شهورا على جبهات حرب أوكرانيا، اللهم إلا من القتال المستعر حول وفي مدينة «باخموت»، التي شهدت أطول المعارك وأكثرها دموية في الحرب كلها، وبدت كأنها الحرب التي طوت وأنست الناس وقائع الحرب الأصلية، وفيما الكل مستغرق في قصة «باخموت»، وفي انتظار الهجوم الأوكراني المضاد الموعود، الذي تدحرجت مواعيده وألقابه من «الربيع» إلى الصيف، وجرى إغراق أوكرانيا بطوفان السلاح الغربي المتدفق من أجله، فيما جاءت المبادرة من مكان آخر، وشهدت مدينة في غرب أوكرانيا أعظم انفجار في الحرب كلها حتى تاريخه.
بدا الانفجار كأنه من النوع النووي، واندلعت النيران متسعة مقتحمة لطبقات السماء العلا، وفيما صمتت أوكرانيا صمت القبور عن ما جرى في مدينة «خميليتنسكي» بالقرب من الحدود مع بولندا، تحدثت المصادر الروسية ووزارة الدفاع عن ضربة دمرت مخزنا هائلا للأسلحة الغربية، جرت غالبا بطائرات مسيّرة انتحارية من طراز «لانسيت»، تقدمت على موجتين إلى الموقع المستهدف، ودمرت أسلحة متنوعة تبلغ قيمتها 500 مليون دولار، قيل أن من بينها قذائف يورانيوم منضب، قدمتها بريطانيا علنا إلى أوكرانيا، وربما تفسر قذائف اليورانيوم المتفجرة شدة واتساع الانفجار.
سبق للجنرال مارك ميلي، قائد أركان الجيوش الأمريكية، أن وصف علنا هدف الهجوم الموعود بأنه مستحيل التحقق عمليا وهو ما قد يعني بوضوح أن هزيمة الغرب في حرب أوكرانيا باتت أقرب
وبعد الانفجار المرعب، الذي بدأ به أسبوع الحرب الأخير، جاءت الضربة الثانية في قلب «كييف» عاصمة أوكرانيا، وبهجوم منسق أتى من جهات متعددة بعيدة، وعلى نحو سريع متتابع، شاركت فيه صواريخ «كينجال» الروسية الأسرع من الصوت بخمس مرات على الأقل، وقالت روسيا إنها دمرت منظومة «الباتريوت» الأمريكية الوحيدة، التي زودت بها أوكرانيا حتى الآن، وفيما بدا النفي الأوكراني متلعثما، وعقبت المصادر الأمريكية الرسمية بأنها لا تستطيع التأكيد، ونقلت الميديا الأمريكية عن مصادرها الموثوقة، أن ما جرى كان إتلافا لمنظومة «الباتريوت»، وليس تدميرا شاملا، وبدا اللجاج الأمريكى الأوكرانى معبرا عن ارتباك ذاهل، ويدحض ادعاءً سابقا نفته روسيا عن معركة «كينجال» و»باتريوت»، فقد ادعت أوكرانيا، وسايرتها واشنطن، أن منظومة «الباتريوت» أسقطت صاروخ «كينجال»، وهو ما بدا موضع جدال لم ينته بعد في الدوائر العسكرية المتخصصة، التي يقطع أغلبها باستحالة تصدي أي نظام دفاع جوي للصواريخ فرط الصوتية، و»كينجال» ـ أي الخنجر بالروسية ـ واحد من أشهرها وأكثرها تطورا.
وبدا في القصة كلها صدام دعائي زاعق بين التكنولوجيا الروسية ونظيرتها الأمريكية، فأمريكا تقدم نظام دفاعها الجوي «باتريوت» على أنه الأفضل عالميا، برغم سوابق إخفاقه بالدفاع عن بلدان خليجية، وتقدم طائرتها المسيّرة الانتحارية «سويتش بليد» على أنها الأخطر، فيما تفاخر روسيا بطائرتها المناظرة «لانسيت»، وبنظم دفاعها الجوي الشهيرة «إس ـ 300» و»إس ـ 400» و»إس ـ 500»، وتنفرد روسيا بتقدم ظاهر في الصواريخ النووية وغيرها، من «اسكندر» و»كينجال» إلى «بوسيدون» و»سارمات» الأسرع من الصوت بعشرات المرات، وقد بدت أوكرانيا وحربها الجارية كحقل تجارب مثير للانتباه، بسبب الطابع العالمي، الذي كانت عليه الحرب منذ بدأت قبل 15 شهرا، وتطورت مع امتداد زمنها إلى حرب عالمية «مسقوفة» إن جاز التعبير، ومقيدة حتى اليوم بحدين ظاهرين، مقيدة جغرافيا بالحدود الأوكرانية، ومقيدة باستخدام الأسلحة تحت النووية، فلا أحد يريد الدخول في صدام نووي شامل يفنى معه الجميع.
وفيما عدا حظر التورط النووي، فلا توجد خطوط حمراء من أي نوع، والأهداف معلنة جهيرة، والغرب يريد بلا تردد هزيمة روسيا في أوكرانيا، وتفكيك روسيا نفسها إن أمكن، وجمع إمكانات خمسين دولة للحرب على روسيا، فيما عرف ويعرف باسم صيغة «رامشتاين»، والأخيرة أكبر قواعد أمريكا العسكرية في ألمانيا، وهي المقر المفضل لاجتماعات القادة العسكريين من الخمسين دولة، التي تشمل بالطبع كل أعضاء حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وإلى جوارهم دول الهوى الغربي في شرق آسيا، من استراليا ونيوزيلندا إلى كوريا الجنوبية واليابان، ومعهم طرف عربي للأسف، وكل هؤلاء قدموا ويقدمون مئات مليارات الدولارات إلى سلطة «كييف»، فقد أصبحت أوكرانيا عسكريا واقتصاديا ومعيشيا في كفالة الغرب الأمريكي والأوروبي بالكامل، من الغذاء والدواء والرواتب والمعاشات إلى كافة أنواع السلاح الأكثر تطورا، والرئيس الأوكراني الصهيوني فلوديمير زيلينسكي يفهم ذلك جيدا، ولا يبالى بما يحدث أحيانا من امتناع تبديه دولة من حلف الخمسين. وكلنا يذكر ما أبدته واشنطن من تمنع فى تزويد الجيش الأوكراني بدبابات «إبرامز»، وما أبدته دول أوروبية كألمانيا من تمنع عن إرسال دبابات «ليوبارد»، ثم تبدد التمنع تباعا، وجرى إرسال مئات الدبابات، قبلها جرى جدال علني حول إرسال نظم دفاع جوي متطورة، وإلى أن أرسلت كل النظم من «أيريس تي» الألماني و»ناسامز» إلى «باتريوت» الأمريكية، وبعدها طلب زيلينسكي تزويده بصواريخ هجومية بعيدة المدى، وبدا أن واشنطن تتحفظ في العلن، لكنها سمحت لبريطانيا بإرسال صواريخ «ستورم شادو»، وبمدياتها المتراوحة من 300 كيلومتر إلى 700 كيلومتر، وتعهدت فرنسا بتقديم صواريخها المماثلة في جولة زيلينسكي الأوروبية الأخيرة، إضافة لاختراق الخط الأحمر الأخير، مع تعهدات بريطانيا الأخيرة بإرسال الطائرات المقاتلة من طراز «تايفون».
ولن يعجب أحد لو وافقت أمريكا على إرسال طائرات «أف ـ 16»، التي يلح عليها الرئيس الأوكراني ويعتبرها ضرورية لشن ما يعرف باسم الهجوم الأوكراني المضاد، ففي أوكرانيا اليوم 600 نوع من الأسلحة الغربية المتطورة، والحملة جارية لتزويد الجيش الأوكراني بمليون قذيفة في الشهور المقبلة، وواشنطن تخوض حرب ابتزاز لدول كثيرة من خارج تحالف الخمسين، وتريدها أن ترسل دباباتها وطائراتها ومخزونات قذائفها إلى ميدان الحرب، ولم يعد أحد يخفي حقائق المشاركة الفعلية بالحرب الجارية من وراء القناع الأوكراني، بالخدمات اللحظية المباشرة لمئات من الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية الغربية، وبتجنيد كل أجهزة المخابرات لخدمة عمليات الميدان حتى في قلب العمق الروسي، وبمئات الخبراء والمستشارين والمخططين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين والبولنديين وغيرهم العاملين من «كييف» نفسها، وبآلاف مؤلفة من المحاربين والجنود السابقين في الفيالق الأجنبية، وكل ذلك تواجهه روسيا وحدها تقريبا، ومن دون أن تتراجع موسكو عن شيء حققته عمليتها العسكرية بشرق وجنوب أوكرانيا، ولا عن قرارها باستكمال الضم الفعلي للمقاطعات الأربع (دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزاباروجيا)، وجعل خط الحدود الجديد عند المانع المائي الطبيعي «نهر دنيبرو»، الذي يقسم أوكرانيا طوليا، والاستمرار في تحطيم ونزع كل السلاح في أوكرانيا، برغم 10 ألف عقوبة جرى فرضها على الاقتصاد الروسي، ومن دون أن تنجح في تحطيمه كما أملت واشنطن، ولا في عزل روسيا، التي صنعت عالما جديدا تتحرك فيه بأريحية بعيدا عن الغرب، وتواصل حملتها العسكرية بصبر وتمهل، وأعدت نفسها لنزيف قد يمتد لسنوات، وتستبق «الهجوم الأوكراني المضاد» بحملة جوية وصاروخية مدروسة، في عملية أقرب إلى نزع الأنياب، وجعل مهمة استيعاب الهجوم المنتظر أسهل، وتفريغ قوة اندفاعه، إضافة لتحصينات وخنادق وخطوط دفاع، بناها الروس وطوروها عبر شهور هدوء مضت، قد تمكنهم من صد الهجوم بأقل خسائر ممكنة، والرد بهجوم معاكس، قد يهدف أولا للتقدم من «باخموت» إلى «كراماتورسك» و»سلافيانسك»، أهم مدينتين ظلتا بيد أوكرانيا فى إقليم «الدونباس»، وربما التفكير في الانتقال الحربى لدوائر أوسع، قد يكون بينها التقدم عبر مقاطعة «ميكولاييف» إلى ميناء «أوديسا» على البحر الأسود، وهو ما قد يوحي به تخفيض روسيا لمدى اتفاق الحبوب إلى شهرين فقط.
وفي حسابات روسيا على ما يبدو، أن الهجوم الأوكراني الذي تتلكأ مواعيده، قد يكون فرصة أوكرانيا والغرب الأخيرة، فلم يتبق في رصيد دعم واشنطن المالي لحرب أوكرانيا، سوى نحو ستة مليارات دولار، ولا ينوي الرئيس الأمريكي جو بايدن، كما أعلن أخيرا، أن يطلب اعتمادات إضافية بالخصوص حتى سبتمبر/ايلول المقبل، والمعروف أن منظومة «باتريوت» الواحدة تكلف نحو مليار دولار، وواشنطن مع حلفائها عبر المحيطين الأطلسي والهادي، يريدون من «كييف» أن تظهر لهم كرامة، والتعجيل بشن هجوم الفرصة الأخيرة، وقد استنزفوا كل ما يملكون من أجله، ومن دون أمل كبير في تحقيق أهدافه المعلنة رسميا، أي إجبار روسيا على الانسحاب، وترك نحو 120 ألف كيلومتر مربع آلت إليها من أراضي أوكرانيا، بما فيها «شبه جزيرة القرم» ذات القداسة الاستراتيجية عند الروس، وقد سبق للجنرال مارك ميلي قائد أركان الجيوش الأمريكية، أن وصف علنا هدف الهجوم الموعود بأنه مستحيل التحقق عمليا، وهو ما قد يعني بوضوح، أن هزيمة الغرب في حرب أوكرانيا باتت أقرب.