رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي
مايو 11, 2023
الحلقة الثامنة: نظرة تحليلية … مأزق الأيدولوجيا وامتحان السلطة 5 / 8
قومية الحزب وقضية الإسلام
إننا نعتقد أن الموقف من الإسلام: دينا، وحضارة، وأثرا اجتماعيا، يدخل في صميم المسألة القومية، فما دامت المسألة القومية قضية شعب، وأمة، وما دام الإسلام منغرسا حتى العظم في جسد هذه الأمة، فإن الموقف منه مؤشر جيد ليس فقط في الحكم على مدى وعي هذا الحزب أو ذاك لتاريخ الأمة، وواقعها، وإنما أيضا مؤشر جيد في الحكم على مدى إمكانية هذا الحزب أو ذاك في التأثير على الجماهير وقيادتها.
يصف الأستاذ شبلي العيسمي حرص حزب البعث على أن يتميز عن الأحزاب التقليدية حين أراد * “أن تكون عقيدته، علمية ثورية، وعلمانية عصري، مع عدم التنكر للقيم الروحية المرتبطة بتاريخ الأمة العربية وتراثها الحضاري”.
وهذه الصيغة التي يخرج بها الأستاذ العيسمي في وصف العلاقة بين البعث والقيم الدينية للمجتمع ” الاسلام”، صيغة تعبر بدقة عن حالة القلق والتردد التي تحكم هذه العلاقة، إذ في حين أن الحزب علماني صريح، فإنه يدعو إلى عدم التنكر للقيم الروحية، أي أنه في طرف العلمانية إيجابي، وفي طرف القيم الروحية سكوني.
وعلمانية الحزب مسألة واضحة ومحسوسة، وهي علمانية لا تحمل أية علاقة تفاعل إيجابي مع الإسلام، وتحاول أن تتجنب العلاقات السلبية، ولأن في مثل هذا الموقف تناقضا واضحا، إذ يمكن الدوران حوله نظريا، فإن ذلك مستحيل من الناحية العلمية، لذلك فإن المسار العملي للحزب كان باستمرار التصادم مع الروح الإسلامية في سوريا، وإسقاط هذه الروح من كافة العلاقات التي كان الحزب ينشئها سواء مع الجماهير، أو في تحالفاته الخارجية.
وتميزت علمانية البعث بعدد من الخصائص، جعلتها تظهر وكأنها خارج إطار المفهوم الشائع لعلمانية الغرب، بل ونقيض لها.
وإذا كان لنا من تعليق على هذا التمييز عن علمانية الغرب، فإننا نراه في اختلاف البيئة والزمن، ويدعم هذه الرؤية أن هذا التميز لم يكن خاصا بالبعث، وإنما شمل الكثير من دعاة العلمانية سواء منهم القوميون، أو غير القوميين في تلك الفترة التي كشف فيها البعث عن مفهومه، ونستطيع أن نوجز مميزات علمانية الحزب بنقاط محددة من أهمها”:
1ـ طابق البعث بين الأمة، وروح الإسلام، من منظور كون الإثنين حركة روحية عميقة، لا يمكن أن تقاس بأي مقياس مادي، وباعتبارهما حركة خالدة ومستمرة، لا تخبو في فترة من الفترات حتى تنبعث من داخلها حركة التجديد والنهضة.
2ـ ورأى البعث مقدار التداخل بين الثقافة العربية، وحركة الإسلام الثقافية والحضارية، وإذ أرجع ذلك إلى كونهما صادرين من منبع واحد ” الروح”، فإنه اعتبرهما معبرين عن حقيقة واحدة هي: الحقيقة العربية.
3 ـ وكما جاءت رسالة الإسلام لتنهض بالعرب، وتدفع بهم لبناء حضارتهم، فكذلك حركة البعث، قد جاءت لتعيد لهذه الأمة دورها، ولتدفعها لممارسة ” رسالتها الخالدة”.
هذه الميزات، وتفاصيلها وما يتفرع عنها، وتجلياتها، حددها وشرحها فيلسوف البعث ومؤسسه، ميشيل عفلق في أحاديث مبكرة، لعل أهمها حديث ألقاه على مدرج الجامعة السورية يوم 5 نيسان / ابريل 1943، تحت عنوان ” ذكرى الرسول العربي”، ومما يلفت الانتباه أن هذه الأحاديث المبكرة التي جاءت في مرحلة سابقة حتى على التأسيس الرسمي للحزب، بقيت باستمرار هي زاد الحزبيين في المسألة الدينية، وموضع اعتزازهم وفخرهم.
ورغم أن فكر الحزبيين قد طرأ عليه الكثير من التغيير والمراجعة في مسألة الوحدة والقومية، حيث صار إلى التشدد على العامل الاجتماعي ـ الطبقي، وفي مسألة الديموقراطية حيث هجر ما دعي بالأثر الليبرالي في فكره، وتبنى موضوعة ” الديموقراطية الشعبية”، وفي المسألة الاشتراكية حين أصبح أقرب إلى النهج الماركسي، وجاءت كل هذه التطورات وهو يقوم بعملية الانفراد بالسلطة وممارستها، فإنه في مسألة الإسلام والدين لم يتقدم قيد أنملة، ولم تكشف عملية “تقدمه” في المفاهيم الأخرى إلا عن تراجع مستمر في النظر إلى الإسلام، وفي التعامل معه، ويستطيع المتابع أن يعود تفصيليا إلى اسهامات الأستاذ عفلق في هذا الجانب. لكن ما يهمنا هنا أن نجري قراءة عامة لهذه الاسهامات، لنرى زاوية التعامل الفكري للبعث مع هذه القضية المحورية:
1 ـ لقد جعل البعث الإسلام مظهرا من مظاهر الانبعاث القومي، وجزءا منيرا من تاريخ هذا الانبعاث، ومن هذه الزاوية فإن البعث يقف أمام هذا الجزء موقف إجلال وتقدير، ولكن من خلال هذه الزاوية تحديدا، ونستطيع أن نمسك هذا الموقف بثقة حينما نتابع معنى الرسالة الخالدة كما يشرحها الأستاذ عفلق حين يقول*:
* ميشيل عفلق: في سبيل البعث، ص 98 ـ 99، ط20 دار الطليعة ـ 1978 بيروت
” أما الرسالة الخالدة فالقصد منها أن هذه الأمة لا تعترف بواقعها السيء، وموقفها المنفعل، ولا تتنازل عن مرتبتها الأصيلة بين الأمم، بل تصر على أنها هي، هي، في جوهرها، تلك الأمة التي بلغت في أزمان متعددة من التاريخ درجة تبليغ رسالتها، فهي إذن بصلتها ببعضها، وبماضيها، لاتزال واحدة، ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتا، فهذه الأمة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست بنت اليوم، بل هي، هي قبل ألف أو قبل ألوف السنين، ميزتها وحدة الأصل والعنصر يوم كانت الوحدة هي الرابطة المكينة التي تجمع أفرادها، وتطبعهم بطابع واحد، وتخلق فيهم نواة واحدة، ثم صقلتها وغذتها وحدة اللغة والروح والتاريخ والثقافة، ولما فقد هذا العنصر مكانه الرئيسي بين العومل المكونة للأمم ، فقدت الأمة شيئا من تجانسها الضيق غير أنها عوضت عنه بتنوع المواهب، والكفاءات، وانطلاق الفكر، وتسامي المعنى الإنساني، فهذه الأمة التي أفصحت عن نفسها، وعن شعورها بالحياة إفصاحا متعدد الجوانب، متنوعا، في تشريع حامورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد، وثقافة المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان، ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف”. وفي حديثه المشهور عن الرسول العربي يقول عفلق*:
” إن حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم، ليست بالنسبة إلى العرب حادثا طارئا فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالأسباب والنتائج، بل إنها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطا مباشرا بحياة العرب المطلقة، أي أنها صورة صادقة ورمز خالد كامل لطبيعة النفس العربية، وممكناتها الفنية، واتجاهها الأصيل، فيصبح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوما في روحها”.
إن فكر البعث هنا لم يهمل الإسلام، بل تعاطى معه إيجابيا، لكن هذا التعاطي جاء قاصرا، وجاء موقوفا، فهو من جهة تعاطى مع ما يمكن أن ندعوه” الاسلاك العربي”، أي الإسلام في نطاق حضارة الأمة العربية، ثم هو لم يستطع أن يرى موجبات هذا “الإسلام العربي” في واقع الحياة، ولعله كان كثير الانسجام مع النفس حين وقف بنظرته إلى الإسلام عند هذه الحدود، ذلك أن ” الإسلام العربي”، ليس له من أثر في الحياة المعاصرة، أكثر نوعيا من أثر الشعر الجاهلي، أو الحضارة الغنية جدا التي بنتها الدولة العربية الإسلامية في عصور الازدهار.
2 ـ ولقد وقف فيلسوف البعث كثيرا على حياة الرسول العربي، فرأى فيها تكثيفا، وخلاصة لحياة العرب، وعني بأسلوب أدبي عاطفي بمسار الدعوة الإسلامية، وكيف أنها وهي التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها، كما فعلت ذلك إلا بعد أن فتحت نفس وروح معتنقيها، ورجالها الأوائل، وحين حققت ذلك كانت أهلا لتحقيق كل انتصاراتها التالية: ** ” فقبل أن يفتح العرب الأرض، فتحوا أنفسهم وسبروا أغوارها، وخبروا دخائلها، وقبل أن يحكموا الأمم حكموا أنفسهم، وسيطروا على شهواتهم، وملكوا إرادتهم”. ولعله من هذا الاهتمام كان ينبغي تسليط الضوء على ” تكتيك الإسلام وانتشاره”، وذلك من اجل تطبيقه على حركة البعث وانتشاره.
*،** عفلق: المرجع السابق ص124
قلة من الرجال متحلقون حول الرسول العربي، يواجهون مجتمعا تسيطر عليه القيم المتخلفة، حتى كأنهم جزيرة صغيرة ومضيئة في بحر مظلم، ويثبت هؤلاء الرجال بعد أن يكونوا قد نزعوا كل أثر للظلام من أنفسهم، وينطلقوا حثيثا في قلب المجتمع، بالصبر، والدعوة، والمعارك، حتى يفتحوا في نهاية المطاف آفاق العالم، ويقدموا للإنسانية فجرها الجديد، وهكذا هي ـ كما يرى المؤسس ـ حركة البعث، يقول عفلق*:
وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية، تستسقي من منابعه فضائل الإيمان، والمثالية، والتجرد عن المنافع الشخصية، والمغريات الدنيوية، في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم، وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي.
والبعث العربي أخذ من حركة الاسم الخالدة قوة الصبر، والمقاومة لتيار الواقع المريض، ويجد فيها قدوة رائعة تحتذى في الغيرة الصادقة على مصلحة الأمة، وفي معالجة أماضها بجرأة وصدق، دون تملق رخيص للعواطف السطحية، ودون استناد إلى قوى الجهل والحقد، وعبودية النفس والفكر، وهو مؤمن بأن هذا الأسلوب المنسجم مع سمو المبادئ التي ينادي بها هو الأسلوب الذي يكتب له النجاح آخر الأمر، كما كان ذلك في الماضي، وكما سيكون دوما”.
3ـ وفي نظرته إلى حركة الإسلام، وفاعليته في الحياة، كان مثاليا صرفا، وهو في هذا يتوافق مع نظرته إلى القضية القومية، والأصح أن نقول إن منهجه المثالي ـ الذاتي في فهم وتحليل القضية جره بالضرورة إلى نظرة مثالية لقضية الإسلام.
لقد رأى أن القومية العربية **:” ليست نظرية، ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر، بل هي مرضعته، وليست مستعبدة الفن، بل منبعه وروحه، وليس بين الحرية وبينها تضاد، لأنها الحرية إذا ما انطلقت في سيرها الطبيعي، وتحققت ملء ارادتها”….. ويؤكد أنه *** “لا خوف من أن تصطدم القومية بالدين، فهي مثله تنبع من معين القلب، وتصدر عن إرادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة إذا كان الدين يمثل عبقرية القومية، وينسجم مع طبيعتها”.
* عفلق: المرجع السابق ص 166
** عفلق: المرجع السابق ص 119
*** عفلق: المرجع السابق ص 112
ويعلق الدكتور الدندشلي على هذه النظرة للقومية لدى البعث فيقول *:
” يضفي عفلق إذن على القومية العربية قيمة مطلقة نابعة من ذاتها، وقوة لا يحددها قياس، إنها ذلك الشعور النفسي الصوفي العميق الذي يربط الانسان بأمته، وتلك القومة الغريبة التي تجذب المرء وتأسره بآن”. هذه النظرة المثالية للقومية عكست نفسها بالضرورة على نظرته للإسلام وتاريخه، فهم لم ير في موقف المشركين من دعوة الإسلام غير موقف “روحي ـ ديني”، ومما هو جدير بالذكر أننا نادرا ما نجد عند مفكر ما، مثل هذه النظرة، وإن التمعن لو بالحد ألأدنى في آيات القرآن الكريم، وفي كتب السيرة والتاريخ، يظهر لنا عكس ذلك تماما، بل ويظهر حتى احتقار الجاهليين لدياناتهم، وآلهتهم، ويكشف الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للتمسك بها، ولولا هذه الدواعي ما استطاعوا أن يقاوموا الإسلام كل تلك الفترة.
في تعرضه لواقعة صلح الحديبية يكشف عن منهجه المثالي، ويتحكم فيه هذا المنهج حتى لا يستطيع أن يغادره قيد أنملة، يقول عفلق **:” ومهما قيل في تدخل العوامل السياسية والاقتصادية في مناهضة قريش للإسلام، يبقى العامل الرئيسي عاملا دينيا، أي فكريا، وإن الآخذين اليوم بالطريقة المشوهة في تعليل الدين تعليلا ماديا ليخالفوا واقع التاريخ والنفس الإنسانية من جهة، ويطعنون العرب من جهة أخرى في أثمن مميزاتهم: في مثاليتهم، فقد رأينا قريشا عندما اضطرتها مصالحها المادية أن تهادن الرسول في صلح الحديبية، تصر أن تنكر عليه وحيه ودينه الجديد”.
4ـ ومما هو جدير بالانتباه أن البعث قد لاحظ بشكل مبكر حقيقة استخدام القوى الرجعية للدين، ومحاولة جعله سرحا في يديها، وإدراكها أهمية هذا السلاح وفاعليته، فأشار إلى الفارق بين طبيعة الدين وجوهره، وبين استخدامات القوى الاجتماعية له، وأعلن محارته للاستخدام الرجعي للدين، وقارب بشكل يثير الانتباه الحقيقة الاجتماعية للدين الإسلامي، إلا أنه نتيجة المنهج المثالي الذي التزمه، لم يستطع أن يعكس مفهوما إيجابيا للدين في واقع المجتمع وحياته، وللدين الإسلامي على وجه التحديد في واقع المجتمع العربي، وفي تطوره واحتياجاته.
ويبدو أن المقاربة الملفتة للانتباه قد انجذب في حمأة الصراع بين التيار الديني التقليدي الذي عبرت عنه حركة الاخوان المسلمين، مع تيار الالحاد الذي عبر عنه الحزب الشيوعي، ومن الأمر المسلم بها أن أكثر الأفكار الإنسانية نضوجا هي تلك التي تأتي في خضم الصراعات.
* د. مصطفى الدندشلي: مرجع سابق ص82
** عفلق: المرجع السابق ص82
ودائما فإننا نجد أكثر الأفكار وضوحا في هذا الجانب ” الإسلام” عند فيلسوف الحزب ميشيل عفلق، بل لا نكاد نرى شيئا آخر عند غيره، ففي مواجهة الماركسية ينتقد إلحادها، وإن كان يعطي لنفسه الحق في تفسير دواعي هذا الالحاد، ويأتي هذا الحق وما يخرج به من زوايا نقد نتيجة منهجه* ” فالماركسية تقوم على نفي وانكار كل معتقد يتجاوز الطبيعة والمادة والأشياء المحسوسة كما هو معروف، وليس هذا في الماركسية نتيجة عجز عن الفهم، كلا، بل له دافع عملي آخر وهو: ما دام الدين قد استخدم لإبقاء الاستغلال خلال التاريخ،… واستخدم لمنع التحرر البشري، وكان في صف التأخر والعبودية والظلم، لذلك رأت الماركسية أن تنسفه نسفا، فالدافع إذن عملي، وليس عجزا عن فهم أهمية الدين وحقيقته، ولكننا نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، إذ ينبئ عن ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة كاملة”.
وفي مواجهة القوى الدينية الرجعية يرى** ” أن الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الاجتماعية معسكرا واحدا، يدافع عن مصالح واحدة، وأنها أكبر خطر يهدد الدين، إن هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا، وتتاجر به، وتستغله، وتحارب كل تحرر باسمه… هي أكبر خطر على الدين”.
أما دور الحزب في المسألة الدينية فيحدده عفلق حينما يحدد مواصفات عضو حزب البعث في هذه الزاوية فيقول***:”فالمناضل البعثي يجب أن تتوفر فيه شروط صعبة جدا، وتكاد تكون متناقضة، فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين، والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة الدين، وحقيقة النفس الإنسانية التي يجب ان تكون قائمة على الايمان لا تطيق الإنكار والجحود”…..
كيف يعكس ” المناضل البعثي” إيمانه” العميق، الثوري” بالدين، وبالإسلام على وجه التحديد، على مثل هذا السؤال لا نجد أي إجابة شافية، إنه يشير إلى وجود فكر ديني رجعي، أما الفكر الديني التقدم فإن هناك صمتا مطبقا تجاهه.
في إطار النظرة إلى الدين كتراث، وتاريخ، نجد أمامنا دعوة إلى الاهتمام والعناية بهذا التاريخ، ولكن في إطار الدين: كحياة ومؤثر اجتماعي، فإن السؤال يبقى عند مؤسس الحزب، وعند الحزب كله دون إجابة، وهنا تظهر علمانية البعث، واستنادا إلى هذه الحقيقة فقد طرحنا رؤية الحزب للإسلام في إطار نظرته القومية، لأنه خارج هذه الإطار فإن الحزب لا يملك أي رؤية لقضية الدين والإسلام.
* المرجع السابق ص 213
** المرجع السابق ص 218
*** المرجع السابق ص 216
رغم إيجابيات، وسلبيات نظرة ميشيل عفلق إلى الدين، فإن الحقيقة التي يجب أن تذكر أن الرجل مثل قمة نظرة حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الإسلام، ولم يضف عليه أحد من البعثيين ” مفكرين، وسياسيين” أي إضافة ذات قيمة، بل كان جل اهتمامهم تكرار نظرة المؤسس، والتأكيد عليها في كل مرة يلبي فيها هذا التأكيد حاجة اجتماعية أو سياسية.
وللحقيقة أيضا فإن تاريخ حزب البعث منذ قرار حله في عهد الوحدة، وحتى الفترة الراهنة لا يحتوي في إطار الممارسة حتى ولا محاولة اقتراب من هذه النظرة التي بسطها المؤسس. واتجاه التطوير ضمن فكر الحزبيين، وهو الاتجاه الذي عبرت عنه وثائق مؤتمرات الحزب، ونشراته، جاءت لتقفز على هذا التفكير ولتتناساه، ثم جاءت لتؤكد هذا القفز عبر المصادمات تلتي وقعت بين الحزب، وبين غالبية الجماهير منذ بدايات استلام البعث للسلطة، وكان الدين عاملا هاما في تأجيج هذا الصراع، وكانت السلطة مستهترة بهذا العامل استهتارا مشينا.
5 ـ لقد وقفنا حتى الآن على جوانب من النظرة القومية للحزب، أما خارج نطاق النظرة القومية، فإن كافة الشعارات الأخرى لم تمثل في فكر الحزب أكثر من شعارات عامة، وكان نصيبها في البحث والتأصيل أقل مما يذكر.
ولم يلتفت الحزب إليها إلا بعد أن أصبح في السلطة ـ وقد مزقته صراعاتها ـ وبالتالي صار مدفوعا بحكم حركة الواقع إلى الإجابة على الإشكالات، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية المطروحة.
وقد أعفانا الأستاذ صلاح البيطار من بذل أي جهد لتبيان مدى فقر الحزب في هذا الجانب حين وصف الحزب فكريا حتى تاريخ حله بقوله*:” لم يهتم الحزب بحاجة الأعضاء إلى الإجابة على القضايا الكبرى في النظرية قبل التطبيق، مثلا: الثورة، الدولة، الحزب، الديموقراطية داخل الحزب، وداخل المجتمع، تعدد الأحزاب، الدين، الإسلام، الإصلاح الزراعي، التأميم، كما لم يكن هناك برنامج مرحلي لتطبيق هذه النظريات، وكان لذلك تأثير على تخلخل التنظيم داخليا، وضعف علاقة الحزب بالجماهير”.
ولأن هذا التوصيف دقيق وحقيق، ولأن إعادة تكوين الحزب جاءت في حمى الصراع مع عبد الناصر، والناصريين، أي مع غالبية الجماهير، وكانت تستهدف الانفراد بالسلطة، وقطع احتمالات الوحدة مع عبد الناصر، فإن طافة المفاهيم، والتطبيقات لتلك القضايا الكبرى في النظرية، جاءت في إطار المزايدة على عبد الناصر، وفي
* صلاح الدين البيطار ـ ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة مرجع سابق ص 366
واقع العزلة داخليا، فأعطت من الثمار أسوأها، وفتحت الباب واسعا ليس لولادة ونمو طبقة طفيلية ماليا، إقليمية توجها، وإنما أيضا لاستنبات كل الأمراض الكامنة في المجتمع، من عشائرية، وطائفية، وهو واقع يمكن رؤيته بوضوح من خلال نظرة ولو سريعة وسطحية إلى الوضع الراهن.