رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي
مايو 20, 2023
الحلقة الثالثة: الحزب الشيوعي السوري في مرحلة التماسك 2/ 3
قضايا رئيسية في مسيرة الحزب
قبل متابعة مسيرة الأحزاب الشيوعية التي ولدت عن هذا انقسام المؤتمر الثالث وما تلاه، لابد أن نقف عند مسائل حيوية تعرض لها الحزب الشيوعي خلال مسيرته الطويلة، وتتمثل هذه المسائل بموقف الحزب من:
- قضية الاستقلال 1925 ـ 1946.
- قضية سلخ لواء الاسكندرونة 1936 ـ 1939.
- الوحدة السورية ـ المصرية، ونكسة الانفصال 1958 ـ 1961.
أولا: موقف الحزب الشيوعي من قضية الاستقلال وجلاء المحتل.
عندما تأسست الخلايا الأولى للحزب الشيوعي السوري كانت سوريا تخضع للاحتلال الفرنسي الذي وضع يده على سوريا ولبنان تنفيذا لاتفاقية ” سايكس ـ بيكو” المعقودة بين فرنسا وبريطانيا لاقتسام المناطق العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية.
وجاء احتلال فرنسا لسوريا عام 1920 في مواجهة موجة شعبية تدعو إلى الاستقلال والى الوحدة العربية، (ومثلت معركة ميسلون ” 24 / 7 / 1920″، التي استشهد فيها وزير الدفاع في الحكومة الفيصلية يوسف العظمة الافتتاحية الوطنية لهذه المرحلة)، وشهدت البلاد موجة مقاومة عنيفة تمثلت بانتفاضات عديدة شملت جميع المناطق، وشاركت فيها معظم فئات الشعب وطبقاته.
فكان لابد للحزب الذي ولد بعد الاحتلال الفرنسي لسوريا بخمسة أعوام والذي يطرح نفسه ممثلا لأفقر الطبقات الشعبية من تبني شعار الاستقلال ومحاربة الاستعمار باعتباره أعلى اشكال الاستغلال، وأكثرها بشاعة، خاصة إذا كان مثل هذا الحزب يعتبر نفسه جزءا من أممية ثورية تقدم نفسها النقيض للرأسمالية الغربية التي تقف وراء الاستعمار.
هذا الموقف ينطبق تماما مع تعليمات الأممية الشيوعية، ومع مقررات مؤتمر باكو، الذي أخذ على عاتقه نشر المبادئ الشيوعية في دول الشرق كجزء من المعركة الشمولية لدحر الرأسمالية، وإقامة النظام الاشتراكي العالمي.
وعلى أرض الواقع كانت كل بيانات الحزب الشيوعي ومقالات قياداته تتضمن هجوما لاذعا على الاستعمار، وتدعو للكفاح في سبيل الاستقلال، وعندما قامت الثورة السورية الكبرى، أي بعد أشهر قليلة من تكوين الحزب الشيوعي، أعلن الحزب تأييده المطلق لها، وندد بتصرفات قوات الاحتلال، وطالب الجنود الفرنسيين أبناء الطبقات الشعبية بعدم إطاعة أوامر قادتهم بضرب الفقراء السوريين الثائرين على قوات الاستغلال العالمية.
وبسبب موقفه هذا تعرض الحزب لحملة اعتقالات عنيفة طالت معظم عناصره القيادية، وشردت كوادره، ونفيت قياداته خارج البلاد.
لكن هذا الموقف بدأ بالتراخي بعد القرار الذي اتخذته الأممية الشيوعية في مؤتمرها المنعقد في العام 1928، والذي ركز على أولوية عزل البرجوازية لاستلام زمام المبادرة في قيادة الجماهير، واتجهت السياسة الرسمية للاتحاد السوفياتي لمغازلة الدول الغربية في مواجهة خطر الفاشية الجديد القادم من المانيا النازية، ورغم أن شعارات الاستقلال ومعاداة الانتداب لم تتغير إلا أنها لم تعد تأخذ ذات الإيقاع والحماسة، بل إن معظم مواقف الحزب كانت ضد القوى الوطنية العاملة في سوريا.
إن الانعطاف الحاسم لم يبدأ ـ كما قلنا ـ إلا بتاريخ لاحق، وبالتحديد في العام 1936 عندما تسلم تحالف الجبهة الشعبية السلطة في فرنسا بعد تمكنه من الحصول على الأغلبية في مجلس النواب الفرنسي الجديد.
ويومها اتخذت الأممية الشيوعية قرارا بدعم هذه الجبهة الشعبية دعما مطلقا، وكان معنى هذا القرار أن تهادن الأحزاب الشيوعية في المستعمرات سلطات الاحتلال التي أصبحت خاضعة لحكومة جبهة الوحدة الشعبية، وأن تبرر مواقفها وسلوكها.
ورغم أن سياسة الحزب الشيوعي الفرنسي كانت متميزة عن شركائه في التحالف تجاه المستعمرات، إلا أنه كان مضطرا لمسايرة شركائه في سبيل تحقيق البرنامج المشترك، وكان مطلوبا من الحزب الشيوعي السوري عدم إحراج الشيوعيين الفرنسيين مع زملائهم في التحالف، واستبعاد طرح شعار الاستقلال التام، والتنسيق مع موظفي الانتداب المنتمين إلى أحزاب الجبهة الشعبية.
وكل ما استطاعت حكومة الجبهة الشعبية أن تقدمه للقوى الوطنية في سوريا هو مشروع معاهدة جديدة تتضمن وعدا بإنهاء الانتداب مقابل قيود وشروط معينة، أما أهم بنود المعاهدة فهي:
- الاعتراف بسيادة سوريا وإقامة تحالف بينها وبين فرنسا على أسس الندية.
- ضرورة التشاور في أمور السياسة الخارجية التي تهم البلدين.
- تنظيم تحالف دفاعي مشترك بين فرنسا وسوريا يتضمن منح تسهيلات للقوات الفرنسية ضمن الأراضي السورية.
- وحدد الملحق العسكري للمعاهدة عدد القوات السورية بفرقة مشاة، ولواء خيالة، وحدد مواقع القواعد العسكرية الفرنسية في سوريا عددها، وجلاء بقية القوات.
وحددت فترة ثلاث سنوات كمرحلة تمهيدية لتنفيذ المعاهدة.
ولعب الحزب الشيوعي السوري بالتنسيق مع الحزب الشيوعي الفرنسي دورا هاما في تحقيق هذه المعاهدة، حيث ترأس خالد بكداش وفدا سافر إلى فرنسا للتمهيد لها، كما اتخذ رفيق رضا عضو المكتب السياسي مقرا في مكاتب الحزب الشيوعي الفرنسي طوال مرحلة المفاوضات، وضغط على أطراف الكتلة الوطنية المفاوضة بأن ما حصلوا عليه هو أقصى ما يمكن للجانب الفرنسي أن يمنحه.
ويتحدث رفيق رضا عن هذه المرحلة قائلا: “استدعتني قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي وطلبت مني أن أصارح قيادة الحزب الشيوعي السوري بوجوب الدعوة إلى قبول المعاهدة المذكورة، وحث المفاوضين السوريين على التساهل لأن الحزب الشيوعي الفرنسي لا يريد أن يحرج موقف الحكومة الفرنسية … وقد كتبت إلى قيادة الحزب في سوريا ولبنان منوها برأي قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي هذا، وبالفعل قامت قيادة الحزب في سوريا باتصالات واسعة مع المسؤولين السوريين، وطلبت منهم التساهل، وقبول المعاهدة، كما عرضها الجانب الفرنسي مع شيء من التعديل، هذا وقد رافق كل ذلك تبديل في موقف جريدة ” صوت الشعب” لسان حال الحزب الشيوعي في بيروت التي أخذت تدعو المفاوضين السوريين إلى تقدير الظرف الدولي، والتقرب من الجانب الفرنسي”.
وانتشرت خطوط هذه السياسة على ألسنة جمهور أعضاء الحزب في سوريا ولبنان، وجاءت أقوال العديد من قادة الحزب الآخرين تدعم هذا الاتجاه… ففي خطاب لخالد بكداش بتاريخ 22 / 1 / 1937 ألقاه في مدينة حلب، قال في معرض تأييده للمعاهدة: “إن المعاهدة السورية الإفرنسية، والمعاهدة اللبنانية الإفرنسية وضعتا النصوص والمبادئ، والآن في عهد الانتقال سيجري التمهيد لتطبيق النصوص تطبيقا تاما، بعد ثلاث سنوات حين يزول الانتداب… ومعنى هذا عمليا أنه خلال الثلاث سنوات يجب أن يجري تعاون متين بين حكومتي سوريا ولبنان من جهة، وبينهما وبين ممثلي الانتداب والموظفين الفرنسيين من جهة أخرى لتفسير النصوص وتطبيقها، والتمهيد لزوال الانتداب …. فمن ينكر إذا بأن حسن النية من جانب الموظفين الفرنسيين سيعلب دورا كبيرا، والفرق كبير بين أن يكون في سوريا موظفون فرنسيون ديموقراطيون يساعدون بنزاهة على تنفيذ النصوص، وتسهيل مهمة الحكومة الوطنية، وبين أن يكون في سوريا موظفون فرنسيون فاشيست رجعيون يعملون على عرقلة المهام، وخلق صعوبات جديدة عوضا عن السعي للتغلب على الصعوبات”.
إذاً ساهم الحزب الشيوعي السوري بعقد معاهدة استقلال شكلية، واعتبرها الصيغة المثلى للاستقلال رغم أنها تضع قيودا كبيرة على هذا الاستقلال في سبيل عدم إحراج الحزب الشيوعي الفرنسي، لكن بعد سقوط حكومة الجبهة الشعبية قامت تظاهرات شعبية عامة تطالب بالاستقلال التام، واجهتها قوات الاحتلال بقسوة، وسقط عدد من القتلى والجرحى، وانتقدت الأحزاب الوطنية إجراءات سلطات الانتداب.
وكان الحزب الشيوعي السوري من جملة المنتقدين حين نشر في افتتاحية” صوت الشعب” رسالة إلى المندوب السامي جاء فيها: “نحن نعلم أن كل هذه الأعمال لا تمثل إرادة فرنسا التي تحبنا ونحبها، فرنسا التي عقدت معنا معاهدتين، فرنسا التي أنجبت الجبهة الشعبية..”.
وفي العام 1939 وقبل الإعلان النهائي عن الغاء معاهدة 1936 من قبل السلطات الفرنسية ساد شعور وطني جارف بمعاداة الاستعمار، وانتشرت الميول المؤيدة لألمانيا ضد المستعمرين، وقامت اضطرابات دامية … وبدل من أن يتعامل الحزب الشيوعي مع الحس الوطني الجارف بموضوعية، وأن يعمل على توجيهه بشكل سليم، انتقد هذه الإضرابات بشدة، واتهم الجماهير الثائرة بأنهم مجرد عملاء للفاشست، وفي 17 أيار 1939 أصدرت القيادة المركزية للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بيانا جاء فيه” إننا أبناء سوريا العربية ندرك تماما أن التحالف السوري ـ الفرنسي هو الوسيلة الوحيدة المؤدية إلى حفظ كيان وطننا أمام مطامع الدول الفاشية”.
وكتب خالد بكداش في مقدمة كتابه” طريق الاستقلال”: “فلو نظرنا إلى العالم اليوم في الوقت الحاضر مثلا، لرأينا ـ كما قدمناـ أن الخطر الأساسي على كياننا نحن العرب، مصدره إيطاليا وألمانيا، الفاشستيتان اللتان تعملان للتوسع والاعتداء، وتقومان بهجوم استعماري شديد هدفه الرئيسي الاستيلاء على الشرق الأدنى، والبلاد العربية، سوريا والعراق ومصر وفلسطين بوجه خاص، إن مصلحتنا الوطنية تقتضي بأن نوطد عرى التحالف مع إحدى الدول الديموقراطية الكبرى، وهذه الدولة لا يمكن أن تكون بالنسبة لنا نحن السوريين واللبنانيين إلا فرنسا الديموقراطية”.
في أيلول 1939 دخلت فرنسا وبريطانيا الحرب ضد ألمانيا الفاشية، ووقف الاتحاد السوفياتي خارج النزاع بسبب المعاهدة التي عقدها مع ألمانيا، والتي اقتسمت بموجبها بعض الأراضي المجاورة للاتحاد السوفياتي، وتحولت السياسة السوفياتية إلى معاداة الدول الغربية( فرنسا، وبريطانيا)، وحدد مولوتوف ( وزير الخارجية السوفياتي) في خطابه يوم 31 / 10 / 1941 الموقف السوفياتي من تطورات الحرب العالمية قائلا: “واليوم فيما يتعلق بالقوى الأوربية الكبرى فإن ألمانيا في موقف الدولة التي تكافح للإنهاء العاجل للحرب في سبيل السلام، بينما بريطانيا وفرنسا اللتان كانت بالأمس تهاجمان العدوان تفضلان مواصلة الحرب، وتعارضان إحلال السلام…”.
وكان الحزب الشيوعي السوري قد عبر عن هذا الموقف السوفياتي حين طالب في بيان له صدر في 11 / 10 / 1940باتخاذ موقف محايد من الحرب الرأسمالية، وهاجم الرأسمالية الفرنسية قائلا: “إن الشعب السوري لم ينس، ولن ينس أبدا أن في سوريا استعمارا فرنسا وحشيا يمص دمه، ويسلط عليه سيف إرهابه، ويسلم لقمة خبزه إلى المرتشين والمحتكرين، ويتآمر مع سادته وأتباعه على سلامة كيان الوطن”.
ولكن بعد هجوم الألمان المفاجئ على الأراضي السوفياتية في 22 حزيران 1941، ودخول الاتحاد السوفياتي الحرب الكونية إلى جانب الحلفاء تغيرت مواقف الحزب الشيوعي السوري من سلطات الاحتلال مرة أخرى، وأخذت بيانات التنديد بالفاشية، وتأييد سياسة الحلفاء وحربهم من أجل الديموقراطية والرخاء تتوالى، وتوجت بالكراس الذي أصدره أمين عام الحزب في ذكرى الفاتح من أيار 1944 بعنوان “الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان… سياسته الوطنية وبرنامجه الوطني”، والذي جاء فيه:
“… أجل إن كل تفكيرنا وجهدنا، وكل حيويتنا وكل إخاءنا وتضامننا وشعورنا الوطني ولإنساني والقومي، وكل عاطفة الحب للحرية التي تملأ صدورنا متجهة في يوم الأول من أيار إلى الجيوش الفرنسية والانجليزية والأمريكية… وإلى الجيش الأحمر… فحبنا للشعب الفرنسي لا يمنعنا عن حب الشعب الإنكليزي، وتأييدنا لحركة الجنرال ديغول لا يلهينا عن تأييد الديموقراطية الإنكليزية المرتبطة بأكثر الأقطار العربية، والتي لها فضل كبير جدا في إبعاد خطر الحرب وويلاتها عن بلادنا، والتفاتنا إلى الديموقراطية الإنكليزية لا يمنعنا من تقدير الديموقراطية الأمريكية الكبرى…”.
وفي مقال آخر يقول أمين عام الحزب:” إن المهمة الأولى الموضوعة أمام بلادنا اليوم هي دعم مجهود الحلفاء الحربي في سبيل سحق ألمانيا الهتلرية، فذلك أقرب طريق لإنهاء الحرب”.
ويتحدث خالد بكداش في خطاب له عام 1984 في الذكرى الستين لتأسيس الحزب الشيوعي عن تاريخ الحزب في المسألة الوطنية قائلا: “في إبان هذه المرحلة حاولت الفاشية التغلغل كفكرة وكحركة في العالم العربي، مدعية أنها المنقذ للشعوب المضطهدة، فبادر حزبنا إلى شن نضال واسع سياسي وفكري ضد الفاشية من حيث إنها أشرس وافظع أنواع الاستعمار، ودخلنا في جدالات ونقاشات طويلة من بعض الإخوان القوميين الذين خدعوا بالفاشية لغياب جوهرها عنهم….. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فطلب منا الفرنسيون، طلبوا من حزبنا استنكار معاهدة عدم الاعتداء بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا الهتلرية، لكي يسمحوا لنا بالاستفادة من ” ديموقراطيتهم الفرنسية”، ومتابعة نشاطنا، فرفض حزبنا ذلك رفضا باتا… وبعد العدوان الهتلري على الاتحاد السوفياتي، وبعد خروج رفاقنا من السجون والمعتقلات بدأنا نضالا مريرا مع أصحاب الاتجاهات القومية الضيقة الشوفينية الذين كانوا يشيعون أن انتصار الهتلرية والفاشية سوف ينقذ يلادنا العربية من الاستعمار الفرنسي والإنكليزي”.
لكن هذه السياسة لم تثبت… إذ مع قرب انتهاء الحرب عاد الحزب الشيوعي إلى موقفه الأصلي، ودعا إلى الجلاء التام لقوات الاحتلال عن سوريا ولبنان، ورفع مذكرة بذلك إلى الجامعة العربية، واستمر الخط المعادي للاستعمار متصاعدا في مواقف الحزب الشيوعي السوري منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وقام الحزب الشيوعي بدور هام في التعبئة الوطنية ضد سياسة الأحلاف بشكل عام، وحلف بغداد بشكل خاص.
ثانيا: موقف الحزب الشيوعي من قضية سلخ لواء الإسكندرونة
إن موقف الحزب الشيوعي السوري من قضية سلخ لواء الاسكندرونة والتنازل عنه لتركيا يرتبط بشكل مباشر مع مواقفه من قضية الجلاء، ومسألة الصراع مع الاستعمار الفرنسي.
فقضية سلخ اللواء ظهرت إبان حكم الجبهة الشعبية 1936 ـ 1939، وكانت سياسة الشيوعيين تقوم على مهادنة سلطات الانتداب، وعدم إغضابها، لكيلا يحرج الحزب الشيوعي الفرنسي أمام شركائه في الحكم، وكان طبيعيا أن يشمل الموقف الشيوعي قضية اللواء باعتبارها محكومة بالاعتبارات نفسها.
ومسألة اللواء تتلخص بأنه إثر قيام الثورة العربية الكبرى ، وتحرير سوريا بمساعدة القوات الإنكليزية، اعتبر اللواء ضمن الأراضي السورية نظرا لكون غالبية سكانه من العرب، حيث أن نسبة العرب إلى مجموع السكان كانت تفوق الثلثين، ولكن سلطات الانتداب الفرنسي التي احتلت سوريا عام 1920 بموجب اتفاقية “سايكس ـ بيكو” وقعت اتفاقية مع الجانب التركي تتضمن الاعتراف بالحقوق الشرعية للأقلية التركية، وبوضع نظام خاص للواء، ومع الاحتلال قررت تقسيم سوريا، وإنشاء خمسة كيانات طائفية أثنية (دولة حلب، دولة دمشق، دولة جبل الدروز، دولة العلويين، لواء الاسكندرونة)، واعتبرت اللواء كيانا ذا طابع خاص.
وأخذت النزعة الاستقلالية لدى الاتراك في اللواء تتنامى بتأييد الحكومة التركية، وبتساهل سلطات الانتداب، كما غذت الحكومة التركية سياسة الهجرة إلى اللواء. كذلك أخذت السلطات التركية تطالب باستقلال اللواء تمهيدا لضمه اعتبارا من العام 1936، أي تاريخ توقيع المعاهدة السورية الفرنسية التي تتضمن الاعتراف بسيادة سوريا وبوعد انتهاء الانتداب، ولم توافق السلطات الفرنسية على ذلك، وطرح الأمر على عصبة الأمم المتحدة التي كرست وضعا يساعد على الاستقلال من خلال تأكيد الهوية الخاصة للواء مع الإبقاء على ارتباط شكلي بالدولة السورية.
وفي العام 1937 جرت انتخابات نيابية جديدة في اللواء بناء على قرار العصبة، وتم تزوير هذه الانتخابات لصالح الأقلية التركية، التي أعطيت أغلبية أعضاء المجلس الجديد أي 22 مقعدا من أصل 40 مقعدا، وقامت الحكومة الجديدة بطرد الموظفين العرب، وإعلان استقلال اللواء باسم “جمهورية هاتاي”.
وبسبب محاولة فرنسا اكتساب تركيا إلى جانبها، ومنعها من التعاون مع المانيا بعد أن ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية، تنازلت فرنسا عن اللواء للحكومة التركية، بعد أن قررت حكومة هاتاي الاندماج مع الحكومة التركية المركزية، وسمحت للقوات التركية بالدخول إلى اللواء والسيطرة عليه.
من جهة أخرى كانت الحكومة السوفياتية قد أيدت قرار عصبة الأمم باستقلال اللواء، وعقد اتفاقية جنيف بين السلطتين التركية والفرنسية.
ومن أجل تمرير مؤامرة اللواء بأقل ضجة ممكنة، وفي مواجهة حركة الرفض الشعبي العربي لهذه السلسلة من الجرائم، والتي تمثلت بثورة أهالي اللواء، وبالتظاهرات المؤيدة للحق العربي في كافة أرجاء الدولة السورية، استدعت قياد الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس رفيق رضا، وأبلغته تعليمات محددة إلى الشيوعيين السوريين لامتصاص النقمة الشعبية، يقول رفيق رضا في بيانه بهذا الشأن الذي أصدره عن تجربته في الحزب الشيوعي السوري:” اتصلت بي قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي، وبسطت لي المواقف وذكرت أن فرنسا غير مستعدة لإغضاب تركيا ودفعها إلى الوقوف بجانب محور “برلين ـ روما”، خصوصا أن الخارجية البريطانية تصر على وجوب إرضاء تركيا بأي ثمن كان، وقيل لي صراحة إن الحزب الشيوعي الفرنسي يقف بواقع الحال موقفا دقيقا من هذه الأزمة الدولية، على اعتبار أن إحراج موقف الحكومة الفرنسية سيؤدي إلى استقالتها، والاستقالة ستؤدي إلى انهيار حكم الجبهة الشعبية، وهنا الكارثة في نظرهم، خصوصا وأن الاتحاد السوفياتي يلح على وجوب تجنب كل ما يؤدي إلى تغيير الوضع السياسي والحكومي في فرنسا، لأنه يعلق آمالا كبيرة على استقرار الوضع العام فيها… وقد نقلت وجهة نظر القيادة الفرنسية إلى قيادة الحزب في سوريا ولبنان، جملة وتفصيلا، وأخذت القيادة المذكورة برأي قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي”.
وتأكيدا لتفهم الشيوعيين السوريين للموقف الفرنسي ألقى خالد بكداش خطابا في 22 / 1 / 1937، جاء فيه”… وسوريا التي ستعمل للدفاع عن حقوقها المشروعة في جزء من أراضيها، لن تُؤخذ في الوقت نفسه بأحاييل من يريدون الاستفادة من نزاع الإسكندرونة لإضعاف جبهة السلام”.
واستمرت صحافة الحزب بتجاهل الموقف الوطني من فصل اللواء وتسليمه لتركيا، واعتبرت الصراعات الدائرة في اللواء بين العرب والأتراك مجرد صراعات طائفية رجعية، يساهم فيها الرجعيون العرب والأتراك والأرمن!!، واعتبر أن مسألة اسكندرونة منتهية بتصديق عصبة الأمم على اتفاقية جنيف.
وفي خطاب لأمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1938 أكد على عدم مسؤولية الحكومة الفرنسية في تسليم اللواء إلى تركيا، وإنما المسؤولية تقع فقط على عاتق بعض الموظفين الفرنسيين، حيث قال: “ليست فرنسا هي التي خيبت آمال اللواء، وآمال العرب، ليست فرنسا التي تراجعت أمام الاستعمار ذلك، بل فعل ذلك بعض الدبلوماسيين الفرنسيين…”.
ثالثا: الموقف من قيام الجمهورية العربية المتحدة، ونكسة الانفصال
لعل أول اهتمام بارز من الحزب الشيوعي السوري في مسالة القومية العربية ظهر في خطاب لخالد بكداش ألقاه تحت قبة البرلمان السوري بتاريخ 6 / 10 / 1955 حيث جاء فيه:” … إن الوقاحة بلغت بالصهيونيين اليوم درجة أنهم بينما يدعون أن اليهود يؤلفون قومية، ينكرون ذلك على العرب، بينما أن جميع مقومات الأمة الآنفة تعتبرها الاشتراكية العلمية متوفرة في العرب…”.
واستمر الموقف الجديد متطورا في ظل تأييد الاتحاد السوفياتي للموجة التحررية التي يقودها نظام ثورة يوليو / تموز في مصر والحكم الوطني في سوريا، فأصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري اللبناني في دورة انعقادها في نيسان / أيار 1956 قرارا عن قضية الوحدة العربية جاء فيه””…إن طموح البلدان العربية إلى وحدتها ليس وليد ظروف طارئة، أو رغبة عاطفية، ولا نتيجة لدعاية فكرية قام بها حزب أو فريق من الناس، بل هو مظهر لحاجة واقعية، ونتيجة لتطور تاريخي موضوعي مستقل عن الرغبات والإرادات، فإن الأرض المشتركة، ووحدة اللغة، والتاريخ المشترك، والتكوين النفسي المشترك، ينعكس في الثقافة المشتركة، والأوضاع الاقتصادية التي يتمم بعضها بعضا، كل هذه العوامل المشتركة… هي الأسس الواقعية الموضوعية التي تنبثق منها قضية الوحدة العربية”.
وتدًعم هذا الموقف بعدد من القرارات والبيانات في تلك السنة، وفي السنة التالية لها، تؤكد على أن الوحدة العربية المتحررة طريق النضال ضد الاستعمار وأعوانه.
وتتابعت الأحداث في سوريا باتجاه الوحدة مع مصر، وقامت الأحزاب القومية مدعومة من الجيش، ومن الشارع، بتقديم مشروع للوحدة الفورية، وأصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري بيانا هاما في 13 / 1 / 1958 أعلنت فيه تأييدها لقيام اتحاد كونفدرالي بين مصر وسوريا، على أن يكون الاتحاد مدروسا بشكل جيد، ودعت لتشكيل لجان بين الدولتين لوضع صيغة لهذا الاتحاد، ليقوم على أسس متينة واقعية تأخذ في الاعتبار الظروف الموضوعية في كل بلد”.
وعندما أعلن عن قيام الجمهورية العربية المتحدة كدولة واحدة أدلى خالد بكداش بتصريح أعلن فيه تأييد الشيوعيين للوحدة.
واستمر هذا التأييد بضعة أيام، وجاء في مقال افتتاحي لجريدة ” النور” الشيوعية بتاريخ 10 / 2 / 1958″ وإذا كانت هناك سابقا آراء في شكل الوحدة، وإذا كانت هناك الآن ملاحظات فيما يتعلق بالحريات، فإن ذلك ليس صادرا إلا عن الرغبة الصادقة في توطيد دعائم الجمهورية العربية المتحدة….”.
كما أصدر الحزب بيانات تدعو إلى الاستفتاء بنعم لقيام الجمهورية العربية المتحدة، ورئاسة ناصر، إلا أن خالد بكداش غادر سوريا بعد أيام قليلة من إعلان الوحدة، وأقام في بلغاريا، ومن هناك أخذ بعد أشهر قليلة يوجه الانتقادات لدولة الوحدة…. هذه الانتقادات التي أخذت تطرح علنا بعد أيام قليلة من قيام ثورة 14 تموز / يوليو في العراق عام 1958.
وكان الحزب الشيوعي السوري قد اتخذ قرارا برفض قانون حل الأحزاب السياسية في سوريا، وانتقل إلى العمل السري.
وعلى ضوء أحداث العراق الدامية، صعد الحزب الشيوعي السوري من انتقاداته لنظام الوحدة، ووجه بحملة الاعتقالات الشاملة التي أدت بدورها على مزيد من التصعيد العدائي حتى وصل الأمر بأن يدعو الحزب الشيوعي إلى الانفصال.
وجاء في كراس أصدره خالد بكداش عام 1960 بعنوان” الوحدة السورية المصرية كيف نمت وكيف أفلست وأشرفت على الانهيار” جاء فيه:
” إن وحدة سوريا ومصر حملت إلى الشعب السوري الخراب والدمار، والفقر والبؤس، وهدر الكرامة الوطنية، وخنق الحريات الديموقراطية. إنها رمت بسوريا سنين إلى الوراء في مجال التطور الديموقراطي، …. الفترة التي منذ إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة أقنعت الشعب السوري تماما بأن الوحدة لم تتحقق لمصلحة سوريا، ولا لمصلحة الحركة التحررية للشعوب العربية، وإنما تحققت لمصلحة الرجعية، بل وفي آخر الأمر لمصلحة الاستعمار…”.
ورغم صدور القرارات الاشتراكية لم تهدأ الحملة ضد الجمهورية العربية المتحدة، بل اعتبرت هذه القرارات كأنها خطوة لمصلحة الرأسمالية وحماية لها.
وعندما حدثت جريمة الانفصال سارع الحزب الشيوعي إلى جانب الأحزاب الرجعية بتأييد هذه الجريمة، وندد بنظام الوحدة مستخدما النعوت نفسها التي أطلقت عليه من قبل الدوائر الاستعمارية والرجعية.
وثبت هذا الموقف في مشروع البرنامج السياسي الجديد للحزب الذي صدر في عهد الانفصال، حيث جاء فيه: “وهكذا فإن انتفاضة 28 أيلول، التي انتصرت بفضل تضامن الشعب الواعي والجيش الباسل كانت أمرا محتوما، ساق إليه منطق الحوادث نفسها، وجاء تتويجا لنضال مرير خاضه الشعب السوري ضد حكم الديكتاتورية والتمصير، وكان للحزب الشيوعي في هذا النضال دور طليعي”.