واستخلاصاً للدروس المستفادة على طريق تحقيق “مشروع الأمة للتغيير”
بقلم محمد علي صايغ
الثورة تغيير بعيد الأثر في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع الذي تتفجر فيه، والثورة عملية خلق وتجديد، وانعتاق نحو آفاق الحرية والعدالة. وليس كل ثورة إن تنطلق ستستمر وتنجز أهدافها، وكثير من الثورات ارتدت وسلكت طريقا آخر غير الطريق الذي وعدت به، وثورات أخرى سلكت طريق العنف طريقا للتغيير وتحطيم كل ما وقف بمواجهتها، لتتحول من ثورة للخلاص من العبودية الى فرض عبودية جديدة ..
ثورة ٢٣ يوليو انطلقت من رؤية أولية للتغيير في مصر ولكنها مرحلة بعد أخرى شكلت رؤيتها وعمقتها، وطورت أهدافها. إذ لم تعمل الثورة على مجرد نسف ما كان موجوداً قبلها، أو مجرد فعل هدم لطبيعة الحكم وللقوى الخارجية والداخلية التي يستند إليها، وإنما في موازاة ذلك تحركت نحو البناء والنهضة، ففي أهدافها الثلاثة الأولى قررت الانتهاء من الاستعمار والإقطاع ورأس المال وسيطرته على الحكم، ولكنها قابلت ذلك في الأهداف الثلاثة الأخرى بعملية تغيير للنظام القائم وبناء نظام جديد يرتكز على جيش وطني قوي، وترسيخ العدالة الاجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة ..
مع استمرار الثورة والتصاقها بالقاعدة الشعبية العريضة، تجاوبت الجماهير الشعبية باندفاع وإصرار مع الثورة في مواجهة أعدائها ومعاركها في تأميم القناة وضد العدوان الثلاثي، وفي معركة الصندوق الدولي لتمويل السد العالي، وفي إنجاز الوحدة السورية المصرية، وفي التمسك بالتوجه القومي والعمل العربي المشترك، وفي التحول الى طريق ثالث بتأسيس عدم الانحياز لمواجهة الحرب الباردة، وفي الإصرار على التمسك بالنهج الوحدوي بعد الانفصال، وفي الصمود بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ عبر الانتفاضة الجماهيرية الهائلة في ـا ٩ و ١٠ يونيو من ذلك العام للمطالبة باستمرار الثورة وعودة عبد الناصر الى قيادتها من أجل إزالة آثار الهزيمة والعدوان ……..
لم ترتكز ثورة يوليو على نظرية أو أيديولوجية أو فلسفة جاهزة لإدارة الدولة والمجتمع، ولا ارتكزت على طريق يرسم لها خطوات العمل، حبست نفسها في إطاره، وإنما رسمت خطواتها وتوجهاتها بكفاح شعبها واستناداً إلى آمالهم وطموحاتهم .
في بدايات انطلاق الثورة تعرضت للهجوم والنقد والتشكيك من أصحاب النظريات الجاهزة واعتبروها مجرد انقلاب للسيطرة على الحكم، ولكنها بالعمل والممارسة والتجربة انتقلت طورا بعد آخر من الأهداف الستة إلى “فلسفة الثورة” سلطت فيها الضوء على مفهومها للثورة والتغيير ورسمت الدوائر المحيطة بمصر وأهمية الدائرة الأقرب فالأبعد ، ثم أعلن عبد الناصر “الميثاق الوطني” الذي حدد من خلاله الأهداف وشرح أهميتها ورؤيته للوصول إليها، وبعد ذلك كان بيان مارس بعد الهزيمة من أجل تحديد أولويات النضال وأهمية دور الجميع شعباً وقوى مجتمعية ودولاً عربية من أجل استعادة الأرض المحتلة … وبعد هزيمة حزيران، وفي سبيل تحقيق الديمقراطية السليمة طرح بجرأة في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي تغيير طبيعة نظام الحكم إلى حكم منفتح، يقوم على التعددية الحزبية .. ولكن طبيعة ظروف النكسة وقراره ببناء القاعدة الاقتصادية والعسكرية الصلبة من أجل إزالة آثار العدوان، ثم وفاته السريعة التي حالت دون تطبيق رؤيته بتجاوز التنظيم الواحد الى نظام متعدد ومنفتح ..
واليوم في ذكرى الثورة لا نعيد التذكير بها استعراضا احتفالياً لإنجازاتها ودورها وفعلها في داخل مصر ومحيطها العربي، أو التوقف عندها تجميداً للزمن، كما لا نستعيد ما صنعه قائدها عبد الناصر تمجيداً وتعظيماً وتحويله الى صنم يعبد، كما لا نقول بأنها ثورة بلا أخطاء أو نكسات، فكل ثورة في الدنيا لها إنجازاتها ونكساتها، ولكن التقييم لأي ثورة ينطلق مما أحدثته من تغيير ونهوض في مجتمعها، فالثورة أي ثورة ترتكز على جهد وفعل بشري مما يبقيها معرضة للهزات والانتكاسات ، والعمل البشري لا يستند إلى وحي من السماء ، وثورة بلا أخطاء أو عثرات بالتأكيد ثورة لا تصنعها إرادة بشر .
واستناداً الى ذلك فإن التوقف عند التجربة الثورية لثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢، وانقلاب قوى الردة عليها وحرف مسارها بعد وفاة عبد الناصر، والارتداد عن خطها يدفعنا للتوقف عند معيارين افتقدتهما الثورة وأنفذت قوى الردة لضرب ما عملت عليه وأنجزته ..
الأول: لقد أثبتت التجربة أن استمرار الثورة مرهون بتأسيس مؤسسات تتحرك بقوة العقل المؤسساتي في كيان الدولة، وتكون مطبخاً لصنع القرار، وأن الزعامة وشخصية قائد الثورة الكارزمية لا تمنع من الارتداد عنها، قد يكون لقائد الثورة المستند إلى شعبية عارمة دور في الإنجاز بمعايير قياسية، ولكن لا ضمانة لاستمرار نهج الثورة بعد غيابه .. وهذا يتطلب وجود مؤسسات فاعلة وقادرة على الإحاطة بالثورة والدفاع عن مكتسباتها من خلال توفير المشاركة السياسية الفاعلة في الدولة وفي بنى مؤسساتها، وإطلاق فعاليات الشعب وإشراكها في عملية صنع القرار السياسي. ولقد كان غياب عبد الناصر فرصة للانقضاض بسهولة من قبل قوى الردة التي ركب موجتها الرئيس السادات وأطاح بخط الثورة وإنجازاتها ..
الثاني: إن نظاما يستمر على أساس الارتكاز على تنظيم أو حزب واحد، لا يمكن أن يؤسس لحياة ديمقراطية سليمة، فالديمقراطية لها أركان عامة يجب مراعاتها عند تطبيقها، خاصة وأن عبد الناصر بما يمتلك من رصيد شعبي جارف كان يمكن أن يفرض النظام الديمقراطي التعددي مهما بلغت ممانعة القوى الداخلية والخارجية. وإذا كانت ظروف الثورة في بداياتها فرضت الابتعاد عن التعددية السياسية نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة، فإن التعلل بالظروف والاستمرار بنهج الحكم على أساس مركزية القرار في كافة مؤسسات الدولة والحكم، قاد الى تحكم القوى الأمنية والقوى البيروقراطية في الدولة وجعلت من نفسها سداً عازلا بينها وبين مطالب الشعب ومعاناته، ولولا التحام عبد الناصر بالجماهير الشعبية وتحسسه لمطالبها ما كان بمقدوره الحد جزئيا من تغولها …. لكن ذلك لم يمنع القوى المتغولة في بنية السلطة وبناها من الإحاطة بعبد الناصر في محاولة الحد من حرية حركته ومنعه من الإحاطة بما يتحرك داخل أجهزة الدولة والحكم، وجاءت هزيمة حزيران لتكشف المستور، ليعلن عبد الناصر عقب ذلك “سقوط دولة المخابرات” …
ولقد أثبتت التجربة أيضاً أن العدالة الاجتماعية المرتكزة إلى تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروات الوطنية .. لا يمكن أن تتحقق بدون إطلاق الحريات السياسة وتأسيس النظام الديمقراطي .. وإذا كان عبد الناصر قد طرح وتبنى في “الميثاق الوطني” بأن الديمقراطية هي الحرية السياسية والاجتماعية وبأنهما جناحا الحرية الحقيقية، فإن إنجازاته في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لم تكن تتعادل او تتوازى مع إطلاق الحرية السياسية وتأسيس نظام ديمقراطي يحمي الحريات ويصون الحقوق ويتمتع فيه جميع المواطنين بالحماية القانونية في ظل نظام قضائي مستقل وعادل ، وفي إطار إشراك الناس ومشاركتهم عبر المؤسسات المدنية والحزبية وقوى المجتمع المدني ، وبالتالي فرض المعايير الديمقراطية في الدولة ومؤسساتها المدنية والسياسية .
ونعود لذكرى ثورة عبد الناصر، فإن تمسكنا بتجربتها وما طرحته من أهداف ومقولات لا زال الكثير منها راهناً، ومنطلقاً لتأسيس رؤيتنا و منطلقاتنا وتوجهاتنا من أجل التأسيس “لمشروع الأمة” في التغيير، بل إن الوقوف عند تجربة ثورة يوليو اليوم تحيلنا إلى بداية انطلاقها، وإلى أول أهدافها -القضاء على الاستعمار وأعوانه- إذ أن أنظمة الاستبداد المشرقية التي تحكمت برقاب البلاد والعباد منذ عقود، وتَدَخُّل الدول الكبرى والإقليمية بفرض الاحتلالات ومناطق النفوذ في أوطاننا قد جعلتنا من جديد أمام مهمات “التحرر الوطني” والنضال من أجله .
إن حالة الانهيار الكبير في مجتمعاتنا ونظمنا، وأمام تبعية النظم وارتهانها للخارج للإبقاء على ديمومة حكمها يضع شعبنا وقواه الوطنية والسياسية أمام مهمات كبرى للتغيير وعلى رأسها النضال المتواصل لتغيير أنظمة الحكم الشمولية بنظام ديمقراطي تداولي، وقبل ذلك وفوقه النضال من أجل استعادة استقلالنا بعد أن عجزت نظمنا حتى على الحفاظ على دولها القطرية وعلى سيادتها الوطنية، وبعد أن أضحت أرضنا واقتصادنا وثرواتنا ومصادر دخل شعوبنا وبلداننا تحت قبضة دول طامعة وناهبة لمواردنا، ومستنزفة لمختلف مقدرات بلادنا ..
ومن هنا فإن مهمة إنجاز ” التحرر الوطني من الاحتلال وميليشياته، وإنجاز التغيير الديمقراطي يقع على عاتق الجميع وعلى الأخص القوى الوطنية الحاملة لمشروع التغيير الوطني وما يتطلب ذلك من العمل الدؤوب في إنجاز وحدتها أو العمل في إطارات العمل المشترك في تحالفاتها في سبيل إنهاء تشتتها وتبعثرها ، وتجاوز حالة العجز وحالة “اللافعل، واللاجدوى” الى مرحلة الفعل والتأثير الإيجابي في حركة الأحداث والمتغيرات الكبرى التي تعصف بالدولة والمجتمع، ومدخلها إلى ذلك العمل الجدي في تطوير فعلها وأدائها وأدواتها معاً من أجل أن تكون على مستوى التحدي الكبير في هذه المرحلة الصعبة والحساسة من تاريخنا المعاصر .