في يوم مولد عبد الناصر نستلهم روح التجربة ومضامينها والأهداف العامة الناظمة لها،
لتكون منهجا يضيء مسار طريق أمتنا
لم يكن في ذهن الناصريين المؤمنين بعبد الناصر حينما يتوقفون عند يوم مولده، تحويل عبد الناصر الى تمثال أو صنم للعبادة، أو إعادة تكرار تجربة لها مالها وعليها ما عليها، وإخضاعها بكليتها لإعادة إنتاجها مع تغير الزمان، وتطبيقها بحرفيَّتها كما كانت على عصرنا وزماننا. ولكننا في يوم مولد عبد الناصر نستلهم روح التجربة ومضامينها والأهداف العامة الناظمة لها، لتكون منهجا يضيء مسار طريق أمتنا.
والوقوف في ذكرى المولد بتاريخ ١٥ كانون الثاني من كل عام وإعادة التذكير بنضاله وتجربته، ليس مجرد التذكير بالعمليات الممنهجة والمتواصلة لتشويه التجربة التي تعرضت ولا زالت تتعرض لها فترة حكم عبد الناصر، ولكن إعادة الذكرى لتسليط الضوء على التحول والارتداد الذي مارسته وتمارسه الأنظمة الشمولية اليوم على أوطاننا، وإظهار بشاعة الجريمة التي ترتكب بحق مصر والأمة العربية كلها.
والجماهير العربية عندما التحمت بعبد الناصر فلأنه كان فكرا وعملا تجسيدا لآمالها وطموحاتها، في ان تكون أمة ناهضة، تحلم بأن تكون في موازاة الأمم الناهضة الأخرى، قوة فاعلة لها أثرها وتأثيرها في صناعة التاريخ الإنساني.
في أسرة شعبية بصعيد مصر ولد عبد الناصر في قرية بني مر، وعاش بين شعب أجهده الغزاة، وسرقه الإقطاع ورأس المال، ونخبة فاسدة استباحت أرضه وثرواته، فحركت في وجدانه الثورة على الظلم والقهر والاستعباد، ودفعته للانحياز لطبقة الفقراء وتمكينهم من وسائل الإنتاج، ومن ثم إعادة توزيع الثروة الوطنية، وتوسيع قاعدتها التنموية على طريق الحرية الاجتماعية، بخلق فرص متكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية، تحقيقا لمجتمع الكفاية والعدل.
لم تكن مواقفه من الظلم والاستعباد والاستعمار قد جاءت من فراغ، فقد تفتح عقله وهو في مقتبل العمر على مناخ يعتمل فيه الفقر والجهل والمرض. فبدأ نضالا تراكم خلال سنوات شبابه الى أن قاد ثورة يوليو 1952.
في بداية عام مولده كانت مصر منهكة ومكبلة بالانتداب البريطاني. وعندما بلغ الخامسة عشر من عمره بدأت تجربته الوطنية حين دخل مدرسة النهضة، فأظهر حماسا في النقاش الدائر فيها حول الاستعمار والسلطة الحاكمة، وتلقى أول ضربة من أحد عناصر شرطة راسل باشا في مظاهرة ضد الفساد والانتداب. كان معجبا بسعد زغلول والنحاس باشا، ميالا في ذلك الوقت لحزب احمد حسين الاشتراكي .. وفي وثيقة كتبها لصديقه حسن نشار قال له فيها ” يقولون أن المصري جبان وأنه يخشى أقل مواجهة .. إنه يحتاج لزعيم يقوده في كفاحه من أجل بلده .. لقد قلنا أكثر من مرة إننا سنعمل معا على إيقاظ الأمة من سباتها .. “
لم يكتف جمال عبد الناصر بالنقاش والبحث مع رفاقه حول أوضاع مصر، فقد نزل الى المظاهرات وجرح في جبينه بإحداها عام 1935 حين قاد مظاهرة أمام بيت الأمة المقر السابق لسعد زغلول. وعندما وقعت مصر معاهدة الإذعان مع بريطانيا 1936 المقيدة بشروط التحالف القسري مع انكلترا نظم وقاد جمال المظاهرات ضد ما كان يراه عارا أو تنازلا مخزيا .
ورغم انتسابه لكلية الحقوق إلا أنه عندما فتحت حكومة الوفد أبواب الكلية الحربية أمام الفلاحين وصغار الموظفين، وكان ذلك تحولا كبيرا في تركيبة الجيش، الذي كان حصرا على أبناء كبار الملاك وأصحاب المال والمتنفذين، انتسب عبد الناصر الى الكلية الحربية. وحين تم إعلان قيام دولة اسرائيل 1948، ودخلت مصر الحرب، كان قائدا عسكريا شابا أصيب بطلقة في صدره. بعدها وجد نفسه في جيب الفالوجة الشهير فأثبت مع رفاقه شجاعة وتماسكا في مواجهة العدو. لكنه خرج من الحرب مستاء” لحالة الجيوش العربية، وحالة الإهمال في التنظيم والعتاد والسلاح، وترك القيادة العليا في القصر أفراد الجيش في مواجهة قدرهم.
كانت حرب 1948 بداية لتشكيل وعيه بأهمية القضية الفلسطينية وأثرها على مصير مصر والامة العربية، وارتباط تحرير الأرض الفلسطينية بتحرير الأمة ووحدتها ونهضتها. فدعم عقب الثورة وبكافة الوسائل الثورة الفلسطينية وثورات التحرر العربية وثورات المستضعفين في العالم.
وبالرغم من الانتصارات التي حققتها الثورة في حرب السويس، والحرب في مواجهة الإقطاع ورأس المال، وإنجاز الوحدة السورية المصرية، والمساهمة الفعالة بتحرير الأقطار العربية من الاستعمار، والدعم المتواصل للشعوب المغلوبة، والدخول في تكتل عدم الانحياز والتكتلات الأخرى في مواجهة القوى الامبريالية المتسلطة على الشعوب، إلا أن التجربة أيضا مرت بانتكاسات مؤلمة، بدأت بالانفصال ثم بنكسة حزيران التي أرادتها أمريكا والصهيونية أن تكون إسقاط للثورة وتجربتها. لكن جماهير الأمة كلها انتفضت في 9 و 10 حزيران متمسكة بقيادة عبد الناصر، ومطالبة بالعودة عن استقالته.
وإذا كان لا يمكن المرور على تلك التجربة الرائدة بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، بسطور قليلة، فإن تلك التجربة وبعد مضي ٥٣ عاما على وفاة قائدها تفرض علينا مراجعة لمسارها واستخلاص الدروس والعبر من عثراتها تمهيدا لصياغة جديدة تلتزم بالمبادئ العامة للتجربة، وتضيف عليها وتغنيها برؤية جديدة، تتجاوب مع المتغيرات الحاصلة، وتتجاوز الأسباب المؤدية لعثراتها، لبلورة طريقا مأمونا للنضال في أوطاننا.
1- لقد أثبتت التجربة أن الحاكم أو الزعيم مهما بلغت إمكاناته وقدراته فإنه يبقى معرضا للخطأ أو الارتداد أو الموت، وان الزعامة لوحدها لا تشكل ضمانا لاستمرار مسيرة أية تجربة. ومن هنا وعندما وافت المنية عبد الناصر وكانت المناورات العسكرية الامريكية حاضرة في البحر المتوسط قرر الرئيس نكسون وقف المناورات قائلا ” من كنا نريد ان نسمعه اصوات مدافعنا قد مات “.
2- كما أثبتت التجربة ان الانجازات التاريخية مهما بلغت أهميتها تبقى معرضة للانتكاس في غياب مؤسسات حاضنة لها تتشكل على الانتخاب استنادا لأصوات الناخبين، وإن قوى الردة تجد مناخا مناسبا للارتكاس والنكوص. ويعتبر ارتداد السادات مثالا عيانيا عندما استطاع بسهولة قيادة عملية الارتداد وحرف مسار الثورة.
3- وأثبتت التجربة أيضا أن الكيانات القطرية القائمة على الاستبداد السياسي، والمتصادمة مع النهج الديمقراطي ببعده القومي، قد فشلت في درء المخاطر التي تجتاحها، بل إن الواقع أثبت أن تلك الكيانات القطرية أصبحت مهددة حتى في سيادتها الوطنية.
4- والتجربة الناصرية والتجارب الاخرى أثبتت أن القوى الامبريالية الامريكية والغربية لا يمكن أن تكون عونا ودعما وصديقا للأمة العربية، وهي بارتباطها العضوي بالصهيونية ومن أجل الاستمرار في استنزاف مقدراتنا عملت وما زالت على إجهاض محاولات النهوض العربي، وقد دفعت تلك القوى المعادية لأمتنا في فعلها ومؤامراتها الى إضعاف الأمة وتهديم بنيانها، وتحويلها الى دول مسخ متصادمة مع بعضها، والعمل على إذلالها وتحويلها إلى رهينة تحت رحمة الكيان الصهيوني. وبالرغم من الضغوط التي تعرض لها عبد الناصر بعد هزيمة حزيران من أجل قبول عرض القوى الدولية بالانفتاح على الكيان الاسرائيلي مقابل استرداد الارض المصرية فإنه أعلن موقفه بأن ” أمريكا لن تتركنا إلا مقابل سياسة يمينية كاملة .. لن نستسلم و ليأت غيرنا ليحكم ويستسلم ” .
5- والتجربة أيضا أثبتت أنه بدون بناء ديمقراطي يقوم على المشاركة السياسية الفاعلة في بناء مؤسسات الدولة والحكم، وإطلاق فعاليات الشعب ومنظماته وأحزابه، وإشراكها في عملية صنع القرار السياسي، وتعزيز الحوار والتفاعل بين كافة المكونات السياسية في المجتمع، وإدارة التباينات والخلافات باعتبارها مصدرا للتنوع والقوة. إن بناء نظام سياسي ديمقراطي يرتكز على العدالة الاجتماعية ويهدف إلى الانعتاق من الدكتاتورية، ويحمي الحريات ويصون الحقوق، ويتمتع فيه جميع المواطنين بالحماية القانونية في ظل نظام قضائي مستقل وعادل، وفي إطار نظام اقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، هو المدخل الحقيقي لنهوض الأمة من عثارها، اذ لا معنى للديمقراطية في ظل التمييز الاجتماعي والفوارق الطبقية الواسعة، ولا معنى لأي إنجاز اجتماعي واقتصادي في ظل أنظمة الاستبداد والفساد.
في يوم مولد عبد الناصر تبرز ذكرى رجل وقف عملاقا في الأوساط السياسية العربية والدولية، وعلى الحناجر رددت اسمه جماهير أمته، لم يكن مجرد رئيس دولة، كان ” ناصر ” القائد والزعيم، ” وحبيب الملايين “، وحينما نالت منه الجراح، وفتكت به الآلام، استرد نفسه، واستعاد ثقته، فوقف على قدميه كطير الفينيق الأسطوري ليصنع القوة بثقة الناس به. وحينما هدَّه المرض ووافته المنية خرجت جموع الأمة كلها وراء نعشه ذارفة الدموع، وهاتفة بصوتها الهادر .. حنكمل المشوار …..