د. يوسف الحسن – مجلة الصائم
31 مارس 2023
ما أكثر الكَذَبة، وأهل الجرأة على الكذب، أما الكذب في السياسة فهو رأس المآثم والجرائم والزور.
في القرن 17، روّجت الكنيسة الكاثوليكية أكذوبة «الزندقة أو الهرطقة والساحرات»، في جميع أنحاء أوروبا، ووصلت هذه الأكذوبة، مع المهاجرين الأوائل إلى شمال أمريكا، وخاصة في مدينة (سيلم) القريبة من بوسطن. وكان هدف هذه الأكذوبة قمع أو قتل كل من تسوِّل له نفسه الوقوف ضد أهداف الكنيسة وسيطرتها، وقد قدر عدد الذين تعرضوا للتعذيب الوحشي، أو الشنق أو الحرق أو الموت على الخازوق، وتقديمهم إلى محاكمات هزلية، بنحو تسعة ملايين شخص، كان أغلبهم من النساء.
وفي القرن التاسع عشر، وفي سياق التوسع الاستعماري في إفريقيا وآسيا، كانت كذبة ذلك القرن تدّعي «مساعدة العالم المتخلف، على التخلص من الفقر، وتحقيق التقدم، ونشر الأمن والاستقرار».
وقيل في أوروبا إن هناك يوماً عالمياً للكذب، هو الأول من شهر إبريل (كذبة إبريل) وإن فرنسا هي التي ابتدعت تلك الكذبة «المباحة». ونشر أستاذ تاريخ في جامعة بوسطن تقريراً (في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، يقول فيه، إن «كذبة إبريل / نيسان بدأت في مطلع القرن الرابع الميلادي، في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين، حينما نصَّب الإمبراطور، مهرِّج القصر، ليكون إمبراطوراً ليوم واحد، في الأول من إبريل، بهدف نشر البهجة والسخرية بين الناس في ذلك اليوم. ومن قصص هذه الكذبة، أن صحيفة بريطانية أعلنت إقامة «معرض للحمير» في الأول من إبريل في العام 1846، فهرع الناس لمشاهدة ذلك المعرض، وطال انتظارهم في المكان المحدد، وحينما سألوا عن وقت عرض الحمير، لم يجدوا شيئاً، فعلموا أنما جاؤوا للمكان، يستعرضون أنفسهم.
وتحدثت كتب ومراجع لاهوتية عن كَذَبةٍ ودجالين، ودعت أتباعها إلى عدم تصديقهم، وأشارت بعضها إلى مُسحاءُ كَذَبة، وأنبياء كذبة، فلا تصدقوهم».
ويبدو أن لكل قرن كذبته أو أكاذيبه، ففي مثل هذه الأيام وقبل عشرين عاماً، تسببت كذبة كبرى جهنمية في تنفيذ غزو أمريكي عسكري للعراق، وارتكاب جرائم حرب ونهب ودمار وإراقة دماء واستباحة، وإسقاط دولة ومؤسسات، ونشر فوضى وتفتيت مجتمعي وخنادق متقابلة، وخراب.
زعمت هذه الكذبة الكبرى أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وقدم كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، في فبراير/شباط 2003، إلى مجلس الأمن، أنبوب اختبار صغير يحتوي على مسحوق أبيض، كدليل «دامغ» على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ومتهماً العراق بعلاقته مع تنظيم «القاعدة».
بعد خروج كولن باول من الحكومة الأمريكية، وقبيل وفاته، أعلن نفيه لهذه الكذبة التي عرضها أمام مجلس الأمن، وأكد أنه قالها بضغط من أجهزة المخابرات الأمريكية، وأن خطابه المذكور سيظل «نقطة سوداء في حياته».
كانت كذبة القرن الحادي والعشرين ضمن خطة شيطانية لإحداث تغييرات جذرية في موازين القوة وخرائط الإقليم، وإعادة ترتيبها من خلال ما سمي ب«الفوضى الخلاّقة».
لم تقدم أمريكا اعتذاراً عن هذا التزوير البشع والذرائع الواهية، وعما نتج عنها من دمار وجرائم حرب ونهب للثروات وتهجير وتوليد للعنف والإرهاب، ولم يعتذر الذين شاركوا في تعميم الكذبة، وروجوا لها، أو الذين شاركوا في هذا الغزو الظالم من قادة بريطانيا وأستراليا وبولندا.
عملية «حرية العراق» العسكرية المبنية على كذبة وتزوير، والتي عارضتها الملايين من النخب والجماهير في أوروبا وغيرها، وجرت خارج قرارات مجلس الأمن، أدخلت الإقليم في جحيم الفوضى والوحشية، وتجاوزت أكلافها أكثر من تريليونين من الدولارات، فضلاً عن الفضائح اللاإنسانية، والإذلال والإهانة لكرامة الإنسان العراقي، وتهجير مئات آلاف من الأقليات خارج العراق، وسيطرت الحركات الإرهابية والدواعش على نحو ثلث مساحة العراق بعد نحو عقد من الاحتلال الأمريكي، وانتشر الفساد والفقر والبطالة وخراب البنية التحتية، وتفتيت المجتمع إلى طوائف وميليشيات متصارعة، وخلق بيئة مناسبة للتطرف والانتقام.
شكل هذا الاحتلال القائم على الكذب والتزوير، زلزالاً غيّر معادلات وحسابات رئيسية في إقليم الخليج العربي وحوضه، وخلق فراغاً أمنياً استراتيجياً، سمح لإيران بملئه، فتعزز دورها في عدد من المناطق العربية المشرقية. كما أتاح للأحلام الإمبراطورية في تركيا الفرصة للنفاذ إلى مناطق «رخوة» عربية في ظل فوضى عارمة تفجرت بعد سبع سنوات من الغزو الأمريكي، تحت مسمى «الربيع العربي».
كان قرار الغزو وإسقاط الدولة العراقية قد اتخذ بعد أسابيع قليلة من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية. وتم إبلاغه أو تمريره إلى عدد من القوى السياسية العراقية المعارضة، ومراكز حكم عربية ودولية.
ومن أسف، فإن سوء التقدير السياسي، والحسابات الضيقة، ونزعات الثأر والخصام «الحزبي»، طغت على المناخ السياسي السائد، في البيئة المحيطة، فضلاً عن الغرور، وقصور النظر في الداخل العراقي، وسياسات متهورة في عقدي الثمانينات وأوائل التسعينات، وعلى رأسها خطيئة – كارثة الاحتلال العراقي للكويت، والتي أصابت النظام العربي المؤسسي في مقتل.
حديث مسعود البرزاني الأخير في جريدة «الشرق الأوسط» كشف مشاهد عديدة في قصة الاحتلال الأمريكي للعراق، ومواقف قوى ودول محيطة بالعراق، وكيف اكتوى الأكراد، على سبيل المثال، بنار تقلبات «الأقوياء» وكيف تحول الغزو إلى احتلال، ومالت كل الأطراف إلى الانتقام والتهميش والقتل على الهوية، وليس لبناء دولة ونظام جديد.
في حديث تلفزيوني مثير، أجرته صحفية أمريكية، مع الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك الذي تولى منصب القائد الأعلى للحلفاء في أوروبا في أواخر التسعينات، وعارض عملية الغزو الأمريكي للعراق ومما جاء في حديثه: «إن المحافظين الجدد، وعلى رأسهم رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني في ذلك الوقت، ورَّطا أمريكا في العراق، بعمل عسكري لا علاقة له بمكافحة الإرهاب، وقد استثمروا أحداث 11 سبتمبر، لتنفيذ خططهم بغزو سبع دول مسلمة، كان العراق على رأسها، لتفكيكه وإسقاطه في الفوضى وشيطنته واتهامه بإخفاء أسلحة دمار شامل، وهي تهم ثبت زيفها».
ويقول أيضاً: «استدعاني ضابط في البنتاجون، وقال أريدك أن تعرف سيدي، نحن ذاهبون لمهاجمة العراق، فقلت: لماذا؟ أجاب: لا أعرف. وقلت: حسناً هل ربطوا صدام بأحداث 11 سبتمبر، فقال لا، ثم عدت إلى البنتاجون بعد أسابيع، وسألت نفس الضابط: أما زلنا في طريقنا لمهاجمة العراق؟ أجاب: نعم بالتأكيد، وأكثر من ذلك، إننا سنقوم بمهاجمة وتدمير سبع دول خلال السنوات الخمس القادمة، وسنبدأ بالعراق ثم سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران.
يقول (ويسلي كلارك): «كان شيئاً مذهلاً جداً… لقد استولى على أمريكا مجموعة من الأشخاص مثل تشيني ورامسفيلد وولفوتيز، من أجل مشروع «القرن الأمريكي الجديد». وزعزعة استقرار الشرق الأوسط وجعله تحت سيطرتنا».
كذبة القرن تحولت إلى احتلال، وحاضنة لأخطر التنظيمات الإرهابية، وتسببت في تدمير بلد عريق وحياة ملايين من البشر. وكانت كارثة سياسية وإنسانية.. ومازالت آثارها المدمرة تلد كوارث متتالية.
حينما سألت صحفية وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، حول الحصار الجائر للعراق، قبل الغزو، والذي تسبب بموت نصف مليون طفل عراقي، وفيما إذا كان موت الأطفال هو ثمن يستحق أن يدفع، قالت الوزيرة التي فرَّت من النازية وهي طفلة: «لقد كان هذا خياراً صعباً أمامنا، لكننا نعتقد أن الثمن يستحق أن يدفع».. هكذا وبلا خجل.
تعليق د. مخلص الصيادي
هذا المقال المحكم، والكاشف لحقيقة تاريخية نجدها في كل عصر، وتمارسها كل القوى القادرة حينما تتجرد من سلم القيم، وتتحكم بها سلالم المصالح.
وإذ نقف على كذبة القرن المتمثلة بتلك المبررات التي أعطيت لغزو واحتلال وتفكيل العراق دولة ومجتمع. ولارتكاب الغازي لجريمة القرن التي فاقت كل تصور.
وإذ ينقل الدكتور يوسف الحسن تقديرات جهات معينة لتكلفة الغزو بتريليونين دولار، ولا أدري إن كان صار ممكنا حساب التكلفة دون أن نضع في ختام الحساب كلمة “حتى إعداد هذه القائمة”، فإن قائمة التكاليف والخسائر البشرية والمادية ما زلت في تصاعد.
نحن الذين أدنا الغزو، والاحتلال، ووصفناه بأنه جريمة العصر، التي بنيت على كذبة العصر التي بات الجميع بمن فيهم أولئك الذين اخترعوا يقرون بهذه الصفة لها، هل نستطيع نحن ومن يقف منها أن نعمل على بناء ملف موثق لهذه الجريمة، على المستوى الضحايا البشرية. وعلى مستوى التكاليف المادية، وعلى مستوى الدمار الحضاري والاجتماعي، وعلى مستوى الانتهاكات الثابتة للقيم والحقوق الانسانية التي تحكم تصرفات المتحاربين وقت القتال، وأن نضع هذا الملف أمام المحاكم الدولية والوطنية التي تتيح المحاسبة على هذه الجرائم، وأن نحول ذلك كله إلى أرقام نطالب بها الولايات المتحدة، وكل الدول التي ساهمت في هذه الجريمة وهذه الكذبة، التي ارتكبت خارج إطار المنظمة الدولية وآلياتها، وخارج نطاق القانون الدولي وأحكامه.
إن ما فعله الغزو والاحتلال في العراق أكثر فظاعة مما ينقل لنا عما فعله النازي باليهود في الحرب العالمية الثانية، وعلى وقائع تلك المحارق بنيت “أسطورة الهولوكست”، وما أقيم عليها من مطالبات بتعويضات مادية ” للكيان الصهيوني”، الذي لم يكن موجودا حين ارتكاب تلك الجرائم، وقد كان حين طالب بتلك التعويضات يرتكب الجرائم نفسها وأكثر منها بحق الشعب الفلسطيني.
هل نستطيع ذلك؟
أعتقد أن ذلك واجب، واجب انساني، وواجب أخلاقي، وواجب ديني، وواجب وطني وقومي، وواجب من تأمين مستقبل الشعوب، فلا يقوم سياسيون كذابون قتلة بارتكاب مثل تلك الجريمة أو ما يشبهها، وهو يأمنون الملاحقة والعقاب، وحتى لا تتقبل الشعوب التهاون مع سياسييها، فيما يقومون به من مواقف وقرارات واستخدام للقوة خارج أوطانهم، لأن من شأن ذلك أن يحملهم تكاليف وأعباء ستنعكس على حياتهم العامة،
إن رفع أسعار سلعة، أو نسبة غير مقبولة من التضخم، أو إلغاء قرارات دعم اجتماعي، من شأنه أن يحرك القوى الاجتماعية والسياسية في تلك البلدان، وأن يسقط حكومات، وأن يجبر حكومات على التراجع، يجب أن تستشعر هذه الشعوب أنها ستدفع من رفاهيتها وأمنها ومستقبلها ثمن السياسات العدوانية لقياداتها السياسية، وبالتالي تدرك أن عليها أن تتحرك لمنع ووقف تلك السياسات.
هل نستطيع أن نفعل ذلك، قد يبدو طرح هذا الأمر فيما نحن فيه من تفكك وفرقة وضياع نوع من تسويق الأوهام، أو التلهي بما لا يفيد، الانشغال عن الأولويات الراهنة.
لكن الطريق الطويل يبدأ بخطوة، وحينما لا تتوقف الخطا، فإن الوصول مؤكد، ولن تبقى قوى الطغيان هي المستبدة في العالم، مع يقيني بأننا نملك الكثير للتأثير بهذا الملف، وبملفات أخرى.