عصام نعمان – كاتب لبناني
“القدس العربي”
20 – مارس – 2023
تكشّفت عملية مجدو النوعية عن ثلاث حقائق ساطعة:
أولى الحقائق أنها عملية غير مسبوقة في تاريخ صراع المقاومة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، ذلك أنها وقعت في عمق الأراضي المحتلة، على مقربة من حيفا، إحدى كبريات مدن التحشّد السكاني المعادي. سبق للمقاومة أن قامت بعمليات مشابهة عبر الحدود اللبنانية، لكن مسافة اختراقها لم تتعدَّ الكيلومترات العشرة شمال مدينة نهاريا، ولم تتسبّب في حينه بقلق للقيادات العسكرية الإسرائيلية.
ثانيةُ الحقائق أنها أربكت قيادات العدو وحملتها على إفراز تفسيرات وتبريرات متناقضة، بشأن كيفية حصولها والأهداف المتوخاة منها. من التفسيرات المتداولة في هذا السياق الزعم بأن مقاتلاً انطلق من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان، واجتاز الحدود متوجهاً إلى مجدو الواقعة على بُعد بضع كيلومترات من حيفا. وفي تفسير آخر قيل إن المقاتل انطلق من أحد المخيمات في شمال الضفة الغربية، كما لم تستبعد إحدى وسائل التواصل الإسرائيلية أن يكون المقاتل من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948.
ثالثةُ الحقائق أن عملية مجدو تكشّفت عن توفّر أسلحة ومعدّات غير تقليدية لدى فصائل المقاومة في الأراضي المحتلة، ما يشي بأنها تلقتها، على الأرجح، من خارج كيان العدو، أي من لبنان أو سوريا.
عملية مجدو أربكت قيادات العدو وحملتها على إفراز تفسيرات وتبريرات متناقضة، بشأن كيفية حصولها والأهداف المتوخاة منها
بيانُ وزارة الأمن الإسرائيلية لمّح إلى ما سماه إمكانية «تورّط» حزب الله في العملية، لكنه أشار إلى أن تحقيقاً يجري في هذا الشأن. غير أن ناطقاً باسم قوات الأمم المتحدة «يونيفل» المنتشرة على طول حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، أكّد أنها «لم تلاحظ أي حركة تسلل عند الخط الأزرق خلال الأيام الماضية».
كلُ هذه الواقعات تطرح جملة أسئلة:
ـ كيف تمكّن المقاتل من اختراق السياج والجدار الإسرائيليين القائمين على الحدود والمفترض أنهما محروسان بيقظة شديدة من الجانب الإسرائيلي؟
ـ كيف تمكّن المقاتل من قطع مسافة لا تقلّ عن 60 كيلومتراً بين الحدود وموقع مجدو من دون أن تتمكن قوى الأمن الإسرائيلية من ضبطه؟
ـ لماذا لم تكشف السلطات الإسرائيلية عن «جثة» المقاتل الذي تزعم أنها قتلته فور حصول ذلك؟
كلُ هذه التساؤلات والشكوك تؤشر إلى حقيقة دامغة هي وجود ثغرات وفجوات في جدار الأمن الحدودي الإسرائيلي، ازدادت اتساعاً مع تفاقم الاضطرابات الأمنية وتصدّع البنية الداخلية، نتيجةَ تظاهرات جمهور كبير معارض وناشط ضد إجراءات ما يُسمونه «الانقلاب القضائي» الذي أعدته حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية ضد القضاء بغية السيطرة عليه. إلى ذلك، ثمة بُعدٌ أشد أهمية وخطورة للمشهد السياسي والأمني الإسرائيلي في الوقت الحاضر كونه ينطوي على مدلول لافت هو تمكّن بعض فصائل المقاومة في لبنان (حزب الله) وفي فلسطين («حماس» و»الجهاد الإسلامي») من امتلاك القدرة محلياً على تصنيع صواريخ ومسيّرات وقنابل ومعدّات عسكرية. ذلك تجلّى في قيام المقاومة («الجهاد» و»حماس») بقصف تل أبيب وضواحي القدس بالصواريخ خلال عملية «سيف القدس» عام 2022، وفي إطلاق فصائل المقاومة مسيّرات خلال محاولات الجيش الإسرائيلي اقتحام مخيم جنين مؤخرا. هكذا يتضح أن فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين تمكّنت، بالتعاون مع أطراف محور المقاومة في سوريا وإيران، من الارتقاء بالدعوة إلى وحدة الساحات إلى مستوى وحدة الجبهات. صحيح أن الجبهتين اللبنانية والسورية لم تشاركا ميدانياً في معركة «سيف القدس» وما تلاها من مواجهات واسعة بين المقاومة والقوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، إلاّ أن إنجاز وحدة الجبهات كان قد تحقق، عملياً وتدريجياً، منذ عام 2022 من خلال اتساع عمليات دعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين بالسلاح والعتاد والذخيرة والخبرة الفنية والتسهيلات اللوجستية والمعطيات الاستخباراتية، وذلك بشتى الوسائل والسبل، براً وبحراً وسبرانياً، ما مكّنها من تفعيل الارتقاء بفعاليتها القتالية. أليس نجاح مقاتل مقاوم في التحرك في عمق الأراضي المحتلة إلى محيط مدينة حيفا، من دون أن تتمكّن الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من ضبطه، ثم إخفاقها بعد ذلك في تحديد هوية الجهة التي ينتمي اليها، ونقطة انطلاقه، والهدف المتوخى للعملية المكلّف القيام بها، وهذا الطوفان من التفسيرات والتبريرات المتناقضة لمؤسسات ومصادر عسكرية وأمنية وإعلامية شتى، بقصد تغطيةِ فشلٍ مدوٍّ للأجهزة الأمنية المسؤولة… أليست هذه الواقعات والشواهد أدلة ساطعة على المستوى المتطور للفعالية القتالية والعملانية لفصائل المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى للنجاح الذي حققته أطراف محور المقاومة كافة في الارتقاء بها، من دعوةٍ إلى توحيد الساحات إلى نجاحٍ في تحقيق وحدة الجبهات، لوجستياً وسبرانياً، واحتمال تطورها إلى مشاركة ميدانية في قابل الأيام؟ لعل الأدلة الأوضح على هذا الارتقاء في فعالية المقاومة، ما أوردته مصادر إسرائيلية وازنة في هذا المجال:
ـ آساف أوريون، الباحث في «معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب والرئيس السابق لوحدة التخطيط الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي يقول، حسب «مباط عال» (العدد 1696، 2023/3/13) «إن حساب الدم يرتفع والتقديرات تزداد بأن الساحة الفلسطينية على اعتاب انفجار واسع عشية شهر رمضان، والأعياد اليهودية، قد تتوسع حلقته إلى داخل إسرائيل كما جرى أثناء عملية حارس الأسوار».
ـ عاموس يادلين رئيس إدارة الاستخبارات العسكرية السابق يقول «إن التحدي الأكبر لإسرائيل هو أنها تواجه معضلة استراتيجية وعملانية من الدرجة الأولى تتمحور حول كيفية الجمع بين استعادة الردع من دون الانجرار إلى تصعيد لا يريده أيّ من الأطراف، والأكثر خطورة أن لا تنجح في تعزيز صورة ردعها لمنع تكرار عمليات مشابهة بعدما ثبت أن الجهة التي تقف وراء العملية تتمتع بحصانة استخباراتية سمحت لها بمفاجأة أجهزة العدو (إسرائيل) في طبيعة العملية ومسارها ومكانها وأسلوبها وتوقيتها».
ـ يواف ليمور المعلّق السياسي في صحيفة «يديعوت أحرونوت» قال إن العملية تستبطن أبعاداً عميقة وإمكانية متفجرة على أمن «إسرائيل»، ما دفع المؤسسة الأمنية والعسكرية في الأيام الأخيرة إلى مداولات محمومة أدت إلى تقصير زيارة رئيس الحكومة نتنياهو لبرلين».
تتوالى هذه الشهادات والتقديرات من جهات إسرائيلية مسؤولة ووازنة، في وقت تترقّب قيادات دول كبرى عالمية، وقيادات أخرى في دول كبرى إقليمية تداعيات المصالحة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية وما إذا كانت تنطوي، عاجلاً أو آجلاً، على إعادة صياغةٍ لمنطقة غرب آسيا لتكون، غالباً، على حساب نفوذ الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل».