سوريا – قضية – الأخبار
زياد غصن السبت 8 تموز 2023
عمدت أسر كثيرة إلى تقليص عدد وجبات الطعام اليومية (أ ف ب)
منذ ثلاث سنوات تقريباً، ومعدّل انتشار الفقر العام في سوريا لم يتغيّر إلّا قليلاً، حيث بقي يدور حول عتبة 90%، على رغم الارتفاع الكبير والمستمرّ في معدّل التضخم، وهو ما يطرح تساؤلات عن ماهية مرحلة ما بعد الفقر العام، والتي باتت تتحكّم بحياة السوريين ومستقبلهم
مع استمرار تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية في سوريا منذ حوالي ثلاث سنوات، فإن استخدام مصطلح «الفقر العام» لم يَعُد أميناً في توصيف حال غالبية السوريين. ولعلّ ما يؤكد ذلك أن التقديرات البحثية غير الرسمية والأممية كانت تتحدّث في عام 2020 عن ارتفاع معدّل الفقر العام إلى 90%، لكن بين نهاية ذاك العام ونهاية العام الماضي، زاد وسطي الأسعار بأكثر من سبعة أضعاف، فيما التقديرات المتعلّقة بمعدل انتشار الفقر بقيت على حالها، أو أنها زادت عن المعدل بشكل قليل ليُراوح ما بين 92 – 93%، وهو ما يعني أن الفقر العام بلغ ذروته بين السوريين، ولم يعد هناك من منتسبين جدد إلى دائرته. ويثير هذا الواقع تساؤلات في اتجاهين: الأول، يتعلق بالتفسير المنطقي لثبات معدل انتشار الفقر العام في وقت لا يزال فيه الغلاء يزداد بشكل شبه يومي، والدخل يتآكل إلى درجة العجز عن تلبية احتياجات يوم واحد، وما إذا كان مردّ هذه المفارقة مبالغات في التقديرات السابقة؛ فيما الثاني يتعلّق بماهية مرحلة ما بعد الفقر العام، والتي يُفترض أن السوريين يعيشون فصولها بفعل وطأة موجات الغلاء المتتالية والمستمرّة منذ عام 2020، والتي تتجاوز بكثير تلك التي سُجّلت ما بين عامَي 2011 و2019.
من العام إلى المدقع
على مدار السنوات الثلاث الماضية، اضطرّت معظم الأسر السورية لتغيير الكثير من عادات استهلاكها، واتّباع سياسات تأقلم جديدة تتناسب وقوتها الشرائية من جهة، ومستويات أسعار السلع والخدمات المتغيّرة بين يوم وآخر من جهة ثانية. فمثلاً، ثمّة أسر كثيرة عمدت إلى تقليص عدد وجبات الطعام اليومية إلى اثنتين أو واحدة فقط مع إعطاء أفضلية للأطفال، وأخرى استغنت عن العديد من أصناف الطعام لتقتصر على واحد أو على الخبز مع الشاي المحلّى بقليل من السكر، فضلاً عن تقليص عدد أفراد الأسرة المنخرطين في التعليم، وتراجع الاهتمام بالنواحي الصحية وما إلى ذلك. وعند التعمق في تحليل الأسعار خلال فترة الحرب، يتبيّن بحسب دراسة لـ«المركز السوري لبحوث السياسات»، «ارتفاع أسعار الأغذية بنحو 91 ضعفاً في منتصف عام 2022 مقارنة بعام 2009، في حين ارتفع الرقم القياسي العام بنحو 76 ضعفاً، بفارق 15 ضعفاً، علماً أن فرق التضخم الغذائي عن التضخم العام ازداد من 11 ضعفاً في عام 2021 إلى 17.4 ضعفاً في منتصف 2022». ويوضح المركز أن تلك الأرقام تؤشّر «إلى تركز الأثر الأكبر لانعكاسات تدهور الاقتصاد السوري في حالة تسارع انهيار الأمن الغذائي، وإلى تغيُّر هيكل الفقر في سوريا بانزلاق السوريين من حالة فقراء ضمن خط الفقر الأعلى أو الفقر الأدنى إلى فقراء تحت خط الفقر المدقع»، محذّراً من أن «استمرار ارتفاع الأسعار بالوتيرة نفسها سينتقل بمزيد من الفقراء إلى قاع الفقر المدقع، فيما ستَظهر أنماط حرجة من الفقر المدقع، كحالات الجوع».
طيّ البلاد مرحلة الفقر العام ودخولها في دائرة الفقر الشديد أو المدقع، يحمل معه مخاطر متعدّدة
وعليه، يمكن القول إن الأثر الأكبر للمتغيّرات الاقتصادية السيئة التي شهدتها البلاد ولا تزال، يكمن في تبدّل مواقع الأسر داخل خطوط الفقر الثلاثة المعروفة عالمياً. إذ تدلّ المعطيات على توسع قاعدة الفقر المدقع، والذي يُستخدم كمؤشر إلى الحرمان من الغذاء، وذلك على حساب المؤشرَين الآخرين: الفقر الشديد المعبّر عن عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، والفقر العام الذي يتضمّن كلّ أشكال الفقر وخطوطه. وبحسب عميد «المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية»، جمعة حجازي، فإن «الفقر الغذائي هو من أهمّ المؤشرات الدالة على الوضع الاقتصادي في البلد المعني، وهو يُقسم إلى قسمين: الفقر الغذائي الأسري، والذي يعبّر عن الحالة التغذوية في الأسرة، والأفراد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهؤلاء وصلت نسبتهم في المسوحات الأخيرة في سوريا إلى مستويات غير مسبوقة، إذ تجاوزت أكثر من 60% من السكان، وهو ما يمكن أن يتطوّر، في حال لم يتمّ توفير حلول ناجعة له، إلى سوء التغذية، فضلاً عن أنه يعبّر في الأساس عن خلل في السياسات التنموية والاقتصادية».
ويضيف حجازي، في تصريح إلى «الأخبار»، أنه «بالعودة إلى دراسة الفقر، والتي أجريت في عام 2004، فقد تَبين في ما يتعلق بشدة الفقر في سوريا، والتي تعبّر عن تبعثر أو تشتت السكان الفقراء على خريطة الفقر، أن انتشار الفقر آنذاك إنما كان على شكل تجمعات سكانية متجاورة، وهو ما يسهل إمكانية الوصول إلى الفقراء وتطبيق برامج تنموية لانتشالهم من دائرة الفقر. كما تبيّن أن النسبة الأكبر من الفقراء كانت متركّزة بالقرب من خط الفقر، وبالتالي كان يمكن انتشالهم من تحت الخط بسهولة أيضاً». لكن في الوقت الراهن، فإن استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية على امتداد الجغرافيا الوطنية، أسهم في توسّع كبير لخريطة انتشار الفقر، وفي ارتفاع نسبة الفقراء لجهة ابتعادهم عن خطوط الفقر المحددة وطنياً، وهذا يعني مزيداً من تأزم الوضع المعيشي والاجتماعي لشريحة واسعة من الأسر السورية، بما يحمله ذلك من مخاطر على عدّة مستويات.
أبعد من نقص الغذاء
طيّ البلاد مرحلة الفقر العام ودخولها في دائرة الفقر الشديد أو المدقع، يحمل معه مخاطر متعدّدة لا تقف عند انهيار الوضع الغذائي لأسر كثيرة لتصل إلى كارثة الجوع، وإنما تمتدّ لتشمل جوانب اجتماعية وصحية. وبحسب ما يشير إليه رئيس مجلس إدارة «الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية»، منير الحمش، فإنه في «ضوء استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية، فإن الوضع الطبيعي سيكون مزيداً من الفقر المدقع ثمّ الموت جوعاً… لكن بالتأكيد فإن السوريين لن يجوعوا ما دامت لديهم إرادة الحياة». ويوضح الحمش، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الخلاص الفردي يمكن أن يتحقّق بجهد شخصي وبمساعدة مختلف الفعاليات المجتمعية، لكن ما يهمّ هو الحلّ المجتمعي على المديَين المتوسط والبعيد، والذي يمكن أن يتحقق بالإرادة، أي بقرار سياسي واجتماعي بالخروج من حالة الفقر، وذلك من خلال انتهاج سياسات اقتصادية موالية للفقراء». وإلّا، فإن المجتمعات الفقيرة ستكون، كما يعتقد حجازي، «أميل إلى الكسل، والبطالة، وتدني الالتحاق بالتعليم، والجريمة والانحراف، وحتى السلوك الإنجابي سيكون ميالاً إلى الخصوبة المرتفعة والإنجاب غير المدروس». ويضيف أن «الفقراء سوف يكونون أيضاً ميّالين إلى إخراج الأولاد من المدرسة لعدم كفاية الدخل لتعليمهم، ما يعني عمالة أطفال أكثر، بالإضافة إلى خصائص أخرى غير مباشرة تتعلّق بالوعي المجتمعي والمواطنة والمشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الواعية»، متابعاً أن «الفقر شرّ بأكمله، ولا يمكن لأي جهود تنموية إزاءه أن تتكلّل بالنجاح ما لم يتمّ التخفيف من حدّته، على اعتبار أن القضاء عليه أمر مستحيل في الأمد المنظور، وإنما التحفيف من آثاره ومن نتائجه قد يكون أنجع وأكثر فعالية».