الكاتب والمفكر الكبير الراحل أحمد بهاء الدين لم ينل مكانته عبثاً، بل كان يستحقها وأكثر، كتب أحمد بهاء الدين هذا المقال في يناير 1970، ونُشر في مجلة روز اليوسف، والرئيس عبد الناصر على قيد الحياة، ثم أعاد نشره في أكتوبر 1970 بعد وفاة عبد الناصر في نفس المجلة.
مقال يلخص تجربة ومعنى وقيمة جمال عبد الناصر، ويحمل نبوءة عن المستقبل تحققت بحذافيرها، مقال يغنى عن قراءة عشرات الكتب.
في كلمات قليلة، أحمد بهاء الدين رسم خريطة العالم العربي في حال غياب عبد الناصر والانقلاب على سياساته.
ورغم ان أحمد بهاء الدين حلل فكر عبد الناصر وسياسات نظامه ودوره في العالم العربي ببراعة، إلا أنه لم يقدم حلاً لكيفية الاستمرار في حال اختفاء عبد الناصر من الحياة.
رحم الله جمال عبد الناصر .. وأحمد بهاء الدين.
نص المقال:
{ ماذا كان عبد الناصر.. وماذا سنكون؟!
من النادر جداً في عالم السياسة أن يحدث مثل هذا التركيز المطلق على شخص قائد، كالتركيز الذى هو حادث اليوم على شخص عبدالناصر..
الشرق الأوسط، منطقة هامة وحساسة لا يمكن أن تغفلها أي قوة كبرى من حسابها. وكل قوة من القوى تحمل في مخيلتها “خريطة” تتمناها لهذا الشرق الأوسط، وتعمل على تحقيقها.
وعبدالناصر، يقف كحجر العثرة في طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة هكذا كان منذ سبعة عشر عاماً، ولا يزال.. القوى الدولية المتصارعة والكتل السياسية هنا وهناك..
فرنسا يوماً وانجلترا يوماً آخر وأمريكا يوماً ثالثاً وإسرائيل كل يوم
ومتعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها..
والمشكلة هي زعامة عبد الناصر
ذلك أننا إذا أردنا في حقيقة الأمر أن نلخص دور عبدالناصر إلى أقصى درجات التلخيص، وأن نلخص الموجة التي دفعها والتي حملته في نفس الوقت لقلنا: إن معركته هي معركة من يريد أن تكون “الإرادة” في المنطقة العربية إرادة عربية والقول في مستقبل العرب للعرب.. ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المحركة في المنطقة مربوطة في النهاية إلى أيد غير عربية وإرادات غير عربية..
هذا هو مغزى زعامة عبد الناصر. وهذا هو مغزى الارتباط العميق بينه وبين الجماهير العربية. هذا الارتباط الذي تحاول إسرائيل أن تدمره بغارات الطائرات!
عبدالناصر يعترض طريق الجميع.. جميع الغرباء عن المنطقة..
ولهذا تفكر إسرائيل والذين وراءها والذين هم معها بقلوبهم أنهم لو كسروا هذه الحجرة، لو كسروا هذه القيادة ونفوذها.. فإنهم يتوقعون أن تتشتت المنطقة وأن تزيغ الأبصار فيها زمناً طويلاً.. كلٌ يتلفت حوله باحثاً عن ملاذ; عن مَخرج; عن مظلة واقية.. ومن يحاول الصمود بمفرده فسيكون ضعيفاً، معزولاً، سرعان ما يحاط به..
وعلى العكس فهم يرون أن مجرد استمرار عبدالناصر رافعاً الراية يشد العزائم وينفث روح المقاومة والرفض في أكثر من قطر عربي ولو دون مبادرة منه.. كالمقاتلين الذين يلمحون -في دخان المعركة وترابها واضطرابها- رايتهم وهي لا تزال مرفوعة فيتشجعون ويلتحقون بالصفوف.
وجود عبدالناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به ويحجر بالتالي على حرية الذين يريدون أن يلعبوا في المنطقة. والقوى الكثيرة التي تريد أن تتخلص منه تريد أن تسترد حرية اللعب وأن تضع كل منها قواعد اللعبة التي تناسبها وهي حرية لا يتمتعون بها في وجود قيادة عبدالناصر وما تمثله لدى الجماهير العربية.
قيادة عبدالناصر تعترض طريق الجميع, جميع الغرباء عن المنطقة.
وقيادة عبدالناصر تحمي الجميع, الذين هم من المنطقة.
أعرف ساسة ورسميين وأفراداً عاديين في أقطار عربية شتى.. ليسوا من الملتقين مع أفكار عبدالناصر ولم يكونوا دائماً من الواقفين معه.. ولكنهم حتى هم في ساعات الظلام والخطر والغموض يجدون أن وجود زعامة عبدالناصر في المنطقة تعني لهم شيئاً, تعني عدم القفز إلى المجهول..
يقول لي مسئول في ركن قصي صغير من أركان العالم العربي: الأجنبي حين يتعامل معنا يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية وهذا شيء أوجده عبدالناصر.
الدرجة الموجودة من عدم التنسيق العربي ومن الترهل العربي ومن التناقض العربي ومن عدم تنبه كافة الأعصاب الحساسة في الجسد العربي يجب أن نعترف بها.. ولكن يبقى أن ثمة شيئاً يضع حداً أدنى لهذا ويحول دون أن يتحول عدم التنسيق والاشتغال بالمعارك الجانبية إلى فوضى شاملة وتسيب كامل فتنقَض الذئاب المنتظرة على القطيع المبعثر المشتت واحداً واحداً.. وهذا الشيء هو قيادة عبدالناصر أنه يحمل على كتفيه.. كل هذا.
حتى من يتدلل ومن يتلهى ومن يجد ترف الانشغال بمعارك جانبية يعرف أن وجود قيادة عبدالناصر في خط المواجهة هو الذى يسمح له بهذا الترف.. وإلا أدركه الطوفان.
حتى من يتمتع بترف آخر هو ترف المزايدة دون أن ينكشف أو يقدم الحساب.. يعرف أن الميزان موجود يغطيه بوجود غيره في خط المواجهة بوجود قيادة عبدالناصر..
وهذا كله يثير الأعداء ويدمر عقولهم.
يثيرهم أن ترتبط “اللعبة” في المنطقة كلها به وهو منتصر..
ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو غير منتصر..
ذلك أنهم يرون المغزى هنا أعمق والارتباط أقوى..
وهم لا يتمنون إلا أن تدب الفوضى ويعم التسيب فتنقض الذئاب الغريبة عن المنطقة العربية على القطيع المبعثر تلتهمه واحداً واحداً.ٍ}
انتهت الكلمة التي كتبتها منذ عشرة شهور وماذا نقول اليوم ؟
نقول شيئاً واحداً: إن هذا الدور لابد أن يُملأ ولا يمكن أن تملأه إلا مصر كلها لأن في استمرار هذا الدور حياتها وحياة كل العالم العربي.
وهذه حقاً كما قال عبدالناصر في أحزن ساعات حياته; ليست ساعة الحزن ولكنها ساعة العمل.
منقول ….