مع حلول الذكرى الثانية والعشرين لوفاة المفكر السياسي الدكتور جمال الأتاسي في ٣٠ / ٱذار / ٢٠٠٠ ، فإننا ننشر له ٱخر مقال سياسي تحليلي واشتشرافي للمتغيرات السياسية ، كتبه الدكتور جمال قبل وفاته بأقل من شهر واحد .
المقال بعنوان :
نحو رؤية للمتغيرات والتحديات السياسية في أبعادها الدولية والاقليمية والعربية
والذي يطل عبر هذا العنوان على التحدي الذي كان يلح عليه في العديد من مقالاته ، ليبادر في هذا المقال بالتوقف عنده :
ما العمل ؟؟؟
الدكتور جمال الأتاسي
الجزء الأول
حركة التاريخ تقدمية في اتجاهها العام ، لكنها تحمل الكثير من التعرجات والانكسارات ، التي تضيع معها الرؤية الدقيقة لاتجاه الحركة ما لم تكن النظرة إلى أحداث التاريخ شاملة وثاقبة .
إن رؤية الأحداث في لحظات التحولات الكبرى والانقلابات العظمى يجب أن لا تؤدي الى ضياع القدرة على التحليل وعلى وضع هذه المتغيرات في سياق الجدل التاريخي الإنساني ، باعتبار هذه التحولات هي تراكمات كمية ، وهي رغم ما تثيره من جدل وصخب ، ليست سوى محطات في التطور الإنساني ، وهي محطات يجب قراءتها من منظورين :
الأول : شمولي عام يراها في جدلية الصراع التاريخي الانساني في سيرورته الطويلة يثبت او يصحح النظريات الاجتماعية والفلسفات الكبرى .
الثاني : مرحلي حيث تفرض هذه التطورات والتحولات معطياتها على أدوات الحركة الانسانية ومفرداتها خلال المدى الذي تفرضه قبل أن يولد التراكم الكمي فيها تحولات نوعية جديدة .
ومنذ أكثر من عقد مضى ، وقعت أحداث وتطورات شكلت تحولات نوعية كبرى على مستوى العلاقات الدولية ، وتركت آثارا مهمة على مجمل الحياة السياسية وعلى خريطة الدول والقوى ، وفرضت تغيرا بالمفاهيم والأفكار التي سادت خلال الحقبة الماضية .
إن هذه التحولات وإن بدا بعضها مفاجئا لكل الاستشرافات السابقة ، نظرا لتسارع الأحداث والتطورات وعمقها ، إلا أن تلك التحولات ما جاءت من فراغ وإنما سبقتها تراكمات كمية ما كان يمكن ملاحظة نتائجها بالدقة والوضوح الذي هي عليه اليوم
أولا : المتغيرات الدولية :
في عام 1980 تحرك الزلزال في دول المعسكر الاشتراكي تحت دعوى التصحيح والشفافية ، تلك الدعوة التي أظهرت الأحداث أن الأزمة أعمق من أن تصحح بالشفافية المطروحة ، وأثبتت الوقائع أن تلك الدعوة رغم صحتها لم تكن مبرأة ولا بريئة ، بل هي إحدى أدوات الصراع الكوني ومحطاته ، وتلا الانهيار الزلزال ، فزال من الوجود المعسكر الاشتراكي الذي تحول الكثير من دوله إلى المعسكر الآخر ، وكانت قمة الانهيار تمزق الاتحاد السوفيتي المركز الثاني للقطبية الدولية الثنائية ، وإعلان هزيمة نظامه امام خصمه التقليدي الذي بات قطبا وحيدا مهيمنا على الساحة الدولية ، وهي هيمنة لم تفرض نفسها على الساحة التي كان يتحرك فيها المعسكر الآخر ، بل أيضا داخل المعسكر الغربي الذي كانت بعض دوله تتحرك ضمن الهامش الذي يتيحه الصراع القطبي الذي عرف باسم الحرب الباردة ، وهو هامش أتاح لبعض الدول التي أحسنت الاستفادة منها تحقيق مكاسب في سياق عملية التنمية ، وكانت المكاسب حقيقية وثابتة في المواقع المؤهلة لتثبيت المكاسب كما حدث في ألمانيا التي استفادت من مشروع مارشال لاستعادة مكانتها الاقتصادية ، كذلك اليابان التي استثمرت منعها من العمل في مجال السلاح لتركز جهودها التنموية في مجال التكنولوجيا الصناعية والتقدم العلمي ، كما كانت المكاسب وهمية وطارئة لدى دول أخرى على غرار الكثير من دول العالم الثالث التي اختارت معظمها بداية الاعتماد على الشرق أو الغرب لتحقيق تنمية مستعارة ووهمية ، كما حدث للارجنتين والبرازيل وتركيا ، وبعض الدول الافريقية والآسيوية .
لقد أتاح انهيار المعسكر الاشتراكي للولايات المتحدة الأمريكية فرصة تاريخية لفرض معالم وقيم النظام الدولي الجديد الذي راحت تبشر به وتدعو إليه ، وهو نظام يقوم على فرض الهيمنة الامريكية على العالم كله بما فيه الدول الغربية الرأسمالية التي كانت جزءا من المعسكر الغربي والتي كانت تتمتع بنوع من الحرية التنافسية النسبية مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل القيادة الأمريكية للمعسكر الغربي ، كما ترافق مع صعود قوى أكثر محافظة في داخل المجتمع الأمريكي ، كانت قمة تعبيراتها في قيادة الرئيس الامريكي الأسبق رونالد ريغن ومن ثم خليفته جورج بوش ، تلك القيادة التي قالت بالنظام العالمي الجديد ، وقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على الإمساك بهذا الفوز لتحوله من انتصار راهن ولحظي إلى انتصار له طابع الاستمرار والديمومة من خلال إكسائه قيما وأفكارا أخلاقية وفلسفية محددة تبرر للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة على العالم من أجل نشر تلك الأفكار والقيم التي أخذت عنوانا أساسيا لها هو التمسك بمبادئ حقوق الإنسان ونشر قواعد الديمقراطية ومحاربة الإرهاب ، وهي القيم التي تم التعامل معها بشكل انتقائي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أساسا والقوى المتحالفة معها .
لقد مهد لهذه القيم عبر الترويج لمقولة سقوط الأيديولوجيا لصالح البراغماتية أي سقوط العقائد والفلسفات والنظريات الاجتماعية الكبرى لصالح المصالح النفعية ، رغم أن هذه المقولة ما هي إلا ستار وشعار يهدف الى تأكيد انتصار الرأسمالية وجعله انتصارا نهائيا ، حيث أن جوهر الراسمالية هو مفهوم المنفعة والربح ، وجرى تعزيز تلك المقولة من خلال نظرية نهاية التاريخ والتي طرحها ” فوكوياما ” والتي تقول ان الصراع والجدل الإنساني الذي ولد تطور المجتمعات وانتقالها من المشاعية الأولى الى الاقطاع وثم الى النظام الرأسمالي الذي تصارع بقوة مع نقيضه الاشتراكي قد توقف عند الشكل الراهن للرأسمالية .
وجاءت الثورة الصناعية الجديدة في مجال علوم الالكترون و الكمبيوتر وتطوراتها الكبرى لتدعم محاولة تثبيت الانتصار الرأسمالي في ظل الهيمنة الامريكية ولتجعل من ” العولمة ” مدخلا تكرس الواقع الراهن وتشل امكانيات الوقوف في وجهه وتحديه ، ” فالعولمة ” تعني بشكل عام اندماج اصوات العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من راسمالية حرية الأسواق وخضوع العالم لقوى السوق العالمية ، مما يؤدي الى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة ، وإن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة ( المتعددة الجنسيات ) .
والعولمة هي الظاهرة الأبرز في التطور العالمي على الصعيد الاقتصادي ، والسياسي ، والإعلامي ، والثقافي والعلمي ، وعلى صعيد الاتصالات ، وهي نتيجة منطقية للتقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع ، وقد أدت إلى إلغاء المسافات ، والحدود الجغرافية ، وتتجلى في الجانب الاقتصادي بظاهرة تدويل النشاط الاقتصادي ، وغلبة العالمي على المحلي ، وقيام التكتلات الاقتصادية الكبرى … وتنطوي على إمكانيات كبيرة للتقدم وقيام علاقات اقتصادية جديدة بين دول العالم والى تقسيم جديد للعمل ، وانتاج مشاريع ضخمة بمشاركة دول عديدة …
وقد تعاظمت ظاهرة العولمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي مما مهد لها الطريق لمحاولة إقامة هذا الاقتصاد العالمي الذي يتمركز حول محوره الرأسمالي المتقدم ويجعلها مرتبطة بمنطق السوق وآلياته . والتحديات التي تطرحها العولمة كثيرة في ظل النظام الدولي الراهن لأنها تقوم على الاحتكار والاستئثار وروح الهيمنة وتعمل على تعميق التفاوت الاقتصادي بين البلدان الصناعية والدول النامية على غرار أسواقها وتفاقم أزماتها ، وتحويلها الى دول مستهلكة تهدد وحدة البلدان السياسية وثقافتها ، وتعمل على إلغاء دور الدولة الوطنية او القومية ، وهي تطرح مسألة دور الدولة ، وحدود هذا الدور ومدى تأثير العولمة على سيادة الدولة الوطنية ، والقومية وهويتها .
إن ظاهرة العولمة لا يمكن تجاهلها أو مواجهتها بالانغلاق والتقوقع ، ولا يجوز الاستسلام لها والتسليم بآثارها ونتائجها ، ولا بد من الاستجابة للتحدي ، بما يقلل من آثارها السلبية ويطور آثارها الايجابية على جميع الاصعدة ، مما يقتضي تحصين الاقتصاد لتعزيز الاستقلال الوطني والقومي ، وزيادة نمو دور الشعب في شؤون الحكم وبرامج التنمية ، وتعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية ، ولابد من دولة تحظى بثقة الشعب وتأثيره ، وتدرك أهمية الديمقراطية .
كما ينبغي تطوير التضامن العربي ، وروابط الوحدة والتكامل الاقتصادي والسوق العربية المشتركة ، وتدعيم الهوية القومية وارتباطها بمرجعيتها الثقافية ، والعمل على قيام حوار جدي بين الثقافات والحضارات والانفتاح على المعارف والمعلومات والاتصالات ، وتطوير البحث العلمي كل ذلك لكي نستطيع التخفيف من آثار العولمة والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية .
مع هذه المتغيرات الدولية سقط الكثير من أدوات الصراع الدولي ومؤسساته ومفاهيمه .. فعلى سبيل المثال فإن مقولات عدم الانحياز والحياد الإيجابي ومنظماتها باتت تحتاج الى مفاهيم وبرامج.جديدة ، كما سقط الكثير من السياسات التي اعتمدت على الاستفادة من الحرب الباردة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ، ولعل انهيار النمور الآسيوية هو إحدى النتائج المباشرة لنهاية الحرب الباردة ، حيث أن ظاهرة النمو الاقتصادي التي شهدتها دول شرقي آسيا التي اتبعت النظام الرأسمالي الغربي لم تكن في حقيقتها ظاهرة نمو طبيعي داخلي فحسب بل رافقها نمو ودعم ومساندة اقتصادية غربية واستثمارات في إطار الحصار الذي فرضته المراكز الغربية على المد الاشتراكي الذي انتشر في تلك المنطقة ، وهدف ذلك النمو المستند الى الدعم الأمريكي الغربي الى تقديم الرأسمالية وكأنها الحل الناجع أمام الشعوب المتخلفة من أجل تحريضها للتخلي عن خيارات الاشتراكية ودعم المعسكر الاشتراكي .
إن قراءة هذه المتغيرات الدولية لا يجب ان تدفع الى الاستسلام أمام الرأسمالية الامريكية والتسليم بدور التابع لها ، بل يجب ان يدفع الى تشكيل أدوات ورؤية جديدة للصراع الدولي الذي تبدو صورته الأساسية في الصراع بين المراكز الرأسمالية الغربية وخصوصا الأمريكية منها وبين الدول والشعوب النامية ، وهي لا تشمل اليوم الدول التي كانت منضوية في مجموعة دول عدم الانحياز بل جميع دول العالم قاطبة ، خارج إطار الدول الصناعية السبعة الكبرى المهيمنة على الاقتصاد والتكنولوجيا العالميين ، مع ملاحظة إمكانية الاستفادة من التناقضات واختلاف المصالح فيما بين هذه الدول وبشكل خاص التناقضات المحتملة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الاتحاد الأوربي واليابان ، وفيما بين أمريكا وروسيا والصين أيضا .
يتبع الجزء الثاني