بقلم: محمود غزال – حلب
في ظل التوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، يغيب عن المشهد التحليلي العربي سؤال جوهري: هل نحن مضطرون للاصطفاف خلف أحد الطرفين؟ أم أن هناك خياراً ثالثاً أكثر انسجاماً مع مصالح الشعوب العربية وطموحاتها في الاستقرار والسيادة؟
المواجهة الراهنة ليست مجرد خلاف جغرافي، بل صدام بين مشروعين توسعيين يمارسان الهيمنة كلٌّ على طريقته:
إيران تقدم نفسها كقوة “مقاومة”، لكنها في الواقع نسجت شبكة مذهبية–أمنية عبر العراق وسورية ولبنان واليمن، أصبحت عبئاً على وحدة هذه الدول واستقرار شعوبها.
إسرائيل، من جانبها، لم تعد تحكمها التوازنات العقلانية، بل حكومة يمينية متطرفة تتبنى منطق القوة المطلقة والردع النووي، وتسعى لفرض نفسها كمرجعية إقليمية تحت غطاء “الأمن القومي”.
كلا المشروعين لم يخدما العرب، بل دفعاهم إلى مزيد من الانقسام، وأغرقت المنطقة في حروب بالوكالة وأزمات متلاحقة. وأي انتصار لطرف على الآخر لن يكون نصرًا للأمة، بل خطوة جديدة نحو تعميق التبعية وتوسيع ساحة الفوضى.
المشروع الإيراني اليوم لم يعد بتلك القوة التي يخشاها الجميع. فبعد الثورة السورية، تعرضت طهران لاستنزاف اقتصادي وأخلاقي واسع، وانكشفت أدواتها الإقليمية التي فقدت صدقيتها لدى الشعوب. حتى حزب الله، الذي كان يُقدَّم كنموذج مقاوم، تآكلت شرعيته بفعل تورطه في قمع السوريين وتحوله إلى ذراع أمنية للحرس الثوري.
في المقابل، فإن انتصاراً إسرائيلياً كاسحاً لن يعزز “أمن المنطقة”، بل سيُطلق يد إسرائيل في الضم والعدوان والتوسع، وسيمنح حكومتها تفويضاً مفتوحاً لمزيد من التدخلات العسكرية والاستخباراتية في عمق العالم العربي.
لهذا، فإن الخيار العقلاني الوحيد هو أن يخسر الطرفان. خسارة إيران تعني تحجيم مشروعها النووي والأمني وفتح الباب أمام إصلاح داخلي طال انتظاره، خاصة في ملف العرب الأحوازيين وغيرهم من المضطهدين داخل حدودها. وخسارة إسرائيل تعني كسر غرورها الاستراتيجي وإجبارها على التراجع عن سياسات الضم والاستيطان، ووقف محاولاتها إعادة هندسة الإقليم لصالحها.
لكن هذه الخسارة المزدوجة لا يجب أن تكون نهاية المطاف، بل بداية ممكنة لتشكّل نظام إقليمي جديد، قاعدته السلام لا الحرب، والتكامل لا الصراع.
وهنا، تبرز فرصة حقيقية أمام تركيا والدول العربية لتشكيل محور ثالث – عقلاني ومرن – يتجاوز ثنائية طهران/تل أبيب، ويعيد تعريف أولويات المنطقة وفق معايير جديدة:
• احترام السيادة الوطنية لكل دولة.
• الاستثمار في التنمية والتكامل الاقتصادي.
• بناء شراكات أمنية لا تقوم على التغوّل أو الابتزاز.
• الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامة الشعوب، لا أنظمة المصالح المغلقة.
إذا استطاعت تركيا أن تتحرر من نزعتها العثمانية القديمة، وتغادر موقع المنافس لصالح موقع الشريك، وإذا توافقت القوى العربية الفاعلة على رؤية مشتركة، فإن الإقليم قد يدخل أخيراً عصر ما بعد الهيمنة، ويبدأ في إعادة البناء على أسس التوازن لا التبعية.
الشرق الأوسط لا يحتاج إلى منتصر جديد يُعيد إنتاج الاستبداد والخراب، بل إلى مشروع مشترك للسلام والتنمية، يكون الشعب العربي فيه فاعلًا لا ضحية، وصاحب مصلحة لا ورقة تفاوض.
ربما يكون الخيار الثالث الذي نحلم به صعباً، لكنه لم يعد مستحيلاً.
الطريق يبدأ من الوعي بأننا لسنا مضطرين للاختيار بين سلاح طهران ومفاعل ديمونا، بل يمكننا بناء مسار جديد… يكون الناس، لا الأنظمة، هم مركزه، والسلام، لا الصواريخ، هو لغته.