بقلم: حسين حمدان العساف – الحسكة
الخميس 13 تشرين الثاني 2025
ما إن قامت الثورة السورية في الثامن من كانون الأول للعام أربعة وعشرين بعد الألفين، وحررت الشعب السوري من نظام طاغية استبدّ به قرابة ستة عقود، حتى وجدت نفسها محاطة بأمواج متلاحقة من التحديات الخارجية والداخلية: عزلة سورية عن العالم، وحصار اقتصادي مفروض عليها ولاسيما تطبيق قانون قيصر، وقصف إسرائيلي متكرر دمّر البنية العسكرية للجيش السوري، وتحديات داخلية اقتصادية وأمنية وسياسية بما أحدثه نظام الأسد من دمار هائل في المدن والمنشآت الاقتصادية والمرافق الحيوية والبنى التحتية، وتهجير ملايين السوريين إلى دول العالم، واتساع دائرة حقول الألغام في المناطق السورية المختلفة، وبروز المجموعات المسلحة التي غصّت بها سورية، وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة بما وسّع دائرة الانفلات الأمني وما نتج عنه من نهب وسطو وسرقات واغتصاب، وتزايد أنشطة عصابات الكبتاغون. كما واجهت الإدارة الجديدة تحدياً آخر تمثل في صعود أنشطة المعارضة الداخلية بتلاوينها المختلفة التي صبّت وابل انتقاداتها ومآخذها عليها، ويمكن تصنيفها تبعًا لوجهات نظرها تجاه الإدارة الجديدة إلى نوعين:
1 ـ المعارضة المتطرفة:
ترى أن الإدارة الجديدة انطلقت من خلفية إسلامية متشددة هي امتداد لهيئة تحرير الشام والفصائل الجهادية المنضوية تحت لوائها، وهي ـ في نظرها ـ جماعات إرهابية يقودها إرهابي متطرف، اعتمدت لونًا واحدًا في الحكم ودستورًا مؤقتًا ينص على أن الإسلام دين الدولة، وأن الفقه الإسلامي مرجع التشريع. وتتهمها بخلط الدين بالسياسة، وتقلّل من شأن إنجازاتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فلا تقف عندها ولا تلتفت إليها، بل تضخّم تجاوزاتها، وتتصيد صغائر أخطائها. وترى هذه المعارضة أن الحكومة الجديدة لم تقدّم للشعب السوري ما وعدت به، فلا حسّنت أحواله المعيشية، ولا حلّت أزماته المتفاقمة، ولا نهضت بإعادة إعمار البلد أو تأهيل بناه التحتية، ولا حققت شيئًا من العدالة الاجتماعية، وتريد منها أن تحقق أهداف المرحلة الانتقالية المحددة بكبسة زر أو بلمسة سحرية، وأن تبني في بضعة أشهر ـ لا في سنوات ـ بلدًا دمّر الفقر والظلم والقتل والتشرّد بنيانه. ومن ثم فهي ـ بنظرها ـ إدارة فاشلة ستجرّ البلد، إذا بقيت في الحكم، إلى مزيد من الكوارث. وعلى هذا الأساس شنّت هذه المعارضة حملات إعلامية تشوّه الثورة أمام ملايين السوريين الذين التفوا حولها واحتضنوها. والإدارة الجديدة تستقبل إنكار المعارضة وانتقاداتها ولسان حالها يردد ما قاله الشاعر القديم:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا ……… مني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
لم تعترف هذه المعارضة بشرعية حكومة الإدارة الجديدة ولا بشرعية رئيسها المؤقت الذي ما تزال تلاحقه باسمه القديم “أبو محمد الجولاني” تقصد به “الإرهابي”، وتجدد له تهمة الغرب، في حين أن مجلس الأمن والغرب نزعا عنه هذه الصفة، وأمريكا ألغت الجائزة التي خصّصتها لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى إلقاء القبض عليه. وترى هذه المعارضة أن إدارة المرحلة الجديدة ستنتهي بها إلى إقامة دولة إسلامية لا مدنية في سورية، ولذلك فهي تنظر إلى ما حدث في سورية على أنه انقلاب عسكري لا ثورة. وتتصدر مشهد هذه المعارضة القوى الانفصالية التقسيمية أعداء وحدة سورية، الساعية إلى التحكم بمستقبل أكثرية الشعب السوري المطالب بوحدة سورية المركزية، لفرض الفيدرالية عليه. وقد هرول تحالف الأقليات في سورية إلى عقد مؤتمر في تل أبيب يوم الاثنين 27 تشرين الأول 2025م بتوجيه وإشراف ودعم من إسرائيل، ساعيًا لإقامة دويلات انفصالية عرقية ومذهبية بقناع برّاق هو النظام الفيدرالي.
2 ـ المعارضة المعتدلة:
تتمثل بالشخصيات الوطنية والأحزاب الوحدوية والسورية وسائر التيارات المعتدلة ومؤسسات المجتمع المدني. وهذه المعارضة توافق المتطرفة في عدد من مآخذها على الإدارة الجديدة، لكنها تخالفها في بعضها الآخر. فهي ترى أن الإدارة الجديدة غلب عليها اللون الإسلامي، ولم تتبع التشاركية في الحكم التي تشمل ممثلين عن أطياف الشعب من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية، وأن القيادة عيّنت في مفاصل الدولة بعض المسؤولين الذين لم يكونوا أهلاً لمواقعهم، مما أثار تذمر المواطنين. لكنها تعلل هذه الظواهر بالظروف الموضوعية، وترى أن القيادة الحالية، في غالبيتها من فصائل الثورة العسكرية، تتولى عبور المرحلة الانتقالية المضطربة إلى مرحلة الاستقرار، وأن منهجها في إدارة المشكلات الموروثة عن نظام الاستبداد منهج مؤقت لا ثابت، ستطرأ عليه تغييرات تدريجية، وأن غلبة اللون الواحد ستتراجع، رغم ضعف تمثيل بقية الأطياف. وتدرك هذه المعارضة صعوبة المرحلة الانتقالية، وترى ضرورة منح الإدارة الفرصة الكافية لإنجاز مهامها المعقدة، وهي تتابع أداءها؛ فتؤيد الإيجابي، وتنتقد السلبي نقدًا بنّاء، من دون إطلاق أحكام مسبقة على مرحلة ما تزال في بداياتها.
وموقف هذه المعارضة ـ كالمؤيدين ـ ينطلق من الحرص على وحدة البلد وسلامة أراضيه وتماسك جبهته الداخلية، وإدراكها أن معاداة الثورة السورية والوقوف إلى جانب خصومها الانفصاليين سيضعف قدرة الإدارة على الصمود ويخلخل الجبهة الداخلية، ما يمنح خصومها قوة تعزز قدرتهم على إسقاط الثورة التي حررت الشعب السوري من نظام الأسد، والعودة بالبلد إلى الفوضى والفلتان الأمني والتقسيم وتشظي الدولة الواحدة إلى دويلات عرقية وطائفية ترهن مصيرها بيد إسرائيل. لذلك، فإن نقد هذه المعارضة يصدر من باب الحرص على وحدة سوريا واستقرارها.
3- إنجازات الإدارة الجديدة:
لعل أهم ما أنجزته الثورة إسقاط نظام الأسد وتطهير البلد من المشروع الإيراني وميليشياته بأسمائها المتعددة من لبنانية وعراقية، ومن الهيمنة الروسية. وتعمل إدارة المرحلة الانتقالية منذ بداية التحرير بخطى حثيثة لتحقيق أهداف الثورة في بناء دولة سورية جديدة. وقد بذلت جهودًا مكثفة في مكافحة الفساد والمخدرات وعصابات الإجرام، وسعت إلى إقرار السلم الاجتماعي ما استطاعت إليه سبيلاً، وحسنت أجور العاملين في الدولة، وأجرت إصلاحات اقتصادية وسياسية في الداخل، واستطاعت كسر طوق العزلة الذي فرضه النظام المباد على سورية، فنسجت علاقات دبلوماسية واقتصادية جديدة مع دول الجوار وبقية دول العالم، واستقطبت استثمارات أجنبية مع شركات دولية تتضمن مشاريع لإعادة تأهيل البنى التحتية والإعمار والنقل وتوفير فرص العمل. وهي تسعى لتعزيز ثقة المستثمرين الدوليين بالسوق السورية. وقد حققت خلال أشهر قليلة ما لم تحققه دول مستقرة في سنوات، فظهرت للعالم بصورة جديدة مختلفة عن صورتها السابقة، وانتقلت من التشدد إلى الوسطية ومن التطرف إلى الاعتدال، وصارت تنظر إلى المشهد السياسي بأفق يستوعب الجميع.
أدى هذا التحول في النهج إلى تغير نظرة الغرب، فأزيلت صفة الإرهاب عن أبو محمد الجولاني الذي صار أحمد الشرع رئيسًا لسورية، وألغت أمريكا المكافأة المرصودة لمن يدلي بمعلومات عنه. وسيمتد هذا التعامل الجديد ليشمل هيئة تحرير الشام وبعض فصائل الثورة المعتدلة. وانفتح العالم أمام الإدارة الجديدة؛ فدُعي الرئيس أحمد الشرع لإلقاء كلمة سورية في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 24 أيلول 2025م، كما زار واشنطن بدعوة أمريكية، وهي الزيارة الأولى لرئيس سوري منذ الاستقلال عام 1946م، والتقى الرئيس الأمريكي دولاند ترامب. وأثمر هذا التحول أعظم إنجاز اقتصادي لسورية، وهو إلغاء العقوبات الدولية عنها، واقتراب إلغاء قانون قيصر.
تعمل القيادة أيضًا على بسط سيادة سورية على كامل أراضيها، وفتحت باب حرية الرأي والرأي الآخر إلى حدّ ملموس. فبات المواطنون يتظاهرون ويحتجون على قرارات الغلاء وقرارات الجامعات، ويطالبون باستقالة من يرونه غير كفؤ. ووجدت المعارضة بكل ألوانها الباب مفتوحًا أمامها للدخول إلى وسائل الإعلام وانتقاد السلطة حتى الرئيس، في حين أنها لا تسمح لخصومها بانتقادها داخل منابرها، ولم يكن نظام الطاغية يسمح بذلك.
وانتقدت المعارضة نصًا في الإعلان الدستوري المؤقت يشير إلى أن الإسلام دين رئيس الدولة وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع. ولو استعرضنا الدساتير السورية منذ تأسيس الدولة إلى ثورة الثامن من كانون الأول لعام أربعة وعشرين وتسعمئة وألف لرأينا أن اثنين فقط نصّا على دين الملك أو دين رئيس الجمهورية (دستور 1920 و1930)، بينما جميع الدساتير اللاحقة، ومنها دستورا الأسد الأب والابن، وكذلك الإعلان الدستوري لعام 2025م، نصّت على أن الإسلام دين رئيس الجمهورية، وأن الإسلام المصدر الرئيس للتشريع. والسؤال: لماذا كثر احتجاج المعارضة على النص في الإعلان الدستوري المؤقت ولم تحتج عليه في دستوري الأب والابن والدساتير الأخرى؟
ومن جهة أخرى تواجه الإدارة تحديًا آخر في بنيتها الذاتية، فالفصائل العسكرية المنضوية تحت هيئة تحرير الشام ـ التي انبثق عنها جيش واحد وجهاز أمني واحد ـ تضم نحو عشرين فصيلاً، سورياً وغير سوريّ، متفاوتة الرؤى والأهداف والانضباط، وبعضها انتهك مبادئ الثورة وحقوق الإنسان خارج القضاء، وسار على نهج النظام المخلوع، ما أساء إلى صورة الإدارة الجديدة. وتجد القيادة حرجًا في مواجهتهم لأنهم شاركوا في الثورة وقدّموا تضحيات، كما أنهم شاركوا في انتخاب أحمد الشرع رئيسًا لسورية. لكن المطلوب من الرئيس أن يتجاوز هذا الحرج حفاظًا على أمن البلد وتطبيق العدالة الانتقالية، وأن يصدر أوامر صارمة تمنع الانتهاكات وتؤكد على كرامة المواطن وتمنع التوقيف أو السجن أو القتل قبل المحاكمة. فلا يُعقل أن تطبق الحكومة العدالة على الناس وتترك فئات من فصائلها المسلحة تتمرد بلا رادع.
4- المطلوب عاجلًا:
تواجه الإدارة الانتقالية عواصف غاضبة من المخاطر والتحديات تهدد العملية الانتقالية وتنذر بإسقاط الثورة وسط ظروف أمنية هشة. ولا خيار لها لمواجهتها إلا بجبهة داخلية صلبة متماسكة تسندها. ويتوقف تصليب هذه الجبهة على تحقيق ما يأتي:
1 ـ انفتاح القيادة على جميع أطياف الشعب السوري دون استثناء، وتمثيلهم في مؤسسات الدولة دون تغليب لون على آخر، ومنح المرأة تمثيلًا أوسع يتناسب مع قدرتها على العطاء.
2 ـ تعديل الدستور الانتقالي بالتوافق إلى دستور جديد يواكب التطورات الاجتماعية، ويضمن الحقوق المشروعة لجميع أطياف الشعب، ويحافظ على وحدة سورية وسلامة أراضيها.
3 ـ توحيد فصائل الثورة وانسجامها فكريًا وميدانيًا، وتطهيرها من الفئات غير المنضبطة التي تسيء إلى صورة الثورة.
4 ـ تحسين الأوضاع المعيشية للفقراء وذوي الدخل المحدود، وزيادة أجور العاملين بما يلبّي حاجاتهم، وضبط أسعار المواد التموينية بصرامة.
5 ـ إصدار قانون الأحزاب، وإشراك القوى السياسية الوطنية المعارضة للنظام المباد في الحكم، باستثناء الأحزاب الطائفية والعنصرية والدينية، وإقامة حياة ديمقراطية تقرّ بحق الاختلاف وحرية الرأي والرأي الآخر.
6 ـ السير الجاد نحو تحقيق ما يمكن من العدالة الاجتماعية وإنصاف المظلومين وذوي الشهداء والمفقودين، وإعادة المفصولين والمنشقين إلى مواقعهم، بحيث يأخذ كل ذي حق حقه دون تمييز.
إن توفر شروط بناء جبهة داخلية صلبة يعزز مسار قيادة المرحلة الانتقالية، ويتطلب عملًا مكثفًا ووقتًا غير قليل، مع مسابقة الزمن لإنجازها. وفي موازاة ذلك، لا بد للقيادة من توطيد علاقاتها مع الدول التي دعمت الثورة، والانفتاح على الدول العربية والإقليمية والغربية وأمريكا وبناء علاقات قوية معها في مختلف المجالات للنهوض بالتجارة والاقتصاد وترسيخ النهضة العلمية، القوة الكافية من التصدي للأخطار والتحديات والانتصار عليها. وحينها تستطيع أن تعبر بسورية مخاض المرحلة الانتقالية نحو مرحلة الأمن والاستقرار، لتشهد ولادة دولة سورية مدنية جديدة واحدة، تكون السيادة فيها للقانون والمواطنة والمؤسسات.

