لم يكن أحد يتوقع أن السوريين سيفجرون الثورة في منتصف ٱذار ٢٠١١ وسيخرجون من قمقمهم بعد ان اطبق النظام – عبر مراحل متلاحقة – الخناق عليهم بلعنة الاستبداد ما يقارب الستين عاما ، عبر تصحير الحياة السياسية ، وإغلاق كل أبواب الحراك الشعبي بالملاحقات والاعتقالات ، وتكريس ثقافة الرعب ، واضعا الشعب السوري أمام خيارين : التسبيح والتمجيد بحمد النظام والرضوخ لأوامره ، أو النفي الأبدي في سجونه ومعتقلاته ..
وعلى الرغم من كل ذلك فإن ثورة الحرية والكرامة انطلقت سلميا بجموع الشعب السوري، وخطت ملاحم البطولة والصمود رغم الضحايا والدمار ، والتشرد والنزوح ، وكادت أن تصل إلى أهدافها لولا تدخل المتدخلين في الخارج والداخل ، لحرف مسار التغيير ومحاولة إعادة عقارب الساعة الى الخلف تحت شعارات وأهداف لم تكن أبدا من حوامل الثورة او أهدافها عن طريق منظمات وفصائل حولت اتجاهها باتجاه عسكرتها ، ودفعت بها الى حرب فصائل عسكرية تتنافس على مكتسبات مواقع وامتيازات ، بعيدا عن منطلقات الثورة وغاياتها ، ومن ثم إدخالها في التطييف الطائفي واستخدام الدين بإعلان ” الخلافة الاسلامية “، أو الدولة الدينية عبر منظمات متطرفة ، وسيلة لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية ، وانسجاما مع اجندات خارجية بعد ان تم تدويلها وتحويلها إلى أزمة تمتد أيادي الدول إليها لحرف مسارها ، وإغراقها بمزيد من التشويه بما حاكته ولا زالت تحيكه في الغرف المغلقة القوى المتدخلة بالملف السوري لإجهاض التغيير السياسي الذي أرادته جموع شعبنا ، والعمل مع النظام على عرقلة أي حل سياسي يضمن الحرية والكرامة والعدالة لشعبنا .
واليوم ، وبعد دخول الثورة السورية عامها الثالث عشر ، فإن شعبنا إذ يستشعر ما يحاك من مساعي لإنهاء ثورته ، وسعي لتجاوز القرارات الدولية التي ترسم خارطة طريق للانتقال السياسي ، سواء باللعب على الزمن وامتداده ، او بتقزيم هذه القرارات الى مجرد محاربة الإرهاب ، والدعم الانساني او ما اطلق عليه بالانعاش المبكر .. بعمليات تطبيع متسارعة مع النظام وأركانه ، بدون اية شروط فعلية للإفراج عن المعتقلين السياسيين وكشف مصير المغيبين أو تسوية الأوضاع الإنسانية للنازحين والمهجرين .. او ضمان إنجاز تسوية سياسية وفق القرارات الدولية وخاصة بيان جنيف ١ والقرار ٢٢٥٤ / ٢٠١٥ ، وإنما تجري الاتصالات العربية والاقليمية والدولية فوق الطاولة وتحتها ، بمزاعم ووعود وأمنيات فضفاضة يعرفون مسبقا أن النظام لن يقدم أي تنازل يهدد وجوده وسلطته ، كما يعرفون بأن تلك الوعود لن تصل الى ما كانت تأمله جموع الجماهير التي انتفضت بثورتها السلمية للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي …
ومن هنا لا بد من التوقف عند الملامح الاساسية التي طبعت الثورة السورية بطابعها الخاص وصولا الى الحالة الراهنة التي وصلنا إليها :
١-الحراك الثوري الشعبي تجاوز النخب والكتل السياسية ، وتجمع في مظاهراته وتجمعاته بوحدة وطنية قل نظيرها تحت شعار ” واحد .. واحد ، الشعب السوري واحد ” ، ولكن أغلب تلك النخب والكتل السياسية التي كانت غائبة بداية عن قيادة حركة التغيير ، وركبت فيما بعد موجة التغيير، دخلت فيما بينها في نزاعات وصدامات سياسية بعضها ما قبل وطنية ، قائمة على الإقصاء المتبادل قادت الى الفوضى السياسية والاجتماعية .. أدخلت البلاد في صراعات أقلوية ومناطقية وساهمت في حرف مسار التغيير الذي اندفع وضحى الشعب من أجله .
٢- الثورة أسقطت مقولة سكونية الوضع السوري , لامتلاك النظام القوة والقدرة على التحكم بكل مفاصل مؤسسات الدولة بقواه الأمنية , وللاختلال الكبير بين الإمكانات الضخمة له , وضعف قدرات القوى الشعبية وعجزها عن مواجهته وتغييره , وتحكم ثقافة الخوف في عمقها ووجدانها عبر تاريخها الطويل . إلا أن وقوع الثورة في دوامة العنف والعنف المضاد وما رافقه من قتل وتدمير ونزوح وتشريد وتخريب للبنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية والدخول في نزاع مسلح طويل الامد قد أوقعها في شراك حرب أهلية أو إثنية ، أحدثت جروحا عميقة في البنى الاجتماعية والأسرية قد لا تندمل لعقود ، وتستغلها اليوم قوى انفصالية تدفع بدعم وتمويل خارجي إلى الترويج لكيانات انفصالية والتحضير لهذه الكيانات تمهيدا لفرضها كأمر واقع على الخريطة السورية .
٣- إذا كانت البنية الأمنية للدولة والتحكم الأمني بمفاصلها وما استتبع من فساد وإفساد وانتشار الفقر والبطالة … مدخلا لانطلاق شرارة الثورة السورية ، فإن النزعة الشمولية للنظام وعجزه عن الإصلاح كان السبب الأساسي في تراكم الغضب الشعبي وانفجاره . وبالرغم من أن الحراك الثوري كانت مطالبه بالبداية لا تتعدى الاصلاح وتغيير نمطية التعامل الأمني مع المجتمع ، إلا أن مواجهة المطالب المحقة بالعنف المفرط والملاحقات والاعتقالات ، حول هذا الحراك إلى ثورة تطالب بالتغيير الجذري الشامل .
ولقد أثبتت تجارب الأمم وتجربة الثورة السورية , أن الاستبداد لا يراجع نفسه , وأن حركة التغيير لا تهدأ ولا تتوقف وإن بدت عاجزة – في مرحلة من المراحل – وغير قادرة عن الفعل والتغيير لأنظمتها الشمولية , فإن حركة التاريخ تخبرنا بأن القوة الكامنة للشعوب سرعان ما تظهر في اللحظات الحاسمة ، وتقلب السحر على الساحر مهما بلغ حجم الاستبداد والفساد ومهما تضخمت آلة العنف والتنكيل بالمعارضين وقوى المجتمع الحية .
٤- كما أثبتت الثورة السورية أن الحشد والاندفاع الشعبي بدون وجود قوى منظمة تستوعبه وتنظمه يقود الى الفوضى والتشرذم ، فالثورة بدون عقل يوجه وينسق ويقود ، كالجسم الذي يتحرك بدون دماغ ، تتخبط الأطراف عشوائيا وتتعثر ثم تسقط .. وبالرغم من مرور إثنا عشرة سنة على الانتفاضة الشعبية فإن الاندفاعة الثورية للحراك الشعبي لم تستطع أن تؤسس قيادة موحدة تقود العمل الثوري وتخطط لخطواته ، وتفاضل بين الخيارات المختلفة التي تواجهها وتعترض طريقها ، فضاعت بذلك فرص تحقيق الانتصار وإنجاز التغيير الوطني المنشود .
٥- أثبتت التجربة أيضا أن القوى الخارجية لا يمكن أن تنجز تغييرا ديمقراطيا حقيقيا بديلا عن النظم الحاكمة – العراق نموذجا – . فالقوى الخارجية لا تقوم بتغيير النظم إلا بناء على أجندتها ومصالحها وليس على أساس مصالح الشعوب . وبالرغم من تشدقها وإعلانها بحرية الشعوب وحقوق الإنسان ، فإنها دفعت وحرضت على النزاعات الداخلية والحروب وافتعلت الأزمات والصراعات البينية والعرقية والطائفية والمذهبية ، بل لطالما وقفت القوى الخارجية ضد النظم أو الحركات المرتبطة بشعوبها والتي صعدت عبر الإرادة الشعبية وصندوق الاقتراع وتٱمرت عليها ، ودعمت ولا زالت تدعم بكافة الوسائل النظم الدكتاتورية التي فرضت سلطتها وسلطانها بحكم الغلبة والسيطرة على شعوبها ضد إرادتهم .
٦- بالمحصلة استطاع النظام استثمار الزمن في إيقاع قوى الثورة في فخ العسكرة والتطييف ، وفي المقابل فإن قوى الثورة عندما حققت في بداية انطلاقها خطوات على طريق الانتصار فإنها بفعلها وسلوكها ، خسرت الحاضنة الشعبية التي ادارت ظهرها لها يوما بعد آخر ، بل وسلكت بعد ذلك فيما أطلق عليه ” قوى الثورة والمعارضة ” سلوكا يتطابق مع سلوك النظام تجاه الحاضنة الشعبية في التشبيح والتشليح وفرض الأتاوات وكم الأفواه والاعتقالات .. فخسرت الثورة الداعم الأساسي الداخلي الذي يمكن أن تتمسك به في فرض موقفها تجاه الدول الاقليمية والدولية ، وفرض احترامها من قبل شعوب العالم ، لتعطي انطباعا مدعوما من وكالات إعلام دولية وإقليمية بأن الصراع في سورية صراع على السلطة ، بين نظام استبدادي ، وقوى متطرفة إرهابية وظلامية ..
واليوم ، في ذكرى الثورة السورية ، فإن قوى الثورة جميعها أمام استحقاقات قيمية ونضالية وعملية لوقف مسار إجهاضها ، وتوفير الشروط اللازمة لاستمرارها ، بعد إجراء مراجعة عميقة لعوامل تراجعها وعثراتها ، والدروس المستفادة من الأخطاء التي وقعت بها عبر مراحلها المتعددة ، وهذا يتطلب فتح حوار شامل مع جميع القوى السياسية والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني للبحث معا في الاستحقاقات الوطنية العاجلة ، من خلال العمل الجماعي المشترك وصولا إلى قواسم مشتركة يبنى عليها في إنجاز تحالفات مرحلية واستراتيجية بين القوى والمنظمات والشخصيات التي تتبنى التغيير الديمقراطي الوطني السلمي وترفض منظومات الاستبداد والعنف والطائفية والهيمنة الخارجية وتقف بمواجهتهم وتقاومهم مقدمة موضوعية لعقد المؤتمر الوطني الجامع من أجل تبني رؤية وبرنامجا موحدا للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي .. يعطي املا جديدا للشعب السوري في إمكانية إنجاز التغيير ، ويفتح الباب لعودة الثقة برموزه الوطنية بعدما يأس من إصلاح من تنطح لقيادتها وجرها الى متاهات بعيدة عن تحقيق أهدافها في الحرية والكرامة ، واستبدال نظام الاستبداد والفساد بدولة المؤسسات والقانون ، وحكم مدني ديمقراطي تداولي يكرس مبدأ المواطنة المتساوية للجميع .