– صبحي حديدي – كاتب سوري مقيم في باريس –
صحيفة القدس العربي
16/5/2023
(( في استهلال خطابه يوم 27 آذار (مارس) الماضي، الذي أشاع أنصاره بأنه بيان مصالحة تاريخي في واحدة من أشدّ أطوار دولة الاحتلال تأزماً على أصعدة داخلية إسرائيلية – إسرائيلية؛ شاء بنيامين نتنياهو اقتباس التوراة بما يحثّ على التصالح، ومن زاوية قصوى هي حكمة الملك سليمان، ليس أقلّ.
وكما فعل قبله بتسلئيل سموتريش، وزير المالية في حكومته الأكثر يمينية وفاشية على مدر 75 سنة من عمر الكيان الصهيوني؛ وسبقته روني ساسوفير، المرشحة لانتخابات الكنيست ومؤسسة «منتدى الآباء من أجل التقاليد» (التي خلطت، مع ذلك، بين سليمان وشاؤول الملك)؛ أعاد نتنياهو على مسامع الإسرائيليين حكمة سليمان في حكاية امرأتين زعمت كلٌ منهما أمومة طفل، فطلب سيفاً وأمر أن يُشطر الطفل إلى اثنين فقبلت امرأة وأبت الثانية، وقرّر الملك أنّ الأخيرة هي الأمّ الحقيقية.
وبعد ثلاثة آلاف سنة، قال نتنياهو، في «الخصام الوطني» الراهن يزعم جانبان محبة الطفل، الأمر الذي يدركه حكيم هذه الأزمنة الإسرائيلية، «بيبي» دون سواه؛ مشدداً على أنّ غالبية الإسرائيليين لا تريد «تمزيق الشعب»، وهو من جانبه لن يترك حجراً دون أن يقلبه بحثاً عن حلول كفيلة بالمصالحة: «نحن لا نقف مع أعداء بل أمام أخوة».
الطفل يواصل الانشطار يوماً بعد آخر، أياً كانت الأحجار التي سيقلبها نتنياهو أو يتركها جاثمة في مكانها وثقيلة، ما دامت المعادلة متناهية في البساطة ولا صلة تجمعها بأمومة دولة الاحتلال عند هذا أو ذاك من «الأخوة»: إمّا تعديلات تضع المحكمة العليا على رفوف مهملات الكنيست، وتتيح لحكومة نتنياهو تسمية القضاة الأشدّ ارتهاناً واستعداداً لتبرئته من تهم الفساد؛ أو تجميد التعديلات، وصولاً إلى سحبها نهائياً، بما يفضي تلقائياً إلى تفكيك التحالف الحكومي الراهن والدعوة إلى انتخابات كنيست جديدة.
للمرء أن يستعيد، هنا والآن تحديداً، ولع نتنياهو القديم بحكمة بسيطة، لكنها عميقة الغور والمغزى، قال بها الفيلسوف الألماني إمانويل كانط أواسط القرن الثامن عشر: كم هو محال أن نحصل على ما هو مستقيم، من خشب الإنسانية المعوّج! ذلك لأنّ الاعوجاج، أي ذاك البنيوي والتكويني والكامن، لا يتبدى في إقرار تعديلات قضائية أو طيّها نهائياً؛ بقدر ما تحكمه، وتواصل ترسيخه يوماً بعد آخر وحكومة إسرائيلية (يمينية، يسارية، ائتلافية…) بعد أخرى، هو المعمار الاستعماري والاستيطاني والعنصري والفاشي الذي نهضت عليه دولة الاحتلال منذ زرعها في فلسطين التاريخية، وعليه تنهض عقداً بعد عقد؛ وصولاً، اليوم، إلى وراثة منظومات الأبارتيد ومحاكاة الفاشية الصريحة العارية.
وأمّا ارتباط نتنياهو الأعمق، الذي يتجاوز الولع إلى التتلمذ والاستلهام والمرجعية، فهو أبا أخيمئير، أحد كبار قادة الحزب «التنقيحي» الذي أسّسه زئيف جابوتنسكي سنة 1923، وكان في صفوفه أحد أبرز الصقور المتشددين قولاً وفعلاً، و«الأطول لساناً» في استمطار اللعنات والشتائم والاتهامات، ضدّ «الصهاينة الكاذبين». العقيدة الفاشية كانت الأقنوم الثاني في فلسفة أخيمئير، فلم تكن تتماهى مع الأفكار الفاشية فحسب؛ بل كانت تتطابق على نحو صارخ مع الطبعة الإيطالية من العقيدة الفاشية، إلى درجة تشبيه جابوتنسكي بموسوليني، وتسميته «دوتشي يهودا والسامرة».
وإذا كان أصدقاء دولة الاحتلال هنا وهناك في أصقاع «العالم الحرّ» يشفقون على الطفل الإسرائيلي من انشطار يقذف به إلى أحضان فاشية أكثر توحشاً، وبالتالي أشدّ نزوعاً نحو التمزيق وتقطيع الأوصال؛ فإنّ عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين يتظاهرون ضدّ مشاريع نتنياهو وحكومته ليسوا أقلّ إشفاقاً للاعتبارات ذاتها، مع فارق أنهم ليسوا بالضرورة على افتراق جذري مع نتنياهو بصدد الاحتلال والاستيطان والجدران العنصرية وتهويد الكيان ومصادرة الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون واجتياح الأقصى…
في هذه وسواها هم أخوة، بالفعل، وليسوا أعداء؛ وللطفل أن يتشظى وينشطر، على مذبح بقاء الدولة.))