د. كمال القصير – كاتب مغربي
القدس العربي
21 – مارس – 2023
بعد ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن، سوف نكون على موعد مع مرحلة تختفي فيها بقايا النسخة الحالية من المثقف العربي الأخير. لنجد أنفسنا أمام خصائص جديدة تنزل بهذه الفئة درجة أدنى مما هي عليه الآن. ولم يعد هذا المثقف يملك الكثير والجديد ليكتبه أو يقدمه للمنطقة والعالم.
وأصبحت لدى المثقف العربي الأخير مشكلة في القدرة على إنتاج القضايا الجديدة التي ينبغي تناولها، حتى أصبح صدى يردد المشكلات الغربية، أو هاربا نحو قضايا التاريخ ليختبئ ضمن تفاصيلها.
إن عددا من المثقفين لم يعد بإمكانهم النقاش خارج القضايا الباردة، التي اعتادوا عليها، مثل مسألة الحداثة، التي بات الكلام حولها مبتذلا. لأنها ليست حالة واقعية مشاهدة في المنطقة العربية. فلا الحداثيون ولا التراثيون استطاعوا إنجاز هذا المشروع في الواقع.
عناصر الاختفاء
في لغة التاريخ والاجتماع فقد دخلنا منذ مدة مرحلة الترف الثقافي، الممهدة لنهاية جيل من الحداثيين والتراثيين العرب.
وبات على الجميع أن يمتلك الشجاعة للاعتراف بالفشل من كلا الجانبين. والحالة الحداثية العربية لم تتجاوز أن مارست الشغب الثقافي في المنطقة. إن قانون نهاية جيل معين يصبح واقعا، عندما يفشل الجيل في الوفاء بالتزاماته وواجباته. ويكتفي بالأكل من مائدة جيل الآباء والتراث، دون أن يضيف لها أصنافا جديدة.
إن تراجع وضعف قدرة المثقف العربي على الإدلاء برأيه حول القضايا العالمية الكبرى، مثل التغير المناخي ومستقبل الإنسان والتكنولوجيا وأنظمة الحكم في العالم، أصبحت واقعا ملحوظا. وهذا دون الحديث عن التحديات العسكرية وصراع الثقافات.
إن الثقافات العالمية تحرص دائما على امتلاك قصة ترويها لباقي العالم. وأن يكون لدينا دائما ما نقوله للآخرين، هو محور ومبرر وجودنا. لكن المثقف العربي الأخير لديه قصة مهترئة لا تصلح حتى في حال امتلاكها، أن تضيف قيمة كبيرة.
إن الثقافة قصة كبيرة ينبغي أن تزاحم باقي القصص والثقافات في العالم، فهي تعكس هوية المجتمعات بكل أبعادها.
لقد كانت الرواية دائما تنقل وتجسد معاناة الشعوب ومأساة الإنسان. إن المآسي لم يقل حجمها، لكن الرواية العربية لم تعد تواكب الإنسان العربي، الذي يختبئ وراء معاناته ويستعيض عنها بالانغماس في منظومة التفاهة. وإنني على المستوى الشخصي لم أقرأ شعرا مؤثرا حول فلسطين والقدس منذ سنوات عديدة. ولم يعد المغنون يحرصون على تأدية قصائد، مثل تلك التي قيلت في قضايا التحرير والنضال.
ولم يعد يشتهر من قصائد الشعراء الكثير حول أحوال الناس. وكم عدد الذين يتداولون قصائد حول الغلاء والفقر وفقدان المستقبل. بل لم يعد الشعراء المادحون قادرين على كتابة مديح لائق بالسلطان، ولا هجاء من يستحق الهجاء من رجال السياسة. وإذا أردنا أن نقيم الدليل على صحة التنبؤ، فما علينا إلا قياس كم نقرأ من الشعر والرواية في عام واحد. وكم شعرا أو شاعرا أو رواية، استمتعنا بالاطلاع عليها.
إن الأدب الذي ينتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية، يوشك أن يصبح ماضيا غابرا. أما الشعر والرواية التي تصنع فكرا أو تيارا اجتماعيا أو سياسيا، فلم يعد لها وجود في المنطقة. وبعد أن كانت الثقافة تواكب عملية التحرر العربي، فإنها لم تواكب مسار بناء الدولة العربية. بل أصبحت الثقافة والمثقفين عبئا عليها، ولا تدخل ضمن خططها للمستقبل إلا في القليل.
يحزنني أن أقول إن الفيلسوف العربي الأخير على وشك مغادرة المشهد. ولن يكون الفقيه الأخير الذي عرفنا هو نفسه. فقد أصبح كثير من المشتغلين بعلوم الدين حاليا، يفضلون الكلام والحديث في وسائل التواصل. ويهربون من الكتابة والتصنيف لضعفهم وعدم قدرتهم على مشاق الكتابة، التي تتطلب تفكيرا واجتهادا.
وهي نسخة حالية تساهم في هدم فريضة الفكر والتفكير في المنطقة. إن الفقيه يقرأ الفقه عادة لينتج الاجتهادات والأفكار للمجتمعات، لا ليتغذى على التراث القديم ويستهلكه، ويعيد إخراجه فقط. إن ما يقدم للأجيال لا ينبغي أن يكون كلاما، بل أفكارا ونماذج تصنع الوعي.
مجتمعات عربية بلا مثقفين
في استطاعتنا بناء على تحولات الواقع الحالي، أن نتوقع حالة مجتمعات عربية تعيش على الحد الأدنى من الثقافة والمثقفين مستقبلا. وتكاد المنطقة أن تخلو من قصة جامعة لشعوبها، بسبب ارتفاع منسوب الانكفاءات الثقافات المحلية على ضعفها الشديد. لقد جربت المنطقة قصصا وسرديات عديدة، بنكهات قومية ويسارية وليبرالية وإسلامية. وهي تعيش الآن من غير قصة كبيرة ثقافيا وسياسيا. إن الشعوب تصنع قصصها بناء على ما يطرحه مثقفوها من أفكار. وإن كان الناس ينسون القصة تلو القصة، لكنهم لا يعيشون كثيرا من دونها.
إن أهم فئة تخلت عن المثقف العربي هم السياسيون والسلطة. ولك أن تتخيل أي ضعف في شخصية المثقف، إن عاش حياته دون أن تكون له صلة بمواقع القرار التي يساهم القرب منها في صناعة تجربة المثقف الخاصة. ولك أن تتخيل أن لا يجد المثقف العربي الأخير ما يرويه للناس من قصص الدول والحكام.
إن أكثر ما كان يفتخر به أمثال المثقف الراحل هيكل هو قصصه مع رجال الحكم، وكذلك آخرون أمثال أنيس منصور. وكان الاستماع إلى تجاربهم في أكثر الأحيان، يغني عن الاستمتاع بما يقدمونه من أفكار. ويبدو أن هذا النوع من المثقفين الذين يمتلكون ما يروونه عن الحكام سوف يغيب إلى أمد بعيد. لقد كانوا واسطة بالنسبة للناس لمعرفة خبايا السياسة التي يصعب الاطلاع عليها.
أما الفئة الثانية فهم الأغنياء العرب وأصحاب الثروة، الذين كانوا تاريخيا يقفون وراء العلم والمعرفة. ويعتبرون ذلك إسهاما في مستقبل هذه الأمة، التي أخرجها الإسلام. أما السلطة فكانت ترى في المثقف خصما أو مصدر إزعاج على أقل تقدير. إن فئة الأغنياء الراعية للثقافة تختفي من المشهد العربي، فقد تحولت الرعاية إلى حالة استجداء تحط من قدر الثقافة وتزري بالمثقف. لقد كانت معادلة المثقف وأغنياء الأمة، أقوى من معادلة المثقف والسلطة المتقلبة باستمرار.
انهيار الجو الثقافي
لم يعد ممكنا في العلاقة بين آخر المثقفين، أن نتخيل هذه العلاقة على شاكلة ما حكاه أنيس منصور، عن الجو الثقافي الذي كان يسمح له ببساطة أن يفطر مع العقاد ويتعشى في بيت توفيق الحكيم.
لقد كان الجو يفرض على المثقف أن يكون شيئا كبيرا بين أناس هم أشياء كبيرة. وعندما كان أنيس منصور يذهب لزيارة عباس العقاد في مصر الجديدة، كان يجد الشارع مزينا بأعلام المؤسسات الحكومية على طول الطريق.
فكان أنيس ومن معه من المثقفين يتخيلون عند كل زيارة، أنها كانت منصوبة للأستاذ العقاد على طول الطريق المؤدية إلى بيته. إن فكرة الصالون الأدبي المنقرضة، لم تكن مجرد اجتماع للمثقفين، بل مكانا لولادة رموز الثقافة.
إن جيل المثقفين العرب ينتهي بنهاية النموذج الذي تبنوه طيلة مرحلة ما بعد الاستعمار. وفي كل يوم يفقد المثقف الأخير ما يمنحه للمنطقة ثقافيا وسياسيا وشعوريا. فلا الشعر ولا الرواية والأدب ستكون مصدر تثقيف في المستقبل. إننا نعيش الرقصة الأخيرة لهذا المثقف الأخير. إن غموضا كبيرا يحيط بالمثقف الأخير والمواقف التي يتبناها، وفي أي جهة يصطف. وعلى أي حال لم يعد ينتج عن فكر المثقف الأخير اتجاهات أو مجموعات منذ وقت طويل. ومن سوف يهتم في العالم بما نكتبه في المنطقة العربية، حتى تتم ترجمته إلى لغات أخرى. لقد أصبح العقل الثقافي العربي عصيا على إنتاج الكتب الأساسية والنوعية، التي تؤطر مرحلة معينة.
إن ما يتم إنتاجه من الثقافة ربما لا يصلح استهلاك أكثره، حتى بالنسبة لأبناء المنطقة. وأستطيع القول إن المائة عام الأخيرة لم تشهد الانتاج الثقافي، الذي يمكن وصفه أنه يمثل نقطة تحول في الوعي العام. وربما يكون المستقبل في غير حاجة إلى أكثرنا من الموجودين الآن.
نهاية المثقف العربي نتيجة طبيعية لماكينة الطحن الهائلة في المنطقة لكل أبعاد ثقافية. وتتخلى وزارة الثقافة العربية عن دورها في صناعة الثقافة، وتكتفي بمجرد إدارة المجال الثقافي. إن الحديث عن المثقف العربي الأخير، هو حديث عن وزارة الثقافة العربية الأخيرة، التي سوف تتغير وظيفتها بتغير الواقع الثقافي.
الذوق الأخير
قبل أن يقول الشاعر قصيدة، يكون الهاجس الأول في نفسه هو استحسان الناس لها. لكنه هاجس لم يعد فيما يبدو مخيفا للمثقف، بسبب تفشي رداءة الأذواق. إن تراجع الذوق الشعري يمضي بسرعة فائقة. وفي رأيي فإن جيل محمود درويش كان آخر نسخة مما يمكن الاستمتاع به في المنطقة. إن نهاية الشاعر المؤثر تواكب انهيار الذوق العام، بفعل العولمة الثقافية وانتشار التفاهة.
لقد كان هروب أجيال من الشعراء من الشعر الملتزم بالأوزان والقوافي، إلى الشعر الحر، بداية انهيار القدرة اللغوية والخيالية. أما الآن فسوف ندخل مرحلة انحسار جيل الشعر الحر، وصولا إلى نهاية هذه النسخة الحرة من المثقفين. وليس مهما أن يشعر الشاعر بما شعر به من معاني القصيدة، بل الأهم أن نشعر نحن أنه قال معنى، يستحق أن نوليه سمعنا ووجداننا. وبغير هذا يكون الشاعر قد انتهى.