بقلم : محمد علي صايغ
لدى متابعتي لكتابات الكثيرين ممن يكتبون بالشأن العام ، استوقفني مقال أحدهم ممن يكتبون ويهتمون دائماً ويتابعون الشأن العام العربي باستمرار .. وقد تركز هذا المقال على سؤال كان موضوعاً للحوار:
أيهما أفضل تنظيم سياسي واحد أم نظام سياسي متعدد الأحزاب؟
ويتلخص موقف كاتب المقال بأنه يرى أن:
((انتشار فكرة الديمقراطية تأسيساً على وجود أحزاب وانتخابات أراها فكرة غير صحيحة بالمطلق .. فالديمقراطية قد تكون منهج أعمق من ذلك في المجتمع كله يتم ترسيخه من خلال مؤسسات تدير حركة المجتمع وتصنع قراراته بأسلوب ديمقراطي يعتمد الحوار والنقاش بين خبراء كل مؤسسة سبيلاً أعمق في دولة المؤسسات حتى لو كانت بدون أحزاب وانتخابات تتحول الى مسرحيات عبثية في أغلب الدول وخاصة دولنا العربية .. ويصبح فيها المال السياسي واستغلال العواطف الدينية والقبلية أهم وسيلة للوصول لمقاعد الحكم لتبدأ حلقة جديدة في سلسلة ممتدة من الفساد السياسي والمالي نتيجة التزاوج بين السلطة والمال .. ولذلك ففي الدول التي بها أحزاب وانتخابات قد نجد فيها فساداً أكبر بكثير من الدول ذات التنظيم السياسي الواحد .. )) .
ويستطرد عبر تساؤله:
((هل العمل الحزبي ضرورة من أجل تحقيق الديمقراطية؟ لا أعتقد ذلك .. وإنما العمل المؤسساتي الديمقراطي هو الحل الأقوى والأعمق من أجل إرساء وتعميق الديمقراطية في المجتمع)) .
ويضرب أمثلة من بينها نهضة الصين بوجود الحزب الشيوعي الصيني الواحد، ونهضة مصر بوجود الاتحاد الاشتراكي في زمن عبد الناصر.
إن ما جاء في المقال يقودنا الى الحديث عن مفهوم التعددية السياسية التي تعتبر انعكاس مباشر لاختلاف المصالح والأفكار والأيديولوجيات والانتماءات بمختلف أوجهها الأقوامية والدينية وتضارب التوجهات والمصالح في المجتمع الواحد.
والتعددية السياسية جاءت من سياق تاريخي شاركت في إنضاجه العديد من الأمم ليصبح أحد تجليات الفكر السياسي المعاصر، مما جعل التعددية السياسية ظاهرة نمت مع نمو المجتمعات الانسانية للتعبير عن التمايزات في الرؤى السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. وقضية تتبدى في حق الجماعات والتنظيمات والأحزاب في الإعلان عن نفسها والإفصاح عن مطالبها وبالتالي حقها المرتكز دستوريا في المشاركة السياسية، ودورها بالتأثير والفعل في المجال السياسي للدولة.
ولقد أنتج النضال الإنساني في سبيل الحرية والعدل تعاظم الاعتراف بالتعددية السياسية داخل المجتمعات ، بما يؤمن النظام القانوني الذي يضمن للفئات الاجتماعية والسياسية حقها بالتنظيم المستقل ، والتعبير عن رؤيتها وآرائها وطموحاتها المشروعة، في سعيها السلمي للوصول الى السلطة السياسية تحت مظلة تشريعية تقوننها في مشروعية وجود الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني وغيرها من التجمعات كوسيط مهم بين الشعب والحكومة ، وبالتالي فإن أهمية وجود الأحزاب السياسية يتبدى في القيام بمجموعة من الوظائف المهمة من بينها التنظيم الفكري والسياسي ، والاتصال والتواصل ، وتأهيل الناخبين للمشاركة بالحياة السياسية، والعمل على تعبئة الجماهير ، بما يسمح بالتداول السلمي للسلطة في ظل مجتمع ديمقراطي يفرض التعددية السياسية تعبيراً وانعكاساً عن التعددية في المجتمع ، وتعدد حاجاته وطموحاته ، ومصالح الجماعات المختلفة بعيداً عن القوة الواحدة المنفردة الكلية في سبيل انتقال سلس للسلطة ، واستقلال مؤسساتها وحشد الجمهور والأفراد في الانخراط الإيجابي في العملية السياسية للنهوض بالمجتمع والدولة .
باختصار فإن التعددية السياسية نقيض الأحادية ، وصفة مرتبطة عضوياً بالمجتمع المدني ، وتعني فيما تعني تعدد القوى في المجتمع واستمرار تفاعلها بالمفاوضات ، والمساومة في عملية صنع القرار ، بما يجعل من التعايش والتسامح بين المكونات المجتمعية السبيل الأمثل لإدارة الصراع والتعامل السلمي ، وفي ظل تطبيق مبدأ المحاسبة والمسؤولية على مستوى الإدارة الحكومية، انطلاقاً من مبدأ لا سلطة دون مسؤولية، ولا مسؤولية دون رقابة ومحاسبة، وهو ما يمكن أن يشكل ضمان للحقوق والحريات والمساواة أمام القانون ، بما يضمن تحقيق وتنفيذ السياسات والقرارات بالمشاركة العامة من جميع الأفراد والمكونات الإثنية والدينية و الأحزاب وقوى المجتمع المدني في العملية السياسية ، إقراراً بالتنوع الاجتماعي والتمايزات الثقافية المختلفة ، وضماناً لاحترام الآخر وتداول السلطة وسيادة منطق الحوار والاختلاف ، بعيداً عن فرض رؤية واتجاه فرد واحد أو حزب واحد .
ومن هنا لابد من التأكيد على أن نظام الحكم الذي يقوم على دولة المؤسسات هو النظام الذي تنشده اغلب الشعوب، وعلى رأس هذه المؤسسات القضاء الذي يحكم بالقانون بعدالة على الجميع دون استثناء ..
ومن المؤكد أن النظام الديمقراطي ليس نظاما مثاليا لا توجد فيه أخطاء أو أعطاب، ولكنه النظام الأكثر انسجاما في مجال التجارب الانسانية مع حرية الإنسان وضمان حقوقه، والأكثر تلاقيا مع النوازع الإنسانية الطبيعية في تحقيق كرامته .
ولا شك بأنه من المهم ان نبتعد عن التقليد لأنظمة الحكم سواء في الشرق أو الغرب في اختيار نظام الحكم … ولكن أيضا من غير المعقول اختراع العجلات من جديد .. ولابد من اختيار نظام يقوم على التجارب الأكثر نجاحاً، وأقل ارتكاساً في التطبيق ..
في مصر، الاتحاد الاشتراكي أنجز تقدما، ولكن خلفية هذا التقدم كان بوجود عبد الناصر الشخصية الكاريزمية الذي كان يملك مشروعا للنهضة واشتغل على هذا المشروع .. وكان عبد الناصر متقدما في رؤيته وطريقة تفكيره عن كل من كان حوله من قيادات .. ولكنه بعد نكسة عام ١٩٦٧ أعلن للملأ ” سقوط دولة المخابرات ” وهو على راس قيادة السلطة في مصر، وبعدها طرح بجرأة في داخل اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي تغيير طبيعة نظام الحكم إلى حكم منفتح، يقوم على التعددية الحزبية .. ولكن طبيعة ظروف النكسة وقراره بإزالة آثار العدوان ثم وفاته السريعة حالت دون تطبيق رؤيته بتجاوز التنظيم الواحد الى نظام متعدد ومنفتح ..
ليس هناك من ضمان استمرار المؤسسات النظيفة وغير الفاسدة بوجود حزب وحيد يقود البلاد ..
سيتحول الحزب بقبضه على مقاليد السلطة الى بيروقراطية قاتلة في الحكم وإلى فساد واستبداد .. قد يكون هناك نجاحا لحزب واحد في أي بلد، إذا كان خلفه قيادة كارزمية أو قيادة لديها مشروع للنهوض، ولديها الصبر والإصرار على تنفيذ مشروعها .. ومع ذلك ليس هناك ضمان لاستمرار المشروع بغياب هذا القائد .. وما جرى بعد وفاة عبد الناصر والانعطاف نحو ١٨٠ درجه عن رؤيته وخطه باستلام السادات للسلطة لا يحتاج لدليل ..
الديمقراطية بالتعددية الحزبية تعني وجود مراقبة متواصلة بين المعارضة ونظام الحكم .. والاحزاب عندما تمارس نشاطها ضمن قاعدتها فهي عملياً تكريس للديمقراطية، من خلال تعميق الوعي بالتجربة الديمقراطية .. وأي حكم بدون تقاليد ديمقراطية ووعي حقيقي شعبياً، لا يمكن ضمان أن تتوالد الدكتاتوريات .. فالسلطة لها بريقها الخاص .. وغياب الحضور الشعبي عبر ممارسة ديمقراطية حقيقية يعني ترسيخ بقاء الدكتاتور وتأبيده ..
والسؤال هل يمكن للمواطن في أي دولة تقوم على الحزب الواحد وتحكم الفرد الواحد أن يبدي رأيه بصراحة أو ان ينتقد الزعيم او الحزب القائد ؟؟
وفي الاتحاد السوفيتي والصين وكوبا هل يمكن انتقاد الحزب الشيوعي فيها، أو انتقاد الحزب النازي في المانيا زمن هتلر ؟؟ وفي كوريا الشمالية هل يمكن للمواطن انتقاد الزعيم “كيم جون أون” مثلا ؟؟
صحيح قد يتم ممارسة الديمقراطية بشكل مشوه عند أي انتقال ديمقراطي .. وصحيح ايضا ان المال السياسي او الانتخابي قد يتحكم بالعملية الديمقراطية .. نعم هذا سيحدث في المجتمعات التي تضع الخطوة الاولى نحو الديمقراطية .. أو في المرحلة الانتقالية للانتقال من نظام الاستبداد الى النظام الديمقراطي .. ولكن استمرار التجربة وفق قواعد دستورية وقانونية، سيخلق رصيدا متصاعداً وتقاليداً عملية في التجربة والفهم الديمقراطي ..
ما جرى منذ أيام قليلة في التجربة الديمقراطية في تركيا .. تجربة تستحق التفكير والبحث .. وما تم من إقبال الناس على صندوق الانتخاب بنسبة تقارب 90% وهذا الوعي لدى الناس بالوقوف بطوابير طويلة تستغرق ساعات وإصرارهم على أن يقوموا بالتصويت لأنهم يدركون أن صوتهم مهم ويصنع فارق مهم. وبشق الأنفس حصل المرشح اردوغان على 52%. ثم أيضا هذه التعددية الحزبية والوعي والحس الديمقراطي لدى الشعب التركي رفضاً لمآسي الانقلابات السابقة وتركيز السلطات بجهة واحدة، ألم تؤدي إلى انتفاض الشعب ووقوفهم ضد الانقلاب العسكري وإحباطه ؟؟ ..
من غير الجائز ابداً إطلاق أي تعميم عند النظر إلى النظام الديمقراطي، كما من غير الجائز وضع تجربة واحدة كالتجربة الصينية تحت المجهر باعتبارها مقياس يجب الأخذ به، بغض النظر عن أن النهضة في الصين قد حولت الشعب الصيني الى مجرد آلات عمل، عدا عن أن الاستئثار بالسلطة قد أفرز طبقة حاكمة متخمة بالمال والنفوذ وطبقة بالكاد تحصل على قوت يومها.
ولا بد من القول أن نظام ديمقراطي بدون معارضة حقيقية ليس نظاما ديمقراطيا، ولا يمكن اعتبار المعارضة المصنعة أمثال بعض الاحزاب والجبهات الذيلية والراضخة تحت سقف السلطة القائمة، أنظمة ديمقراطية .. يمكن للنظام الذي يمنع التعددية السياسية والحزبية تسميته بأي تسمية أخرى، لكنه بالمحصلة لا يمت للنظام الديمقراطي بصلة .. فهما متضادان ومختلفان لا يمكن التجسير بينهما، ومهما كان النظام يقاد من حزب واحد او من قيادة واحدة، ومهما قدمت هذه القيادة لخدمة بلدها، لكنها محكومة بزمن ليس هناك أي ضمانة للانقلاب عليها بوجودها أو وفاتها .. ستالين وأمثاله وحتى هتلر لا يشك أحد بانه قدم لبلده نهضة خلال مدة قياسية .. وكانت النتيجة بالمحصلة مأساوية … وأعتقد لا حاجة لتعداد أو التفصيل في نتائجها المأساوية وانعكاسها على الشعوب التي حكمتها وتحكمت فيها ..