الحلقة الأولى ٢/٢
2 – تقديم الكتاب
ثلاثة أبحاث مختلفة العناوين، كتبت في أوقات متقاربة، تتناول أحداثا وأفكارا ومراحل زمنية مختلفة، لكنها تجمعها وحدة عضوية، تجعلها تبحث وتجيب من زوايا مختلفة عن الأسئلة نفسها، وتعبر عن القلق نفسه.
بلا شك هي أبحاث علمية، تطرح المشكلة وتنقب في جوانبها، وتستطلع آفاقها، وتتقدم في عملية التوصيف والعرض، وفي استعراض الآراء والمواقف، وفي الخلوص إلى النتائج والأفاق، لكنها مع ذلك مفعمة بروح الحدث والسؤال حتى ليخال المرء للوهلة الأولى أنه أمام مقالة سياسية، وليس بحثا علميا مدعما بالمصادر والمراجع والإحالات، ومعنيا بإثبات مرجعية كل فكرة أو حدث أو واقعة، وبإثبات الآراء كلها إزاء معظم ما يأتي عليه.
القضية التي يتناولها هذا الكتاب، وثيقة الصلة بإشكالية “الإسلام والسلطة”، وبما تتعرض إليه هذه الإشكالية وتواجهه، وتبدو الأبحاث المشار إليها ذات صلة وثيقة بواقعنا الراهن، ليس لأن بعضها يتصل زمنا بهذا الواقع فقط، وإنما لأنها جميعا مازالت فاعلة ـ وستبقى طويلا كذلك ـ في هذا الواقع، ومن هذا المنظور فأهميتها الحقيقية تنبع من القيمة الراهنة لها.
وقد وقف الأخ العزيز الأستاذ رجاء الناصر في بحثه أمام المرحلة الأولى من ولادة الدولة الإسلامية عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتابع هذه الولادة مستخلصا القواعد الأساسية فيها والتي ضمت مبادئ الشورى والمسؤولية تجاه مجتمع المسلمين، ووحدة الأمة، كل ذلك في إطار وجوب الخلافة، ووجوب وحدتها، ثم جاء تناول قضية الخلاف داخل المجتمع الإسلامي، ومفهوم الخروج على الخليفة ودواعيه وأشكاله، وصلة ذلك بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والباحث في مسألة الخلافة لا بد أن يلفت انتباهه الجهد الكبير الذي بذله الفقهاء المسلمون من مختلف المذاهب في تنظيم علاقات الصراع في هذا المجتمع المسلم، وفيما وفره الشرع الإسلامي في هذا الشأن، بعد أن ثبت وأكد سنة الاختلاف داخل هذا المجتمع، وهي سنة تتصل بالاجتماع الإنساني ككل، ولا تقتصر على مجتمع المسلمين، لكنها في المجتمع الإسلامي الذي يحيطه الشرع بعناية، توفر لها قواعد في التعامل لم تتوفر في غيره.
ولا شك في ان ما يستند اليه البحث من قواعد، وما يأتي عليه من خلاصات يستأهل المزيد من البحث والتدقيق، لتبيان ما هو شرع ثابت يمثل أساسا للحكم على شرعية الدولة في كل زمان ومكان، وبين ما هو مرحلي يتصل بالعصر وطبائعه، وكذلك لتبيان صلة وجود او انعدام بعض الأسس الواجب توفرها في الحكم على إسلامية هذا النظام او ذاك وهذه المرحلة من تاريخنا او تلك:
1ـ هل إن نظام الخلافة ـ الراشدي ـ هو نظام الحكم الإسلامي، وما عداه غير إسلامي؟!، وإذا كان هذا هو الرأي، فما هو حكمنا على تلك الأنظمة التي تلت النظام الراشدي.
2ـ هل تعتبر “وحدة” الدولة الإسلامية شرط للحكم على اسلاميتها؟، وما صلة هذه “الوحدة السياسية” بالمبدأ الإسلامي في وحدة الأمة الإسلامية. وهي ممتدة عبر الزمن منذ الرسالة الإلهية الأولى؟.
3ـ أين تقع مسألة ” قرشية الخليفة” في الفقه الإسلامي؟، وما مكانتها في الشروط الواجب توفرها في الخليفة؟.
4ـ هل الشورى التي يؤكد عليها الإسلام شرعا وفقها، هي نظام للحكم، أم نظام للمجتمع؟، أم أنها سمة من سمات المجتمع الإسلامي وليست نظاما؟.
وأسئلة أخرى عديدة يحرص عليها البحث الأول الذي جعله الباحث تحت عنوان : الخلافة والخروج على الخليفة،
وإننا لنرى بعض أوجه ومعاني هذه الأسئلة في جهود الإصلاح في الفكر الاجتماعي والسياسي التي توهجت في مجتمعاتنا منذ مطلع القرن التاسع عشر، واستمرت متفاوتة في القوة والفعالية بعد ذلك، وقد تناول الأستاذ رجاء علمين من أعلام الإصلاح الديني والاجتماعي كان وما زال لأعمالهما تأثير وافر في حياتنا السياسية والاجتماعية، بل إن قوى سياسية على اتساع الأمة الإسلامية تؤسس نفسها في هذه المرحلة على أفكار مرحلة الإصلاح هذه التي ضمت إلى جانب هذين العلمين قامات شامخة يتقدمها الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، وقد ارتضى الباحث لنفسه أن يعالج عندهما قضية العروبة على وجه الخصوص باعتبار أن بناء دولة عربية موحدة كانت هدفا لكل القوى والمفكرين الذين أرادوا أن يقدموا فكرا تحريضيا موحدا للأمة:
** المفكر والمصلح عبد الرحمن الكواكبي، صاحب “طبائع الاستبداد ومصرع الاستعباد”،
** والمفكر والمصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس. صاحب ومنشئ جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، ومؤسس المدرسة التي خرجت جيل الثورة الجزائرية. الداعي إلى إقامة “خلافة إسلامية عربية”، ودولة عربية موحدة يجتمع حولها المسلمون جميعهم. وكذلك الداعي إلى وحدة العرب، والذي لم ير حرجا في أن يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه “رجل القومية العربية”، ويعتبر “وحدة العرب” مدخل النهضة والتحرر، ويقدم رؤيته لأسس البناء القومي، وكذلك لطبيعة المشروع الصهيوني وهي رؤية، عز على الكثيرين من مفكرين وقوى سياسية أن يدركوا أبعادها، أو أن يتمثلوا آفاقها.
الأمة، الوحدة، القومية، العالمية، الإصلاح الاجتماعي، النهوض الديني، كلها موضوعات جاء عليها هؤلاء المصلحون، وعالجوها بروح الالتزام، والعصر، وتغذت على أفكارهم أجيال رافقت دعوتهم، أو جاءت من بعدهم، من هؤلاء كانت ثورة أحمد عرابي في مصر، أول محاولة نهوض مصرية شعبية في العصر الحديث، وكانت ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب، وثورة عمر المختار في ليبيا، ثم كانت ثورة جمال عبد الناصر، ومن هؤلاء كانت ثورة المليون شهيد في الجزائر، وكانت إرادة التحرر والنهوض التي عبرت عنها هذه الثورة أو تلك، وتفتحت به وأزهرت حياتنا العربية في القرن العشرين.
ولكن رغم أن نسغ الارتباط كان واضحا بين مظاهر الثورة المتعددة وبين تلك الأصالة في السعي للإجابة على الأسئلة الجوهرية الخاصة بالسلطة والشرعية، والنهوض، والعدل، والوحدة، والتقدم، فإنه سرعان ما أفرزت حركة الحياة والتقدم صراعات عميقة وعنيفة، اتخذ بعضها من شعارات الإسلام ستارا له، وصيغ بعضها الآخر في إطار رؤى إسلامية تجد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي، وحركات الرفض الإسلامي، وتتكئ على هذا التاريخ في بناء رؤية إيديولوجية تجعلها متصادمة مع كل محاولات النهوض المعاصرة التي سبقتها، وتبني على هذا التصادم الفكري، تصادم حركي يولد ويفجر الكثير من الدماء، ويهدر من طاقات الأمة الكثير فيما هي في أمس الحاجة إليه، ويساهم مساهمة فعالة في توليد حالات من العنف، والعنف المضاد، كان لها دورا مشهودا في تشويه وجه الحياة الواعدة لهذه الأمة بل وفي التمكين لعوامل وقوى سلبية من النمو والسيطرة في مجتمعاتنا.
في منظور هذه الحركات، وفي فكرها فإن مجتمعاتنا جاهلية. وكذلك فإن القومية، والوحدة العربية، والوطنية، والديموقراطية، وكل ما يتصل بهذا الفكر هو محض كفر، يجب محاربته وتدميره والخلاص منه.
البحث الثالث الذي عالجه هذا الكتاب يعنى بصراع الأفكار والحركات التي تجندت بمثل هذا الفكر، وبين حركة الثورة التي مثلها جمال عبد الناصر، وواضح من منهج العرض والمعالجة أن الدافع لهذا البحث هو المساهمة في استخلاص القواعد التي تجعل من حركات الإسلام السياسي، وحركات الانتماء القومي، قوى متلاقية ومتعاضدة في إطار مشروع نهضوي واحد، وقد كان هذا البحث أصلا محاضرة القيت في أجواء الحراك الثقافي الذي شهدته سوريا مطلع هذا القرن، وما تبع هذه المحاضرة من تساؤلات وحوارات وتفاعل، لذلك نرى الفارق بين هذه المحاضرة وما سبقها من أبحاث في العرض والتقديم وفي اللهجة وطرق التوثيق، لكن روح البحث تبقى محيطة بأطراف هذه المحاضرة ما يبقيها منسجمة مع البحثين السابقين لها.
في هذا الكتاب، في الأبحاث الثلاثة العلمية والرصينة، لا يستطيع الكاتب إخفاء ـ وقد لا يكون راغبا ـ حقيقة كونه مسكونا بالهم السياسي الوطني والقومي والإسلامي، وبالتالي فإن ما يعمل له، ويستهدفه ويخلص إليه يمثل مشاركة منه في التأصيل لحركة فكرية سياسية يجد نفسه منتميا إليها، ويسعى إلى تعزيزها وتوكيد حضورها، وصوابيتها.
والمتتبع لمسار الحركة الفكرية والسياسية في وطننا العربي، وفي العالم الإسلامي، ليس عسيرا عليه التعرف إلى الأفق الواسع لمثل هذه الرؤية التي يطرحها الأخ الأستاذ رجاء الناصر في هذا الكتاب، والتي بنيت عليها فكرة، ومن ثم حركة، “المؤتمر القومي الإسلامي” الذي أسس وعقد مؤتمره الأول في العام 1994، واجتمع في رحابه نشطاء ومفكرو التياران القومي والإسلامي، وجسدها إعلانهما المشترك الأول الذي حدد مكونات المشروع الحضاري العربي الذي ينشده التياران، ويسعيان لإنجازه.
وقد أكد قادة التيارين على هذه المعاني في مختلف دورات هذا المؤتمر، والذي كان آخرها الدورة السادسة التي عقدت في الدوحة في ديسمبر/ كانون أول 2006، وجاء في البيان الختامي لها:
“انطلاقا من وعيه بأهمية تعزيز العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي لتشكيل القوة الفاعلة لتأسيس المشروع النهضوي للأمة، ولمواجهة المشروع الامبراطوري الاستعماري الذي يرمي إلى إعادة رسم الخرائط التي تؤدي إلى تقسيم وتفتيت البلدان العربية والإسلامية على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، يعلن المؤتمر ما يلي:
1ـ أن يكون كل تيار من التيارين على يقين بأن التيار الآخر ليس فقط حليفا له فحسب، وإنما داعما له ومكملا له، وأن أي خطوة نضالية تدعم مسار أحدهما هي دعم للمسار الآخر، لأنهما على مسار واحد، وفي مقطورة واحدة.
2ـ الوعي بأن المسؤولية الوطنية والقومية لمواجهة الفساد والاستبداد في أغلب البلدان العربية تقتضي توحيد العمل الوطني من أجل إحداث التغيير السياسي والديموقراطي، وهذه مهمة لا يمكن أن يقوم بها تيار واحد دون مشاركة التيارات المخلصة والغيورة الأخرى.
3ـ تفعيل الأنشطة والمبادرات المشتركة داخل كل الأقطار العربية بين التيارين، وتشكيل لجان للتنسيق المشترك.
4ـ تكليف لجنة المتابعة للمؤتمر القومي ـ الإسلامي وضع الآليات والصيغ العملية الكفيلة بتعزيز العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي”.
حلب الشهباء 18 / 1 / 1427 هـ
الموافق ــا 7 / 1 / 2007 م