أحمد السيد النجار
(خاص “عروبة 22”)
تقدير موقف
الأربعاء 16 آب 2023
يشكّل استشراء الفساد الذي يحوّل المال العام إلى جيوب حفنة من الفاسدين من موظفي العموم أحد الأسباب الرئيسة للاحتقانات الشعبية ضدّ أي نظام حاكم ينتشر فيه، سواءً في المنطقة العربية أو في أيّ مكان آخر من العالم.
يعتمد البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية تعريفًا موحدًا للفساد ينصّ على أنه “إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، عبر قبول أو طلب أو ابتزاز الرشوة لتسهيل الحصول على عقود أو لتسهيل إجراءات أو لتحقيق أرباح خارج القوانين، واستغلال الوظيفة العامة لتعيين الأقارب والسطو المباشر على المال العام”.
ثبات السيطرة على السلطة يخلق بيئة مثالية لانتشار الفساد
وهذا التعريف لا بدّ أن يتّسع ليشمل الفساد المرتبط بإعلام المسؤولين السياسيين للأقارب والأصهار أو لغيرهم – مقابل رشى أو منافع خاصة – بالتغييرات القادمة في ظروف السوق قبل غيرهم بما يمكّنهم من تحقيق مكاسب كبيرة على حساب المال العام، وعلى حساب آخرين لم يعلموا بهذه التغييرات القادمة في سعر الصرف وأسعار السلع أو خطط البنية الأساسية وما ستؤدي إليه من رفع أو خفض أسعار الأراضي.. إلخ، بما يضرب القاعدة الذهبية لأيّ نظام اقتصاديّ حرّ وشفاف، وهي العلم المتزامن بظروف السوق.
ولكي ينتشر الفساد ويتفاقم، فإنّ البيئة الملائمة له هي النظم غير الديموقراطية التي تغيب فيها الشفافية والمساءلة الشعبية والبرلمانية الحقيقية، والتي لا يوجد فيها توازن وفصل بين السلطات، والتي تعاني من انسداد الأفق أمام التداول السلمي للسلطة السياسية، لأنّ ثبات السيطرة على السلطة يخلق بيئة مثالية لانتشار الفساد، كما هو الحال في الغالبية الساحقة من البلدان العربية.
وفي مصر أظهرت التطورات السياسية والاقتصادية والقضائية بعد ثورة 25 يناير 2011، الحجم الكبير للفساد في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك في التصرّفات في المال العام وفي خصخصة الشركات والممتلكات العامة وفي منح التراخيص وفي الإدارة المحلية المحكومة بقانون متخم بالثغرات التي ينفذ منها الفساد ويتيح للملائمات السياسية التقدّم على اعتبارات النزاهة وحماية المال العام.
مسار الفساد وقوانين منعه ومكافحته بعد 25 يناير
بعد ثورة 25 يناير 2011 وخلال فترة حكم المجلس العسكري، أصدر رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسومًا بقانون رقم 4 لعام 2012 وبالتحديد في 3 يناير 2012، لتعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار رقم 8 لعام 1997. ونصّ التعديل (المادة 7 مكرّر) على أنه يجوز التصالح مع المستثمر الذي استولى على أموال أو أراضي أو عقارات عامة على أن يردّ المستثمر كافة الأموال أو المنقولات أو الأراضي أو العقارات محل الجريمة أو ما يعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة إذا استحال ردّها العيني، بما يتيح لمرتكب الجريمة الاستفادة من الفروق الهائلة بين ذلك السعر، وسعرها السوقي الحالي على حساب المال العام. ومن الضروري إلغاء ذلك القانون المشجّع على الفساد في أيّ مسعى حقيقي لمكافحة الفساد.
كما صدرت أو عُدّلت قوانين لتقوّض فرص مكافحة الفساد مثل القانون 32 لسنة 2014 الذي يمنع دعاوى البطلان على العقود العامة من غير طرفيها، بما يمنع الشعب ونوابه من مراقبة تصرفات الحكومة في الأصول والمال العام المملوك للشعب أصلًا ومن إقامة أي دعوى ببطلان أي عقد عام وضمنها عمليات الخصخصة، حتى ولو كان الفساد فيها ظاهرًا!!
كما تمّ إلغاء العمل بقانون تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة والذي كان يحمل الرقم 89 لسنة 1998، وتم وضع قانون بديل له هو القانون 182 لسنة 2018. وقد حدّد هذا القانون الجديد في المادة 62 منه 7 حالات يجوز فيها التعاقد بالأمر المباشر ومنها حالات تعزيز السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تتبنّاها الدولة. وهذا البند يكفي وحده لتبرير الإسناد المباشر لأيّ تعاقدات عامة حسب هوى الحكومة وأجهزة الدولة، خاصة عندما تكون للأجهزة السيادية شركات تعمل في الاقتصاد المدني وتحظى بالأفضلية المطلقة في أي إسناد مباشر للتعاقدات العامة. ومن المسلّم به أنّ التعاقدات المباشرة في الأعمال العامة هي بوابة جهنم للفساد، سواء في تقدير قيمة الأعمال أو العمولات التي قد ترتبط بذلك الإسناد، لذا يتم حصرها في حالات محدودة ومراقبتها بشكل دقيق.
عمليات الخصخصة الجديدة.. إهدار للأصول المنتجة بأسعار متدنية
حدثت عمليات جديدة لخصخصة حصة المال العام في شركات عالية الربحية وتتمتّع بوضعية ممتازة بالنسبة لمضاعف الربحية أو معامل الاسترداد فيها (مضاعف الربحية أو معامل الاسترداد هو عدد السنوات التي يمكن خلالها استرداد قيمة السهم بالكامل من خلال الأرباح فقط). وبيعت حصة المال العام في تلك الشركات بأسعار متدنية بما يجعل عمليات بيعها إهدارًا لأصول منتجة وعالية الربحية وبأسعار متدنية تثير التساؤلات حول نزاهة عمليات البيع، دون أن يكون لدى المجتمع القدرة على رفع دعاوى لإبطال تلك العمليات بسبب القانون الذي تمّ سنُّهُ عام 2014 لمنع دعاوى بطلان العقود العامة من غير طرفيها.
بيع الأصول المنتجة لسداد دين تورّطت مصر فيه هو خطأ جسيم يصل إلى حدّ الكارثة الاقتصادية
وعلى سبيل المثال باعت الحكومة المصرية حصة المال العام في شركة “أبو قير” للأسمدة التي بلغ مضاعف الربحية أو معامل الاسترداد فيها، بناءً على بيانات الأداء في نهاية العام المالي 2021/2022، نحو 4 سنوات فقط!! كما باعت حصة المال العام في شركة “موبكو” للأسمدة التي بلغ مضاعف الربحية فيها 6 سنوات فقط. كما باعت حصة المال العام في شركة “الإسكندرية لتداول الحاويات” رغم أنّ مضاعف الربحية فيها 8 سنوات فقط. وتلك العمليات للبيع للسعودية والإمارات هي إهدار للأصول الإنتاجية العامة المملوكة للشعب المصري لصالح بلدان أخرى بأسعار متدنية، علمًا بأنّ مضاعف الربحية أو معامل الاسترداد يتراوح في العادة بين 10 إلى 15 سنة، ويصل إلى أكثر من 20 سنة في أوقات الأزمات عندما تنخفض ربحية المشاريع.
ولو ادّعت الحكومة المصرية أنها مضطرة للبيع بسبب استحقاقات خدمة الديون التي ورّطت مصر فيها، فبغض النظر عن مسؤوليتها عن تلك الديون، فإنّ بيع الأصول المنتجة لسداد دين تورّطت مصر فيه من أجل التوسّع في البنية الأساسية بصورة تتجاوز القدرات المالية واحتياجات الاقتصاد والمجتمع في مصر، هو خطأ جسيم يصل إلى حدّ الكارثة الاقتصادية. ولتوضيح أسباب التساؤلات بشأن الشفافية والعدالة في تلك الصفقات يكفي أن نشير إلى أنّ سعر سهم “أبو قير” للأسمدة ارتفع للضعف خلال عام، وارتفع سعر سهم “موبكو” لأكثر من الضعف خلال عام، أما “الإسكندرية لتداول الحاويات” فارتفع سعر سهمها لقرابة 4 أمثال سعر البيع خلال عام واحد أيضًا، وارتفع سعر سهم البنك التجاري الدولي لأكثر من ضعف سعره عند خصخصة حصة المال العام فيه قبل عام واحد!!
أسس بناء نظام وطني للنزاهة ومنع الفساد
تتركّز أسس أي نظام قويّ للنزاهة ولمنع ومكافحة الفساد في ضرورة بناء نظام ديموقراطي يقوم على الفصل بين السلطات والتوازن بينها، إضافة للعديد من الخطوات التي يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- وضع آليات صارمة لمنع ومكافحة الفساد من خلال قوانين قوية تتضمن عقوبات رادعة للفاسدين، واستقلال كامل وحقيقي للأجهزة الرقابية عن السلطة التنفيذية بدلًا من الوضع الراهن الذي يجعل تلك الأجهزة إجمالًا تابعة للسلطة التنفيذية التي من المفترض أن تقوم تلك الأجهزة الرقابية بمراقبة تصرفاتها في المال العام!! وإيقاف اعتماد تلك الأجهزة على خريجي الأجهزة السيادية والمتقاعدين منها لأنهم أقرب لتغليب الملائمات السياسية لصالح السلطة التنفيذية التي أتوا منها، والأفضل هو الاعتماد على خريجي كليات الحقوق لتغليب المصلحة العامة والقانون على اعتبارات “الملاءمة السياسية”.
2- إلغاء قانون تحصين العقود العامة من دعاوى البطلان من غير أطرافها، لأنه بمثابة تحصين للفساد من الطعن عليه، وهو يحرم الشعب من حقه وواجبه في حماية المال العام، وإلغاء القانون 182 لعام 2018 الخاص بتنظيم التعاقدات العامة والعودة للقانون 89 لعام 1998 لإنهاء طوفان الإسناد المباشر الذي سمح به القانون 182 لعام 2018.
3- إلغاء الفاصل الزمني بين تقديم العطاءات وجلسة فتح المظاريف في المناقصات العامة، إذ يجب أن يتمّ التقديم والفتح في جلسة واحدة، لأنّ الفاصل الزمني بين تقديم العطاءات وفتح المظاريف يعطي الفاسدين من الجهاز الإداري للدولة الفرصة للعبث بتلك العطاءات وبالعروض المقدّمة فيها لصالح عملائهم المميّزين الذين يقدّمون لهم الرشى مقابل ذلك.
4- تقتضي اعتبارات النزاهة وحماية المال العام تقييد أو منع الشركات التابعة للأجهزة السيادية في الدولة من تنفيذ مقاولات وأعمال عامة في الاقتصاد المدني سواء بالإسناد المباشر، أو بالفوز في المناقصات نتيجة إعفائها من الضرائب على الشركات (22,5%) بالقانون بشكل تمييزي غير عادل، حيث أنّ عمل تلك الشركات في الاقتصاد المدني مخالف لدورها وفقًا للدستور، كما أنّ هناك قيودًا على الشفافية والرقابة والمحاسبة لأنّ الأجهزة الرقابية في موقف أضعف ومغلولة اليد إزاء أجهزة الدولة وشركاتها المحمية بجبروت سلطاتها التنفيذية.
كذلك فإنّ حصول بعض الشركات على عقود مقاولات عامة من خلال الإسناد المباشر أو المناقصات العامة، دون أن تقوم هي بالتنفيذ الذي توكله لشركات أخرى، هو أحد أشكال الفساد وتشويه بيئة الأعمال لأنها تتربّح من المقاولات العامة وعلى حساب المال العام، بالعمل كسمسار للمقاولات وليس كمقاول تنفيذ أصيل، وهو ما يجب إيقافه ومنع دخولها لأي مناقصات عامة.
5- تحصين موظفي العموم من طلب الرشوة، من خلال وضع نظام عادل للأجور، فيه حد أدنى للأجر يكفي لحياة كريمة للعامل ويتزايد سنويًا بأعلى من معدّل التضخّم، وحد أقصى لأجر العاملين لدى الدولة يحقق درجة مقبولة من العدالة الاجتماعية، وتوصيف مهني ووظيفي يُحدَّد على أساسه أجرٌ موحّد لكل من يقومون بالمهنة والوظيفة نفسها لدى الدولة ويمتلكون المؤهلات والخبرة نفسها مهما تنوّعت الجهات الحكومية التي يعملون بها.
6- تعزيز دور الرقابة البرلمانية على المال العام وعلى تصرفات الحكومة فيه، وتعزيز دور المجتمعات المحلية ومجالسها المنتخبة في هذه الرقابة، في إطار نظام ديموقراطي يُعلي من شأن قيم النزاهة والشفافية، كآلية لمنع ومكافحة الفساد.
7- إجراء تغيير جوهري بالنسبة للمجالس الشعبية المحلية، فقد سمح القانون 43 لسنة 1979 الخاص بالإدارة المحلية والتعديلات اللاحقة عليه بجواز التعاقد بين الوحدة المحلية وأي عضو في مجلسها الشعبي المحلي “في حالة وجود مصلحة محقّقة للوحدة المحلية” بما يفتح باب الفساد على مصراعيه حيث يسهل اختلاق تلك المصلحة المحققة بمختلف الألاعيب البيروقراطية. وإنهاء سيطرة السلطة التنفيذية عليها. وإلزام الجهاز المركزي للمحاسبات الذي يراقبها بتحويل المخالفات المالية التي يقوم بضبطها إلى القضاء بصورة مباشرة دون حاجة لأيّ إذن من السلطة التنفيذية أو التشريعية لإبطال فعل الملائمات السياسية الفاسدة.