د. مخلص الصيادي
24 / 8 / 2023
في خطابه الأول في إستانبول مساء يوم 29 / 5 / 2023 بعد أن أُعلن عن حسم معركة الانتخابات الرئاسية، وعد الرئيس رجب طيب اردوغان باستعادة إستانبول. الإشارة كان واضحة بأن المعركة القادمة ستكون معركة الانتخابات البلدية، وأن المدن التي سيطرت عليها المعارضة في الانتخابات البلدية السابقة، وأهمها إستانبول ومن ثم انقرة وازمير ومرسين وهاطاي وغيرها يجب ان تعود لتحالف الشعب بزعامة حزب العدالة والتنمية.
ومما لا شك أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية قد حسمت النصر لصالح هذا التحالف للسنوات الخمس القادمة، وهو نصر يعتز به، لا تشوبه شائبة، لكن مما لا شك فيه أيضا أن انتخابات البلديات التي ستجري في مارس القادم ستكون امتحانا حقيقيا لصلابة النصر الذي تحقق في انتخابات الرئاسة والبرلمان. وأن سيكون أمام الناس فرصة إبداء الرأي في سياسات ومواقف التحالف الحاكم ذات الأثر على الحياة المباشرة للمواطنين.
وإذا كانت الأجواء السلمية للعمليات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية مثلت في حينها شهادة رقي للحياة السياسية في هذا البلد، وخيبت آمال من كان ينتظر أن تفجر نتائج هذه الانتخابات اضطرابات وصراعات بالنظر إلى الاحتقان الاجتماعي الذي رافق أجواء هذه الانتخابات، فإن المراقب للأجواء العامة السائدة منذ ذلك الحين يشعر بالقلق، لأنها أجواء تسير بعكس ما كان يجب أن يكون. أجواء تتجه نحو الاحتقان والقلق والتوتر، بدل أن تتجه نحو الانفراج والاستقرار والطمأنينة.
فما السبب في ذلك؟
قد لا نستطيع، وليس من مهمة مثل هذا المقال، أن نحيط بكل الأسباب التي تفسر هذا الاحتقان والقلق والتوتر الذي يسود الوضع الاجتماعي في تركيا، لكن يكفي هنا الإشارة إلى بعضها، أو إلى أهمها، وأن نحاول تسليط الضوء عليها:
1ـ التضخم: يتصدر التضخم / ارتفاع الأسعار/ تغيرات سعر صرف الليرة التركية، هذه العوامل، ولا شك أن هناك عوامل عديدة تفعل فعلها في هذا الوضع، وعدد منها لا يمكن السيطرة عليه، لأن عوامل نشوئه خارجية، منها أسعار النفط والغاز، أسعار الحبوب، ارتفاع تكاليف النقل العالمية، ولأن السوق التركية سوق رأسمالية فإنها تخضع لقوانين السوق الرأسمالية، قوانين العرض والطلب، والسوق المفتوحة.
لكن هذه العوامل غير المسيطر عليها، يمكن توجيهها ليكون تأثيرها السلبي بحده الأدنى، وخصوصا على الطبقة المتوسطة في المجتمع التي تعتبر في كل الأوقات وفي كل الظروف، مركز الثقل السياسي والاجتماعي لكل القوى السياسية، ومركز الأمان الاجتماعي.
والعمود الفقري لهذه الطبقة الاجتماعية هم أصحاب الدخل المحدود، والموظفون، الذين يتلقون أجورهم في نهاية كل شهر، أو كل أسبوع، حسبما تقتضي قوانين العمل.
وحين تتأثر هذه الطبقة يتأثر المجتمع كله، ويتأثر أمن المجتمع واستقراره، ويظهر أثر هذا في خيارات المجتمع إيجابا وسلبا حينما يتوجه الناس إلى صناديق الاقتراع.
في الشهر الخامس من هذا العام، وقت الانتخابات العامة النيابية والرئاسية كان سعر ليتر البنزين 19،81 ليرة، وسعر ليتر الديزل 18،59 ليرة، وبعد ثلاثة شهور أي في أغسطس الجاري أصبحت الأسعار: 38ليرة، 37،72 ليرة للبنزين والديزل على التوالي. أي أن الزيادة تراوحت بين مئة بالمائة، وتسعين بالمائة، خلال ثلاثة أشهر وهي تتصاعد بتسارع غريب، الأمر نفسه جرى على مادة الخبز، وعلى أجرة الانتقال في وسائط النقل العام، وعلى الخدمات العامة بنسب مختلفة بما في ذلك المياه والكهرباء والغاز، ويمكن أن نتابع في تعداد مظاهر الغلاء التي انطلقت بدون هوادة لتغطي مختلف جوانب الحياة والاحتياجات الغذائية اليومية التي تمس المواطن العادي، أي ابن الطبقة المتوسطة، الناس الذين ينتظرون أجرهم نهاية كل شهر أو كل أسبوع. وجاء هذا كله على عكس توقعات الرئيس التركي الذي صرح في يناير الماضي ان نسبة التضخم ستتراجع إلى 30% خلال هذا العام
نحن نعلم أن الدولة عمدت أكثر من مرة إلى زيادة الحد الأدنى للأجور لمواجهة هذا الغلاء، وأن هذه الأجور تضاعفت، وأن الدولة تعتمد على قاعدة مراجعة الأجور كل ستة أشهر لتواكب ضغوطات التضخم، لكن ذلك لا يخرج المواطن من الضغط الذي يمثله هذا التصاعد المستمر والمتسارع للأسعار، وتكاليف الحياة، وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
الأول: أن مرونة الأجور لا تتسق مع ارتفاع هذه التكاليف، فالارتفاع سريع، وقد يكون يوميا/ أسبوعيا، وتعديل الأجور يحتاج إلى ستة أشهر، إن هذا يجعل ” صاحب الدخل المحدود” في حالة من القلق الشديد، والتوتر الذي لا ينقطع، ويجعل الزيادة في الأجور مهدورة بما سبقها من ارتفاع وتضخم في الأسعار.
الثاني: أن الطبقة الوسطى التي نتحدث عنها لا تتكون من الموظفين الحكوميين فقط، وإنما هي أوسع من ذلك بكثير، فهي تضم كل من يرتبط دخله بعمله المباشر، سواء كان هذا العمل خاص به، أو هو مأجور عند غيره، وبهذا المعنى فإن تعديل الأجور لا يصيب هذه الشريحة من العاملين، أو هو يصيبها بمرونة أقل، وببطء أكثر، وبزيادة لا تتناسب مع ما تقرره الحكومة من زيادات.
الثالث: أن هذا التضخم يمتص مدخرات هذه الطبقة الاجتماعية، وتمثل هذه المدخرات أمان هذه الطبقة، وهي مدخرات مجمعة في البنوك بالليرة التركية.
إن هذا التضخم ينال بقوة من ثقة المواطن بعملته الوطنية وبالبنوك التي يتعامل معها، وتدفعه إلى اللجوء لشراء العملة الأجنبية للتخفيف من أثر هذا التضخم، أي أنها تدفعه الى موقف يزيد من الضغوط التي تتعرض إليها الليرة التركية. إن الليرة التركية فقدت خلال الأشهر الثلاثة السابقة 50% من قيمتها مقابل العملات الأجنبية، من 18،50 ليرة مقابل الدولار في شهر الانتخابات إلى أكثر من 27 ليرة مقابل الدولار هذا الشهر، أي أن مدخرات هذه الشريحة من المواطنين استنزفت بهذا القدر تماما.
ثم إن أثر هذا الوضع يقدم للمعارضة أرضية للتحرك ضد برامج الحكومة وسياساتها، وهو ما تراهن عليه المعارضة، وتضعه في رصيد معركتها القادمة في الانتخابات البلدية، وقد تنجح في استثماره لو بقيت الأمور على هذه الوتيرة.
لا شك أن الذين يخططون للسياسات الاقتصادية أدرى بما هو حادث، لكن من المهم الانتباه إلى ضرورة ضبط ارتفاع أسعار سلع معينة لها تأثير مباشر على حياة الناس، وهي محرضة لارتفاعات متتالية في أسعار سلع أخرى، من هذه السلع التي يجب الإشارة إليها: وقود الديزل على وجه الخصوص، والديزل مادة رئيسية في تحديد تكاليف نقل السلع والبضائع، وفي تشغيل المكن، والمصانع، والجرارات، والكثير من مراكز الانتاج، وكذلك سلعة الخبز، إضافة إلى الغاز، مياه الشرب، والنقل الداخلي… وكذلك آجار البيوت والمساكن الخ.
يجب أن يشعر السواد الأعظم في المجتمع، الذين اختاروا الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، أن خيارهم كان صائبا، وأن حياتهم إلى تحسن، وأن عليهم أن يعززوا هذا الخيار في كل مرة يدعون فيها إلى صناديق الاقتراع، وفي النظم الديموقراطية فإن هذا الشعور يجري اختباره دائما عبر صناديق الاقتراع.
2ـ العنصرية: وهي التحدي الثاني الخطير الذي يواجه سلطة إردوغان وحزبه وتحالفه، وقد كان الظن أن هذه العنصرية التي تجلت بعض مظاهرها في أجواء الانتخابات السابقة قد انطفأت، باعتبارها متولدة في أجواء تلك الانتخابات، لكن يبدو أن وجودها ليس فقط بسبب أجواء الانتخابات، وأنها أقرب لأن تكون “ظاهرة”.
وقد لمس الرئيس أردوغان جوانب من هذه الحقيقة، وأشار إليها حينما تحدث عن “الأتراك السود والأتراك البيض”، وكان يعني في قوله الأتراك المتمسكون بجذورهم، عثمانية إسلامية ريفية منتمية إلى الطبقة الوسطى، وبين الآخذين بالعلمانية الفجة القاسية من أبناء المدينة، بكل ما في هذه العلمانية من مظاهر وثقافة واستتباع للغرب،
ورغم أن جوهر هذه الإشارة التي أتى عليها أردوغان ليست من صنف “العنصرية”، إلا أنها في الممارسة تفرز سلوكا عنصريا ضد كل ما هو غير تركي، ثم إطار هذا التقسيم يكون السلوك عنصريا ضد كل ما هو “تركي غير أبيض”، المسألة هنا لا تتصل بالعرق، وإنما تتصل بالثقافة وتتصل باللباس، وتتصل بمظاهر الحياة والتدين. بلباس المرأة والرجل، بالمساجد، والمناسبات الدينية.. الخ.
وبهذا التجلي للعنصرية في المجتمع التركي فإنها تظهر ظهورا فاحشا ضد غير التركي، وأكثر ما تظهر هنا ضد العرب، لأن الموقف العنصري ضد العرب يحمل في داخله موقفا عنصريا ضد “الأتراك السود”، أي ضد الأتراك الذين يحملون قيما إسلامية وعائلية وثقافية متصلة مع التاريخ والإسلامي لهذا المجتمع.
وهذه العنصرية مركبة ومعقدة وخطرة، لأن آثارها متشعبة على غير صعيد، ولطبيعة المجتمع التركي، وتنوع مكوناته العرقية، فإن كل القوى المعادية للنهج الثقافي والروحي والاقتصادي لحزب العدالة والتنمية وتحالفه، يرى في العنصرية سلاحا مؤثرا على هذه السلطة، وتشترك في هذه الرؤية أيضا القوى والحركات المعادية لتركيا داخل تركيا، وتلك التي في الدول والمجتمعات المحيطة بتركيا.
ليس غريبا أن يستشعر الباحث أيدٍ تتبع حزب العمال الكردستاني بتجلياته المختلفة، أو النظام السوري، أو نظم أخرى إقليمية تدعم العنصرية داخل تركيا، تؤجج السلوك العنصري، باعتبار ذلك السلوك هو السبيل لزرع التوتر والفوضى في وجه سلطة العدالة والتنمية، وفي وجه تماسك المجتمع التركي نفسه.
في الجوهر، في البنية الأساسية التاريخية والثقافية، لا يجوز أن يكون في تركيا مسلك عنصري، لا يُعرف في تركيا التي ترث الدولة العثمانية مسلك عنصري، فقد كانت هذه الدولة، وهي دولة مسلمة، إمبراطورية، موئلا لعرقيات وأديان ومذاهب، عاشت كلها حالة من الأمان والاستقرار افتقدتها في أوطانها ألأصلية.
ما يظهر الآن هو استخدام “أعداء النهضة التركية المعاصرة التي يقودها أردوغان” لكل الوسائل، ومنها العنصرية، لمقاومة هذه النهضة، وإعاقة نموها وتقدمها، ولعل هؤلاء يشعرون خطورة أن تمر السنوات الخمس القادمة بسلاسة وهدوء، مما قد يكتب نهايتهم ونهاية طموحاتهم وبرامجهم، لذلك هم يشرعون كل الأسلحة وفي هذه المرحلة بالذات لوقف هذا التقدم.
المسالة هنا ليست أفكارا فقط، وإنما أيضا سياسات واقتصاد واستقرار اجتماعي. إذ وفق تقديرات طفت على سطح وسائل الاعلام التركية فإن” السلوك العنصري لأتراك “ضد العرب”، ـ والذي انتشرت مظاهر له عبر وسائل التواصل الاجتماعي ـ أوقع خسائر في الاقتصاد التركي قدرت بمليار دولار خلال الشهرين الماضيين، ودفعت مستثمرين خليجين وعرب إلى سحب استثماراتهم إلى دول أخرى توقيا من هذه المظاهر، هذه التقديرات التي جاءت عليها صحيفة “تركيا الآن”، تشير إلى ردود الفعل الأولية، وهي ردود ستتعزز وتتسع إن لم يتم التصدي لهذه الموجة من السلوك العنصري.
العنصرية هنا طاردة للاستثمار الأجنبي، وللسياحة والتجارة، كما هي طارة للاستقرار الاجتماعي، وبالتالي فإنها أداة تخريب، ولا بد للدولة أن تواجهها، وقاية للمجتمع، ودفاعا عن القانون والقيم التي تعمل على أن تسود.
المسألة هنا ليست العرب، هناك أتراك يتم الاعتداء عليهم اعتمادا على لباسهم، وحجابهم، ومشهدهم الدال على ثقافة وانتماء معين، إنها عنصرية ضد ” تركيا التي يحاول اردوغان أن يبنيها”، وهذا أخطر ما في الأمر.
3ـ اللاجئون: واللاجئون ملف يختلف جزئيا أو يتميز عن ملف العنصرية، وإن كان يتصل به اتصالا عضويا، وحينما نتحدث عن اللاجئين هنا فإن التوجه يذهب الى اللاجئين السوريين أساسا، رغم وجود لاجئين من جنسيات عدة، ولعل عدد اللاجئين السوريين، وكذلك جوار سوريا لتركيا، وتداخل التركيب العرقي والطائفي والمذهبي بين البلدين ما يجعل الحديث عن اللاجئين ينصرف إلى اللاجئين السوريين
وزير الداخلية التركي السابق “سليمان صويلو” أعلن قبيل انتخابات الرئاسة أن عدد اللاجئين السوريين بلغ ثلاثة ملايين وثلاثمئة واثنين وثمانين ألف شخص، وأن عدد السوريين من غير اللاجئين (مستثمرين، إقامة سياحية، إقامة طالب) بلغ مليون ومئتين وسبعة آلاف شخص.
وذكرت مصادر اقتصادية تركية أن استثمارات السوريين في تركيا تجاوزت حتى العام الفائت عشرة مليار دولار، وشكلت اليد العاملة السورية 2،9% من مجموع اليد العاملة في تركيا، وقد ملك السوريين في تركيا 13880 شركة بنسبة 29% من مجموع الشركات الأجنبية في تركيا.
نحن نذكر هذه المعلومات لنشير إلى أن اللاجئين السوريين لا يشكلون ـ على الحقيقةـ عبئا على الاقتصاد والمجتمع التركي، ونحن لا نريد أن نشير هنا إلى مسؤولية المجتمع الدولي تجاه اللاجئين، وما يوفره هذه المجتمع من إعانات لهم، إذ الأهم من ذلك أنهم هم أنفسهم يمثلون مساهمة فعالة في الاقتصاد التركي، وفي نمو هذا الاقتصاد، ولعل رجال الأعمال الأتراك يعون أكثر من غيرهم هذه الحقيقة، لأنهم يستخدمون العامل السوري بتكلفة أقل بكثير من نظيره التركي، كما أن ” الاستثمارات السورية” بات تمثل رقما مهما في دورة الاقتصاد التركي في مختلف مجالات الحياة الوسيطة، وفي تشغيل اليد العاملة التركية نفسها.
ثم إن اللاجئين السوريين في مخيماتهم، وفي مواقع انتشارهم باتوا يمثلون جزءا رئيسيا من الأمن القومي التركي، لأنهم بكل تركيباتهم وتجلياتهم “المخيمات، المنظمات الاجتماعية، الفصائل العسكرية…. الخ” أقاموا حاجزا حقيقيا في وجه تمدد وسيطرة الانفصاليين الأكراد الممثلين بتنظيم pyd وهو التنظيم الذي يمثل حديقة خلفية لتنظيم حزب العمال الكردستاني الكردي الذي تصنفه الحكومة التركية باعتباره تنظيما إرهابيا..
إن هذه الحقيقة التي يوفرها وجود اللاجئين للأمن القومي التركي لها قيمة حقيقية، يدركها السياسيون والعسكريون على السواء.
إن الرئيس أردوغان وحزبه وتحالفه يواجه نشاطا عنصريا يتخذ من اللاجئين تكئة له، لكن الأمر لا يقتصر ـ كما بينا ـ على اللاجئين فقط، وهو في عمقه وحقيقته لا يستهدفهم، وعلى السلطات القائمة أن تواجه هذا الأمر بحسم وبوضوح وبشمول، القضية هنا ليست مواجهة قانونية ـ رغم أنها ضرورية ـ لكنها مواجهة ثقافية حضارية، تعيد ترتيب الأمور، وتضع النقاط فوق الحروف.
ليس الأمر هنا دفاعا عن اللاجئين، وليس من قبيل ثقافة ” المهاجرين والأنصار”، فمثل هؤلاء الخصوم لا يفهمون مثل هذه الثقافة، ولا يقفون عند هذه الحجج. ثم إن ملف اللاجئين ملف مرحلي بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
على أصحاب الشأن والمختصين أن يعالجوا هذه العنصرية باعتبارها تهديدا لقيم المجتمع التركي، ولمستقبل هذا المجتمع، ولخطط التنمية والبناء فيه، تهديدا لما دعاه الرئيس أردوغان ب ” القرن التركي”، أي تهديدا للمشروع الحضاري والنهضوي الذي يعمل على بنائه، وليس أمام تركيا بديلا عنه.
إن خطر هذه العنصرية لا يتأتى من حجم وجودها وانتشارها في المجتمع التركي، فهي من هذا المنظور ضئيلة، لكن قدرة العنصرية على تخريب المجتمع ينبع من طبيعتها وما تنطوي عليه من سموم.
ولهذه الطبيعة للعنصرية، ولهذه الخطورة التي تنطوي عليها، فإنه من غير الجائز التعامل معها كقضية انتخابية، أو التعامل معها من زاوية براغماتية، أو أن يترك التعامل معها للرئيس وحده، يشير إليها ويتناولها في خطبه وتصريحاته.
على المسؤولين وأصحاب الراي والقرار أن يشًرحوا هذه العنصرية، ويضعوها تحت المجهر، باعتبارها الخطر الأكبر على مستقبل تركيا، والتهديد الحقيقي لاستقرار المجتمع التركي، عليهم أن يفتحوا هذا ” الدمل” ليخرج كل القيح المتجمع فيه، وليستعيد جسم هذا المجتمع صحته ويعود إلى طبيعته.
مرة أخرى يجب التأكيد على أن المطلوب هنا ليس الدفاع عن اللاجئين، وإنما عن المجتمع التركي، عن استقراره، ونموه، وثقافته، ومستقبله.
4ـ الزلزال: يمثل الزلزال المزدوج الذي ضرب تركيا مطلع السادس من فبراير 2023 تحديا كبيرا للرئيس التركي ولبرامجه في النهوض بتركيا، لقد كان الزلزال أكبر كارثة تضرب تركيا في العصر الحديث.
أكثر من 46 ألف قتيل في تركيا وحدها، وخسائر مادية متعددة الأشكال تجاوزت تقديراتها ثمانين مليار دولار.
وإضافة إلى ذلك بات على الحكومة التركية أن تعالج مباني في إستانبول أساسا ومدن أخرى، لمواجهة زلزال مرتقب مدمر.
وقد أعلن الرئيس أردوغان برنامج إعانة لأصحاب البيوت القديمة، وخططا للتحول والتجديد العمراني، بما يتضمن ذلك من بناء أو إعادة بناء 350 ألف شقة لمواجهة الزلزال المرتقب.
إن هذا كله يشكل بلا أدنى شك ضغطا على الاقتصاد التركي، ويحمل ميزانية الدولة أثقالا كبيرة، لكن ذلك مما لا مهرب منه، ولأن المسؤولية تقع على أردوغان وحزبه فإن كل شيء سيوضع في خانتهما، وتسطر في صفحتهما.
ومما لا شك فيه أن من سيتحمل عبء ذلك كله هو الاقتصاد التركي، والمواطن التركي، وسيدفع ثمن ذلك من حساب النمو المرتقب، ومن حساب خطط البناء والتقدم في مختلف المستويات، وهذا قدر لا مفر منه، لكن هناك فارق جوهري بين أن يتحمله المواطن وهو يعلم ما يتم وما يتحقق، وكيف تتوزع الأعباء على مختلف شرائح المجتمع، كل وفق قدرته وطاقته، وبين أن يعاني وهو يشعر أن الحمل يقع عليه أساسا.
إن هناك من يرجع موجة الغلاء، والتضخم إلى الخسائر التي أوقعها الزلزال في الاقتصاد التركي، ولا شك أن بعضها يرجع الى ذلك، لكن أعباء الزلزال غير كافية لتفسير هذه الموجة.
يجب أن يكون واضحا للمواطن مساهمته في إعادة بناء ما دمره الزلزال، وفي تحضير المجتمع لمواجهة أي كارثة قادمة.
يجب أن يكون واضحا تماما أن هذا العبء الذي يتحمله هو وجه من أوجه “التضامن الاجتماعي” بين أبناء الوطن الواحد في مواجهة الظروف الطارئة، ولا يكون هذا إلا إذا كان واضحا للمواطن ما الذي يتم اقتطاعه حقيقة من دخله لأجل الزلزال، وما هي مساهمة مختلف قطاعات الشعب ومؤسساته وشركاته في تحمل هذا العبء، ومتى ستعمد الدولة الى رفع هذا العبء، ما هي الضرائب، الاقتطاعات، التي سيتم التخلي عنها وإلغائها حين تتجاوز الدولة آثار هذه الكارثة، ومتى تقدر الدولة ذلك؟.
مهم إلى أقصى حد أن يشعر كل مواطن بالمساهمة في مواجهة عواقب الزلزال، وبالعدل في تحمل أعباء هذه المواجهة، وأن يشعر كذلك أن لهذا الأعباء وقت لا تتجاوزه.
لقد كانت استجابة المجتمع التركي، واستجابة الدولة لتحدي الزلزال استجابة قوية ومجدية، ومن المهم جدا أن يتم اتخاذ كل التدابير لمنع استغلال هذه الكارثة في الصراعات السياسية والبرامج الانتخابية، ولا يكون ذلك إلا باعتماد “الشفافية التامة والمستمرة” حتى يتجاوز المجتمع هذه الكارثة، ثم أن يكون هذا هو المنهج المتبع في كل كارثة يمكن أن يتعرض لها المجتمع.
هذه أربعة مظاهر للتحديات الرئيسية التي تواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، وقد أعطى الناخب التركي الثقة له ولحزبه ولتحالفه، الثقة به رئيسا، والثقة لحزبه وتحالفه مشرعين، وستكون الانتخابات البلدية القادمة أول محطة اختبار حقيقية، وسيكون لطعم النجاح فيها ـ على الأقل ـ المذاق نفسه الذي كان للانتخابات العامة والرئاسة المنصرمة.
د. مخلص الصيادي