شفان إبراهيم
24 اغسطس 2023
الجوع والفقر يجتاحان كُل سورية. وتأخذ التظاهرات الحالية بسببهما، والتي تعمّ السويداء، وأجزاء من درعا، وأحياء من دمشق، والأصوات المرتفعة من الساحل ومحاصرتها، طابعاً مُخالفاً ما كانت عليه في بداية تظاهرات عام 2011، لما كان سعر صرف الليرة السورية، في تلك الفترة، يعرف استقراراً أمام العملات الأجنبية، ومقبولية راتب الموظف السوري مقارنة بالمستوى المعيشي وأسعار المواد الضرورية والعقارات والسيارات، لكن العسف السياسي والأمني والاستبداد كان العنوان الأبرز لكل مفاصل الحياة في هذه البلاد منذ نصف قرن، إضافة إلى أحزمة الفقر والحرمان. ويكفي القول إن سكان سلة العطاء والثروات في سورية (منطقة الجزيرة السورية) شكّلت صُلب تلك الأحزمة وبنيتها، مؤشّرا على سياسات الفقد والتفقير العميقين، فكيف لمن تتمتع محافظته بملايين براميل النفط، ومئات آلاف من الهكتارات الزراعية، أن يتحوّل إلى مُربي دواجن أو ناطور بناية هرباً من الفقر. لكن التظاهرات الحالية تحمل خمسة ملفّات عميقة متشابكة، أولها: ذاكرة متخمة بالموت والدم. وثانيها: استمرار الوضع السياسي والأمني على ما هو عليه منذ بداية الحدث السوري، وكأن شيئاً لم يحدُث. وثالثها: ارتفاع نسبة الفقر لمعدلات قياسية، وشلل شبه تام في الخدمات التعليمية والصحية وهجرة أكثر من نصف البلاد هرباً من الجوع والفقر وتحمّلهم مخاطر الموت في البحار والغابات. ورابعها: العنف الذي اجتاح الحواضن السورية، وتعود السوريون على استقبال طلباتهم بالعنف الشديد، إضافة إلى مخلّفات الحرب من صور وذكريات تؤسّس للسلوكيات الشخصية والجمعية معاً. وخامسها: إن الجيل السوري الجديد في هذه الحرب ورث الفقر والحرمان من آبائه من دون أن يكون لهم أيَّ ذنب، فتحولت الأسر والعوائل السورية إلى رموز للفقر المدقع.
يشكّل الفقر، منذ آلاف السنين، الجزء المعتم من المنظومة البشرية. وكأن التاريخ يقول إنهم كتلة من الشخوص عديمي النطق والحضور في الحياة، ولا صوت لهم، وما يُقال فيهم هو صوت الآخرين عنهم. كان ذلك التاريخ ولا يزال مع الحاضر مختصين في نقل سِير الأمراء والملاكين والملوك والحكام وذوي البطولات العسكرية وحكاياتهم، وبقي الفقراء على هامش التاريخ يكتفون بالتأمل والمشاهدة. وفي المقابل، يؤسس الفقر لجزء أساسي من التنشئة والتكوين الهويّاتي للفرد والجماعة في المجتمعات التي تُعاني من الحرمان والتضخّم والحاجة، وسورية أولها، وكل دول الربيع العربي أهمها. وهو (الفقر) أهم مُحركات العنف ومُحفز رئيسي للسيكولوجيا المؤسسة والمحرّكة لسلوكيات الأفراد والجماعات؛ كرد فعل عميق على عقود التهميش وعدم الاهتمام الرسمي بهم. وهل سيجد الفقر أفضل من السوريين في بلادهم لهذه السلوكيات، ورُبما يرسم الفقر السوري إيقاعا جديداً في فلسفة التاريخ، ويبدأ بتدوين سيرهم وقصصهم، بدلاً من أفعال الأغنياء والسلطة وحدها.
الفقر والحاجة يُعيدان تشكيل الأفكار وترتيبها، ولا مجال أن تكون صالحة للعيش والاستقرار
المشكلة الأكثر عمقاً هي حين تتخلى الدولة عن مسؤولياتها أمام الفقراء ومحاربة الفقر، فسياسات السلطة هي إما أن تنتج الرخاء وفرص العمل والتنمية، أو المجاعات والكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية المنتجة له، وحينها تُحرَم شرائع شعبية وقطاعات عديدة من الموارد والمال والمشاركة في السلطة والتعليم، وهو في صُلبه إهانة للكرامة الشخصية. والمؤسف أن تكون غالبية المجتمع السوري في تجمّع الفقراء، كأكثر مظاهر الخروج عن المألوف، فمواقف الناس وردة فعلهم بين بعضهم حيال القضايا المعيشية تقودنا إلى مخاوف الوصول إلى الحتف المحقّق، سواء عبر زيادة الهجرة غير الشرعية، أو ارتفاع منسوب العنف المرافق للسلوكيات الرافضة نتائج القرارات الصادرة، خصوصا المتعلقة بطبيعة العيش والخدمات المقدّمة، والتي تقود إلى مزيد من الفقر. والخطر الأعمق أن ذاكرة الأجيال المقبلة والحالية هي تاريخ الفقر وضياع الحيوات؛ فالفقر والحاجة يُعيدان تشكيل الأفكار وترتيبها، ولا مجال أن تكون صالحة للعيش والاستقرار. ولعله لا تجنّي في القول إن سورية دخلت نفق “الكارثة” المعيشية، فالاضطرابات والعنف هي نتائج لفعل مركّب مزدوج هو الفقر وهدر الكرامات، وهما صنوان لا يفترقان ولا ينفصلان عن بعضهما بعضا، خصوصا وأنهما يؤثران في الوسطين، الاجتماعي والاقتصادي. وتشهد القدرة الشرائية اليوم شللاً كبيراً، زاد من أعبائها رفع أسعار الوقود، وهو كفيلٌ بشلّ الحياة الاقتصادية، مع غياب محاولاتٍ للتعافي الاقتصادي ومعالجة تداعيات الحرب على الوضع المعيشي.
يقود ذلك كله إلى ضمّ أعداد ضخمة لـ”مجتمع الفقراء”، وهو كفيل بإحداث انسلاخ مخيف يقود إلى الانهيار والتفجير المجتمعي، ومؤشّر إلى تطورات عنفية لا تُحمد عقباها، فالفقر أوجد أفكاراً سياسية جديدة، ممهدة لاضطرابات أهلية، ووضعت المنطقة في نفق الأزمة الاقتصادية – السياسية. وفي مجملها هي أزمة تاريخية لبنية العلاقات الإنسانية – الاجتماعية، خصوصا وأن نمط عيشنا اليوم أسوأ بكثير من نمط عيش آبائنا، والخوف أن تبدأ الأعمال العدائية التي ينتجها الفقر، بالتطوير من دون إنذار مسبق، فالقواعد الاجتماعية فقيرة بمعيشتها ومحدودة الحصول على الخدمات الأساسية من طبابة وصحة وتعليم ومياه وكهرباء وحتّى الإنترنت، والصراع الطبقي في أوج قوته، والطبقة الوسطى إلى مزيد من التدمير والتهميش، وزيادة انحلال النماذج التقليدية للعلاقات، وانقطاع الروابط بين الأجيال. وهي الحدود الطبيعية من الخدمات والنماذج التي تُبقي المجتمعات المحلية محافظةً على صبرها الاستراتيجي حيال الوضع المعيشي.
الحروب تدمّر أجزاء من المباني أو مساحات مأهولة بالسكان، لكن التدمير الأكثر ضراوة وشدّة هو القائم على الفقر والحاجة .
من صفحة : أ يوسف سلمان