احمد حاج حميد (ورد فراتي)
عندما بدأ التحالف الدولي بقيادة أمريكا معركته للسيطرة على دير الزور أواخر العام 2017, وإنهاء تواجد تنظيم داعش فيها، اعتمد على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتكون الفاعل الميداني في العمليات شمال شرق وشرق سوريا، وهذه القوات تأسست حول نواة صلبة هي وحدات حماية الشعب YPG، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، وهو النسخة السورية (أو الفرع السوري) لحزب العمال الكردستاني PKK، ذي الأيديولوجيا المتطرفة، والمشكل من مقاتلين أكراد بحكم كونه ميليشيا قومية.
حينها انقسم أبناء المنطقة الشرقية من مقاتلي الجيش السوري الحر والفصائل المختلفة، والذين غادروا دير الزور بعد نجاح داعش بالسيطرة عليها إثر معارك شرسة امتدت نصف عام أواسط العام 2014 إلى كتلتين، الأولى ترى القتال تحت مظلة قسد لتحرير أرضها أمراً مرفوضاً، وهذه الكتلة بقيت في الشمال السوري ضمن تشكيلات مختلفة أبرزها اليوم حركة التحرير والبناء، والأخرى قررت الذهاب إلى دير الزور والانضمام إلى مجلس دير الزور العسكري الذي شكلته قسد لقتال التنظيم في أصعب مراحل المعركة ضده (السيطرة على المنطقة الممتدة على الضفة اليسرى لنهر الفرات من محافظة دير الزور – الجزيرة، في حين سيطر النظام وإيران بدعم روسي على الضفة الأخرى – الشامية)، وبالفعل انطلق أفراد الكتلة الثانية من الشمال السوري إلى الشرق أفراداً ومجموعات صغيرة، وأعادوا تنظيم صفوف المقاتلين وخاضوا أشرس المعارك التي حدثت شرقاً ضد التنظيم، ودخلوا قراهم وبلداتهم ببنادقهم تحت طيران التحالف الدولي وبانتماء تنظيمي لقسد.
ضمت هذه الكتلة عدداً من أبرز قادة العمل المسلح في دير الزور، منهم الشهيدان ياسر الدحلة وأبو اسحق الأحواز إلى جانب آخرين، وبدأ هؤلاء القادة بعد السيطرة على مناطقهم تنظيم صفوفهم ككتلة عسكرية كانوا يريدون لها أن تستقل بإدارة جزء دير الزور المحرر، وإن بقيت تنظيمياً تابعة لقسد.
وعلى مدار أعوام تعرض قادة هذه الكتلة لعمليات اغتيال متفرقة نجحت بقتل عدد ليس بالقليل منهم (بينهم الشهيدان سالفا الذكر عام 2019)، في حين دفعت آخرين لمغادرة المنطقة حفاظاً على أرواحهم، ومع عدم القطع بالجهة المسؤولة عن عمليات الاغتيال المتلاحقة، إلا أن معظم أصابع الاتهام تشير إلى قسد لاعتبارات عدة أهمها كونها المستفيد الأكبر منها، ليتم تفريغ مجلس دير الزور العسكري من قادته الأقوياء ذوي العلاقة الطيبة مع الأهالي والعشائر، ويتحول أحمد الخبيل أبو خولة إلى قائد أوحد للمجلس، وهو من أبناء عشيرة البكيِّر التابعة لقبيلة العكيدات.
شهدت العلاقة بين الخبيل وقيادة قسد الكردية شداً وجذباً على فترات متباعدة، وكان واضحاً أن الخبيل يسعى لنوع من الاستقلالية بالمجلس عن قيادة قسد، واضعاً نصب عينيه أن تصبح علاقة المجلس مباشرة مع التحالف الدولي الذي تنتشر قواعده العسكرية في المنطقة.
أما أبناء العشائر في دير الزور فلم يتركوا مناسبة للتعبير عن رفضهم الخضوع لقيادة كردية دون أن يكون لأبنائهم دور فيها، على اعتبار اقتصار منطقتهم على العرب دون تواجد كردي، خاصة مع حالة التمييز الفجة التي تتبعها قسد في التعامل مع أبناء المنطقة، سواء بالمخصصات المالية أو المشاريع التنموية، فضلاً عن تكرار اتهام أبناء المنطقة من قبل قيادة قسد بالدعشنة وما يترتب عليها من اعتقالات وحملات أمنية شارك طيران التحالف الدولي في عدد منها، ولا أذكر فترة منذ عام 2019 مرت على منطقة الجزيرة ضمن محافظة دير الزور دون احتجاجات أو اشتباكات أو بيانات تعبيراً عن هذا الرفض، والذي طالما لخصت مطالبه العبارة “نريد قيادة عربية للمناطق العربية”.
قبل أيام نفذت قيادة قسد عملية أمنية ذكية، اعتقلت فيها كافة قادة مجلس دير الزور العسكري التابع لها، إثر دعوة جلهم لاجتماع غدرت بهم فيه، ما دفع مجموعات عسكرية وأهلية محلية متواضعة الأعداد، غالبيتها من أبناء عشيرة البكيِّر، للتحرك رفضاً للاعتقال مطالبة بالإفراج عن قادة المجلس، ردت عليها قسد بتحريك أرتال عسكرية ضخمة من الحسكة والرقة إلى المنطقة لردع المجموعات التي خاضت معها اشتباكات في عدد من المناطق، وسط حالة حياد تام لعشائر المنطقة التي لم تنظر لأبو خولة وللمجلس كممثل عنها، خاصة بعد عمليات الاغتيال ورحيل القادة المعروفين.
تركزت الاشتباكات بداية في قرية العزبة ومناطق أخرى في ناحية الصور شمالي دير الزور (معقل أبو خولة)، أحرزت فيها قسد تقدماً في البداية بانتشارها بمناطق واسعة وتنفيذها عمليات دهم واعتقال طالت عدداً من أبناء العشائر، وسط عجزها عن إخضاع مناطق أخرى رغم قلة أعداد وضعف تسليح المجموعات التي تواجهها فيها.
حتى تلك اللحظة كانت عملية قسد ناجحة بل إن عدداً من أبناء العشائر أنفسهم لم يخفوا شماتتهم بقائد المجلس العسكري “الخبيل”، لكن كل هذا كان على وشك أن يتغير.
تعنتت قيادة قسد وأصرت على اقتحام المناطق التي استعصت عليها، وزجت بالآليات وسلاح المدفعية والطيران المسير محلي الصنع فيها، مما تسبب بتدمير المنازل وترويع الأهالي وقتل عدد منهم بينهم أطفال، لتنخرط مزيد من المجموعات الأهلية في المواجهة شيئاً فشيئاً، ردت عليها قسد بمزيد من التعزيزات ومزيد من استخدام السلاح الثقيل وقصف المناطق التي تدور فيها الاشتباكات.
يعرف كل أبناء الثورة السورية الإمكانيات الحقيقية لقوات YPG (النواة والحامل الحقيقي لقوات قسد)، ونوعية مقاتلهم، وعدم قدرتها على خوض مواجهة عسكرية مفتوحة دون غطاء ناري من الطيران الحربي، وهو ما تعلمه قسد نفسها، لذلك عمدت بداية المواجهات إلى الزج بمجموعات من جيش الثوار (مجموعات جيش حر سابقاً من إدلب وريفها) أو مقاتلي الصناديد (عشيرة شمر) في المواجهات ضد أبناء العشائر، سرعان ما أثبتت عدم كفايتها، بل وعدم رغبة مقاتليها بخوض مواجهة ضد مكونات عشائرية كونها جزئياً تنتمي لعشائر أخرى، لذلك اضطرت قسد للدفع بقوات نخبتها “الكردية” في المواجهات، ولم يكن مفاجئاً سرعة انهيار هذه التشكيلات في مواجهة المجموعات العشائرية المحلية، من أبناء منطقة تتحرك بالعصبيّات ويعرف رجالها كيف يقاتلون أفراداً وجماعات، ضد تشكيلات نظامية أو في مواجهة ميليشيات، وعلى امتداد أربعة أيام طُردَت قسد من أغلب الشريط النهري الممتد من الحدود السورية العراقية عند منطقة الباغوز شرقاً، إلى محيط البصيرة إلى الشمال الغربي (الريف الشرقي)، بعد اشتباكات شهدت ذروتها في بلدتي الشحيل وذيبان، كما طُردَت من مناطق متفرقة في محيط بلدة الصور شمالي دير الزور، مع هدوء حذر في خط الكسرة (الريف الغربي) والذي تعمدت قسد فيه تقييد حركتها، خشية استفزاز أبناء المنطقة (جلهم من أبناء عشيرة البگارة) المستعدين لطردها منها على غرار ما فعله أبناء الريف الشرقي (جلهم من أبناء عشيرة العگيدات).
والحقيقة أن كل هذا حدث دون أن تدخل العشائر مواجهة مفتوحة، فحتى مع تزايد المجموعات المحلية المشاركة، بقيت أعدادها محدودة مقارنة بقدرة العشائر، كما أن سلاح المجموعات لم يجاوز الخفيف والمتوسط في كل المواجهات، ولم نشهد استخدام السلاح الثقيل من قبل مقاتلي العشائر.
ما حدث في المنطقة دفع المشيخة التقليدية والوجهاء المحليين للتحرك مع الناس، تصريحاً وتبياناً، وكان أبرز المتفاعلين الشيخ إبراهيم الهفل شيخ قبيلة العكيدات، كبرى قبائل دير الزور والفاعلة الأهم حتى الآن في المواجهات ضد قسد، حيث أعلن ديوانه نقطة تجمع للمقاتلين قبل أن يعلن النفير لصد هجوم قسد، تساعده في ذلك شرعيته كشيخ عشيرة تقليدي، وحاجة الناس إلى قيادة مع اعتقال قادة المجلس وغياب قيادة عسكرية أخرى.
ورغم أن صورة ما يجري توحي بمواجهة مفتوحة، إلا أن ما يحدث لا يريد له أحد أن يذهب باتجاه معركة وجود، والعشائر بجل مقاتليها ومشايخها ووجهائها لا تطلب آنياً أكثر من مجلس عشائري تدير بها مناطقها دون تدخل قسد، وبتنسيق مباشر مع التحالف وبضمانه، كما أن قسد تعرف حجم قدراتها الحقيقية (وليست المضخمة إعلامياً)، ولذلك انسحبت انسحاباً من عدد من المناطق دون أن يحتاج أهلها إطلاق رصاصة عليها، لكنها إلى ذلك تصر على الاحتفاظ بجبل البصيرة الذي يعد مقر قيادتها المركزي في دير الزور، والذي دفعت إليه بتعزيزات جديدة صباح اليوم، وسط تجهز العشائر لانتزاعه منها رغماً كما انتزعت الشحيل وذيبان قبله، وتدرك قسد أن إخراجها من كافة ريف دير الزور بهذه الطريقة المهينة، خاصة من المقرات الرئيسية، لن تقتصر آثاره على خسارة منطقة جغرافياً، بل يعني تغير تقييمها كقوات يمكن الاعتماد عليها في عمليات مستقبلية من قبل التحالف أو حتى روسيا، إذ أن ميليشيا لا تستطيع الصمود أمام مجموعات أهلية، فهي من باب أولى غير قادرة على الهجوم أو الصمود في معارك أكبر ضد أعداء أكثر تنظيماً.
لا أعلم -ولا أظن أحداً يفعل- إلى أين تتجه الأمور، لكن يغلب على ظني أن قيادة التحالف (أمريكا) لن تسمح بتطور أكبر حالياً، خشية تدخل النظام وإيران المتمركزين في جزء دير الزور على الضفة المقابلة عبر نهر الفرات، خاصة مع بدء تحرك الأخيرَين إعلامياً للاستثمار في الحدث، وخشية عودة نشاط تنظيم داعش في المنطقة وهو الذي يعرف كيف يستثمر أحداثاً مشابهة، فضلاً عن الحشود العسكرية لأبناء العشائر شمالاً في مناطق نفوذ تركيا، التي تتوق للعب دور شرقاً.
وقد بدأت قيادة التحالف بالفعل اجتماعات مع عدد من وجهاء المنطقة أبرزهم شيخا العگيدات والبگارة لفرض تسوية ما، دون أن تثمر الاجتماعات حتى الآن عن نتائج مع تعنت قيادة قسد، وإصرار العشائر (العگيدات بشكل خاص) على مطلبها.
ولعل الاجتماعات ستنتهي إلى حل تكون قسد فيه الخاسر الأكبر (فأي سيناريو ممكن ستكون هي الخاسر فيه)، ويعطي العشائر وأبناءها خطوة أقرب إلى استقلالية منطقتهم.