راكان السعايدة – نقيب الصحفيين الأردنيين
مدار الساعة ـ نشر في 2024/03/23
دعونا بدايةً نسمي الأشياء بمسمياتها، بلا لف أو دوران، نسميها كما هي، بلا تذاكٍ، فما يحدث أن أنظمة عربية تريد تحطيم الإخوان المسلمين عبر تحطيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
هذه الأنظمة ترى أن الإخوان المسلمين خطر عليها، ولا ترى في “إسرائيل” ذلك الخطر، وترى في انتصار حماس رافعةً سياسيةً وشعبيةً للإخوان سيوظفونها في اشتباكاتهم في كل بلد هم فيه لتحقيق مكاسب سياسية.
بكل بساطة، هذه هي محركات تلك الأنظمة، وأي استنتاج للمشهد وتفاعلاته لا يأتي بهذه النتيجة حتمًا هو استنتاج مشوب بعيوب جمة، وفيه تغاضٍ عن الوقائع والحقائق، وتجاهل لحقيقة أن “إسرائيل” منيت بهزيمة استراتيجية.
لذا، فإن مقاربة أي نظام عربي تقوم على استبعاد خطر “إسرائيل” وتصدُّر خطر الإخوان، بالفرض الساقط أن هذا الخطر موجود، مقاربة معتلة لا تستقيم ومنطق الأخطار الواجب العمل على درئها.
كيف..؟
من حيث المبدأ، الأنظمة العربية لديها القدرة وإمكانات احتواء الإخوان المسلمين، وبإمكانها عقد تسويات وتفاهمات معها في كل الشؤون السياسية وغير السياسية.
التاريخ يقول ذلك، ويؤكد أن تجارب الدول العربية مع الإخوان قامت على التفاهم والاحتواء، وأحيانًا، وبلا مبرر موضوعي، قامت بإخضاعهم بالأدوات السلطوية (…).
المحصلة أن الإخوان كانوا تحت سقف الدولة، أي دولة هم فيها، ومواقفهم كقوى معارضة بقيت تحت سقف الديمقراطية، وهم أحيانًا مستعدون لتفاهمات تحدد سقف معارضتهم ونطاقها.
أي أن احتواء الإخوان المسلمين وإدماجهم في العملية السياسية والسلطة مسألة ممكنة، وقد تم تجريب ذلك بنجاح في عديد البلدان العربية، والمهم أن يحترم الجميع شروط الديمقراطية ولا ينقلب عليها أحد.
ماذا عن “إسرائيل”..؟
بكل مقاييس المنطق، فـ”إسرائيل” هي الخطر الحقيقي على الأنظمة العربية، وأي نظرة بسيطة إلى مخططاتها وأدبياتها، وحتى تصريحات يمينها المتطرف تؤكد ذلك.
“إسرائيل” لديها مشروعها (إسرائيل الكبرى)، وهذا المشروع أساسه تصفية القضية الفلسطينية، بالانقلاب التام على إحدى أكبر الخدع في التاريخ العربي الحديث (اتفاقية أسلو) وتوظيف الساحات المجاورة (الأردن ومصر ولبنان سوريا) كساحات حل للقضية الفلسطينية.
وهي اليوم، أي “إسرائيل”، تعي، وبالعمق، أن هزيمتها في قطاع غزة، تتجاوز فشلها في تحقيق أهدافها ومشاريعها، إلى مواجهتها لتهديد وجودي حقيقي لا متخيَّل، لذلك المسألة بالنسبة إليها حياة أو موت.
أميركا تدرك ذلك وتعيه أيضًا، لذا، هي مشغولة كليًا في إنقاذ كيانها المصطنع من ورطته، وإدامة إخضاع الدول العربية لمنطقها الذي أساسه أن الخطر عليها يأتي من المقاومة والإخوان لا من “إسرائيل”.
وكل ما تمارسه أميركا من نفاق لا يُخفي الحقيقة، والمستغرب أن أنظمة عربية اشترت بضاعتها، وشكلت قناعتها النهائية بأن الإخوان أخطر من “إسرائيل”، وإلّا بمَ يفسَّر الموقف العربي؟.
الموقف العربي الذي يرى إبادة جماعية وتجويعًا وتدميرًا ممنهجًا لكل أشكال الحياة ومظاهرها، ولا يفعل شيئًا غير الإدانة والاستنكار، بدون أن يتوقف ليسأل نفسه عما سيكتبه عنه التاريخ.
والأهم أن تسأل الانظمة العربية نفسها: هل مقاربتها هي نتاج تقييمات وحسابات وطنية خالصة؟ أم فرضت عليها هذه المقاربة بالتضاد مع مصالحها؟ وأن تسأل نفسها أيضًا: ما الذي يمكن أن تفعله “إسرائيل” في المستقبل القريب إذا ما قيّض لها تحقيق أهدافها في قطاع غزة؟ لا قدر الله.
الحقيقة تقول أن دولًا عربية خضعت لمنطق أميركا و”إسرائيل” وتورطت معهما، وأي تجميل لمواقف هذه الدول لا ينطلي على أحد، ولا يمكنها بيعه وتبليعه للبسطاء، فكيف بالمسيسين!.
هل انتهى الأمر وقضي..؟
ليس بعد، فبمقدور الدول العربية الاستدارة عن مواقفها الحالية، وأن تبني مقاربات وطنية على أساس المخاطر الحقيقية ومصادرها الفعلية لا المدّعاة.
وعليها أن تدرك أن “إسرائيل” هزمت استراتيجيًا يوم 7 أكتوبر وأن كل ما يحدث الآن مجرد تداعيات وهزات ارتدادية لتلك الهزيمة.
فبعد مضي قرابة الستة شهور على العدوان الصهيوني الفاشي على قطاع غزة فشلت “إسرائيل” في تحقيق أيٍّ من أهدافها:
أولًا: فشلت في القضاء على المقاومة، وهاهي تشتبك معها في كل أرجاء قطاع غزة تقريبًا، وخسائرها مستمرة بلا توقف.
ثانيًا: فشلت في إطلاق سراح أي من أسراها لدى المقاومة عبر القوة العسكرية التدميرية، فقد خضعت لصفقة تبادل سابقة، وتفاوض الآن على صفقة ثانية.
هذان هدفان رئيسيان لم تحقق أيّاً منهما “إسرائيل” بكل ما لديها من قوة تدميرية ودعم لا يتوقف من أميركا والغرب الاستعماري، ومع تجذر هذا الفشل وتعمقه يتداعى هذا الكيان من الداخل ويتآكل.
وكل يوم يمر يؤكد أن خدعة الهيمنة وقوة الردع لم تكن أكثر من وهم اشتراه العرب من دون نقاش، وخضعوا له سنوات وسنوات، وقد استثمرت فيه “إسرائيل” إخضاعًا وهيمنة على المنطقة إلى أن جاءت المقاومة وكشفت زيف هذه الخدعة الاستراتيجية.
خلاصة القول: ليس على الدول العربية فعل أي شيء لإنقاذ هذا الكيان من تداعيه، عليها أن تدعه يتشظى وينتهي، فهو لم يعد قادرًا على أن يحمي نفسه حتى يحمي غيره، وعلى هذه الدول أن تدرك أنها إن أمدّت الكيان بأسباب الوجود والبقاء فسيأتي اليوم الذي سيبتلعها، فلا تسمّنوا هذا الخطر الذي يهدد وجودكم.
ما تفضل به راكان السعايدة فيه الكثير من الصحة، لكن شابه بعض الغبش، أو أنه يحتاج إلى بعض التوضيح، ذلك أن القول بأن العداء للإخوان المسلمين كتنظيم، واعتبارهم عدوا أكثر خطورة من ” اسرائيل”، أو أنهم هم “العدو الرئيسي” لهذه الأنظمة، قاد هذه الأنظمة الى إظهار هذا العداء لحماس، هذا التصوير للقضية يحتاج الى تدقيق وتصحيح وتحرير، ولتوضيح الأمر نسأل:
لو أن من يقود المقاومة على النحو الذي نراه، هل ستقف الأنظمة العربية موقفا آخر غير هذا الذي تقفه، وهل كانت ستتحرك لنجدة غزة، والتضامن معها؟
أعتقد جازما أن موقف الأنظمة العربية ما كان ليتغير سواء كان من يقود المقاومة في غزة حماس، أو فتح، أو أي تنظيم فلسطيني آخر، القضية في جوهرها ليست “الاخوان المسلمون”، ولا حتى حماس، القضية في جوهرها “المقاومة الفلسطينية”، معاداة الكيان الصهيوني، والتصدي له، وعدم الاعتراف بشرعيته، والتمسك بكل وسيلة للجهاد والنضال ضده، هذه هي القضية في جوهرها، وقد أحسن السعايدة حينما تحدث عن تدجين الاخوان المسلمين عبر الديموقراطية والعمل في إطار الدول القائمة وآلياتها.
الآن تعلن حماس، وتحالف المقاومة الذي يعمل معها استعدادهم الاعتراف بالكيان الصهيوني، والتعامل معه تنتهي المشكلة، مع الكيان، ومع النظام العربي، وتصبح “الخلافات” على تفاصيل لا قيمة حقيقية لها.
ما أثيره هنا ليس أمرا فرعيا، ولا جزئيا يخص هذه المرحلة من الصراع الذي كان وما يزال أفقه ممتدا، ما أثيره هنا يتصل برؤيتنا لتاريخ القضية الفلسطينية، الذي هو في جوهره تاريخ كفاح وجهاد ومواجهة، وليس تاريخ تسويات.
وتثبيت الموقف المقاوم من خلال هذا الجهاد العظيم الذي تقوده حماس. إنما أدخل الصراع مع العدو مرحلة جديدة مختلفة جدا. ومتناقضة جدا مع تصور “المسار الابراهيمي”، وقبله مسار كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو .
لقد فضحت عملية “طوفان الأقصى” النظام العربي وعرته، بمثل ما عرت وفضحت الكيان الصهيوني. وسجلت نصرا لا تشوبه شائبة، وهزم العدو في عدوانه على غزة وشعب غزة، وعجز عن تحقيق أي هدف له. وهذا هو السبب الرئيسي لموقف النظام العربي ولتواطئه مع العدو ومع جرائمه في غزة، ومشاركته في حصار وتجويع هذا الشعب المجاهد.
وموقف النظام العربي المستسلم للإرادة الأمريكية/ الصهيونية، هو الذي يفسر موقفه من المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة.
إن المقاومة، والجهاد، هو الأصل في مواجهة المشروع الصهيوني، وليس في هذا المسار موقف وسط.
إما أن تكون مع هذا الطرف أو ذاك.
د. مخلص الصيادي