سليمان أبو ارشيد
تحرير: عرب 48
14/04/2024
د. غانية مليحس
آثار القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)
ارتكب الغرب المحرقة ضدّ اليهود، وأضفى قدسية على مشروع التحالف الغربي الصهيوني لإنشاء الكيان الصهيوني عبر توظيف عذابات ضحاياه اليهود لتحقيق هدفه…
في مقال نشر على عدة حلقات، تحت عنوان” الهزات الارتدادية لزلزال غزة”، وصفت الباحثة والكاتبة الفلسطينية غانية ملحيس ما حدث في السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) بالزلزال الأكبر الذي ضرب المنطقة منذ سايكس بيكو ونكبة فلسطين، كونه قلب الأمور رأسا على عقب، فهز الأساسات، وهو يهدد بتقويض إنجازات ما وصفته بالتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني وتطال تأثيراته الجيوإستراتيجية العالم بأسره.
كما تحدثت عن ديناميكيات تغيير أطلقتها الحرب المروعة الجارية في قطاع غزة، لن تقتصر تداعياتها على فلسطين وما وصفتها بـ”المستعمرة الصهيونية” فحسب، بل ستطال المنطقة العربية والإقليم والعالم، لن تعود الأوضاع بعدها ما كانت عليه قبلها.
لإلقاء المزيد من الضوء على الموضوع كان هذا الحوار مع د. غانية ملحيس.
عرب 48: ما الذي يجعل طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة “واحدة من الاستثناءات النادرة “، التي تجعل حرب إبادة ضد “شعب صغير ضعيف أعزل تواطأ الكون بأسره لاستئصاله”، كما ذكرت، أشد وأكثر تأثيرا من غيرها؟
ملحيس: عندما نراجع التاريخ لفهم الحاضر واستقراء المستقبل تستوقفنا أحداث تبدو طارئة، لكنها تؤدي إلى انعطافات جوهرية في مساره، بسبب تضافر وتفاعل مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية والتحامها معا في لحظة معينة دون تخطيط مسبق، بحيث يصبح من غير الممكن التحكم بتطوراته، فلا يعود الوضع بعد حدوثه كما كان عليه قبله، دون أن تكون من وراء ذلك خطة إستراتيجية مسبقة.
ولا شك أنها المرة الأولى منذ هزيمتنا الكبرى في الحرب العالمية الأولى، يتجرأ فيها جزء صغير محاصر من الشعب العربي الفلسطيني الضعيف الأعزل، تواطأ الكون على اقتلاعه من الجغرافيا السياسية منذ أكثر من قرن، وينجح في تحدي التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني المسيطر على النظام الدولي، ويبادر بالهجوم على أهم معاقله الحصينة، فيهز أساسات الدولة الصهيونية التي استقرت فوق أنقاض الشعب الفلسطيني ثمانية عقود متصلة، وأصبحت الدولة النووية الأقوى في الإقليم.
إن طوفان الأقصى والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية طوال ستة أشهر في مواجهة حرب إبادة جماعية غير مسبوقة تاريخيا في وحشيتها، تجند فيها التحالف بكل قواه، أرادها فاصلة – فحولها طوفان الأقصى إلى معركة حاسمة، سيكون لها – بغض النظر عن نتائجها العسكرية ومآلاتها – أبعاد توازي في تأثيراتها الاستراتيجية الأحداث العالمية الكبرى.
عرب 48: أشرت إلى ارتكاب “التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني” جريمة إبادة مزدوجة لتحقيق أهدافه، وزاوجت بين مسؤوليته عن حل المسألة اليهودية الناجمة عن العنصرية الأوروبية ومعاداة السامية عبر “الإبادة والتهجير القسري ليهود أوروبا لتوطينهم في فلسطين وإقحامهم في تنفيذ مشروعه الاستعماري للسيطرة على المنطقة”، وبين مسؤوليته عن “خلق المسألة الفلسطينية ولإبادة واستئصال الشعب العربي الفلسطيني من أرض وطنه”؟
ملحيس: شكل استبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بيهود أوروبا، هدفا مركزيا في كافة المخططات الاستعمارية الغربية للسيطرة على عموم المنطقة العربية الإسلامية، ومنحت المنظمة الصهيونية شرعية التمثيل الحصري ليهود العالم لتعبئتهم وتأطيرهم وتهيئتهم للهجرة إلى فلسطين لإنشاء مركز استيطاني يهودي يخضع لسيطرتها فوق أنقاض الشعب الفلسطيني، ويوكل إليه دور وظيفي كقاعدة استعمارية استيطانية متقدمة تتولى مهمة تثبيت تجزئة المنطقة، ومنعها من استعادة وحدتها الجغرافية والديموغرافية والسياسية، لإدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية عليها.
عرب 48: معروف أن اليهود عاشوا في كنف المنطقة العربية وتحت مظلة مختلف تشكيلاتها السياسية بأمن واستقرار، في الوقت الذي جرت ملاحقتهم وتعرضهم للإبادة في أوروبا؟
ملحيس: الاستهداف الأساسي ليهود أوروبا بدأ في منتصف القرن الثامن عشر، وتواصل طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في إطار سعي القوى الاستعمارية الأوروبية للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، فتم إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية، وأبرمت اتفاقات سايكس بيكو، وصدر وعد بلفور، وتم الشروع بالتنفيذ في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وجرى توظف المحرقة التي ارتكبها النظام الناري ضد اليهود في المناطق الخاضعة لسيطرته، بتواطؤ مع الدول الغربية التي أغلقت حدودها في وجه اليهود الفارين من بطشه (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وعديد الدول الغربية)، لتهجيرهم إلى فلسطين، التي تولى الانتداب البريطاني على فلسطين مهمة تهيئتها، واستكمل خلال ثلاثة عقود الجاهزية لتوطينهم فيها وإحلالهم محل شعبها العربي الفلسطيني، الذي تم بالتوازي تجريده من أراضيه وممتلكاته بالقوة، وارتكبت المجازر ضده، وتم اقتلاع غالبيته الساحقة وتشريدهم خارج وطنهم.
بكلمات أخرى ارتكب الغرب المحرقة ضدّ اليهود، وأضفى قدسية على مشروع التحالف الغربي الصهيوني لإنشاء الكيان الصهيوني عبر توظيف عذابات ضحاياه اليهود لتحقيق هدفه، وارتكب وضحاياه اليهود المجازر ضد الشعب الفلسطيني، واقتلعوه من أرض وطنه وشردوه خارجه، وجرّم انتقادات جرائم الإبادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني بقوانين أوروبية ودولية صارمة بذريعة مواجهة معاداة السامية، التي تطابق تعريفها مع معاداة الصهيونية وإسرائيل وفرض عقوبات جزائية غير مسبوقة على كل من يتجرأ على نقد سلوكياته، رغم أنها جريمة الغرب ولا علاقة للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية والإسلامية بها.
عرب 48: هو النفاق الغربي إذن، الذي ارتكب محرقة ضد اليهود في بلاده، وحولهم إلى رأس حربة ووقود لمشروعه الاستعماري في المنطقة ووكلاء لعمليات الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني؟
ملحيس: لقد قام الغرب الاستعماري الذي يسيطر على النظام العالمي باستثناء الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المستحدث فوق أنقاض الشعب الفلسطيني من نفاذ الاتفاقيات والقوانين الدولية ووضعه فوق المساءلة والمحاسبة، وإطلاق يديه ضد الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة مع ضمان إفلاته من العقاب.
وبدا أن الاستقرار – برضوخ العالم لسطوة القوة بات وشيكا، بعد إذعان أنظمة الحكم والطبقة السياسية في البلاد العربية وتسليمها بالواقع المستجد، ورضوخ النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني المنقسم والمنهك لجبروت التحالف، والتزام طرفيه المتنافسين على السلطة والنفوذ بدور وظيفي عبر حكم ذاتي لضبط وإدارة السكان ولجم مقاومتهم، (التنسيق الأمني في الضفة الغربية والترتيبات للهدوء والهدنة في قطاع غزة)، وتخفيف كلفة الاستعمار ورفع عوائده، واستكمال سيطرته على كامل فلسطين الانتدابية. وتراءى للجميع أن الوقت قد حان لحسم الصراع، بتغييب الشعب الفلسطيني “المشاكس”، الذي أعياهم استعصاؤه طوال 75 عاما – جغرافيا وسياسيا.
عرب 48: طوفان الأقصى قلب المعادلات، وأفشل مخطط تجاوز القضية الفلسطينية وطي ملفها؟
ملحيس: جميعنا نتذكر إطلاق الولايات المتحدة الأميركية في العاشر من أيلول/ سبتمبر 2023على هامش اجتماع قمة العشرين في الهند – خطتها الطموحة لتكريس الواقع الجيو – سياسي الجديد، بتكامل اقتصادي يربط الموانئ البحرية في الهند بأوروبا من خلال شبكة سكك حديدية تربط الدول العربية الخليجية، مرورا بالأردن، ووصلها بموانئ إسرائيل البحرية، لتأمين تدفق صادرات الطاقة والتجارة من الخليج إلى أوروبا بسرعة أكبر وكلفة أقل، وتوفير بديل مستقر للطاقة.
وكذلك إعلان نتنياهو الانتصار في الأمم المتحدة في خطابه (22/9/2023) عندما لوح بخريطة على وجهها الأول دولة إسرائيل على كامل فلسطين الانتدابية والجولان السورية، وعلى وجهها الآخر خارطة الشرق أوسط الجديد المأمول إعلانه قريبا بعد الانضمام الوشيك للسعودية لاتفاقيات أبراهام، وبدا أن الظروف قد باتت مهيأة تماما لبلوغ أهداف التحالف كافة، فجاء طوفان الأقصى بعد أسبوعين ليقلب الأمور رأسا على عقب وليهز الأساسات التي رسّخها التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني على مدى أكثر من قرن، عبر توجيه ضربة عسكريّة موجعة للقاعدة الاستعمارية الاستيطانية الأهم للغرب ومعقله الأخير في جنوب الكرة الأرضية.
عرب 48: مقابل استبسال المقاومة والصمود الأسطوري لحاضنتها الشعبية في الدفاع عن وجود الشعب الفلسطيني، حشد ” التحالف الصهيوني الغربي”، كما ذكرت، جل قواه العسكرية والاستخباراتية والسياسية والدبلوماسية والمالية… وانخرطوا جميعا في حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد شعب صغير أعزل محاصر، لاستكمال هندسة الإقليم، وفشلوا رغما عن ذلك؟
ملحيس: ومنذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى استشعر “التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني” خطرا إستراتيجيا يتجاوز الأضرار المادية والبشرية التي ألحقها الهجوم بإسرائيل، ويهدد بتقويض الأسس التي ارتكز عليها المشروع الصهيوني، الذي شكل العمود الفقري لإستراتيجيته في المنطقة، فاستنفر كل قواه لحماية المكتسبات التي أنجزها على مدى قرنين.
إلا أن طوفان الأقصى أثبت أن إسرائيل لم تعد إسرائيل بعد طوفان الأقصى الملاذ الآمن والمزدهر لمستوطنيها ومركز جذب ليهود العالم، بل أصبحت عبئا ثقيلا عليهم. وتفجر الغضب الشعبي على امتداد العالم اتجاه حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة الصغير المحاصر والمكتظ بالسكان ومتابعة شعوبه بالبث الحي المباشر على القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، للتدمير الإسرائيلي الممنهج للمساكن والمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس المكتظة بالأطفال والنساء والشيوخ، وقطع إمدادات الغذاء والدواء والماء والكهرباء والوقود عن 2.3 مليون فلسطيني وتجويعهم، وتخييرهم بين الموت وبين التهجير ونكبة جديدة تستكمل ما لم يتمكنوا من إنجازه في النكبة الأولى عام 1948.
عرب 48: ما تشهده ساحات أوروبا ودول الغرب من تعاطف مع الفلسطينيين وعداء لإسرائيل هو بمثابة انقلاب في الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية؟
ملحيس: لأول مرة فاقت معدلات العداء للسامية معدلات الإسلاموفوبيا، التي أججها ذات التحالف الاستعماري على مدار عقود، ما أسقط التعاطف والحصانة الاستثنائية الممنوحة لليهود منذ المحرقة النازية، التي وفرتها عقدة الذنب ولازمت الأجيال المتتابعة، ووظفها “التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني” على مدى العقود الثمانية الماضية لتبرئة ذمته من دماء ضحاياه اليهود، وتحقيق مآربه الاستعمارية التوسعية والتذرع بالتكفير عن أخطائه بتعويضهم بوطن الشعب الفلسطيني المستهدف استبداله بالدولة اليهودية الوظيفية، وإبادة واقتلاع أصحابه الأصليين والسعي لاجتثاثهم من الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.
ومع تنامي تضامن شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه أبناءه في قطاع غزة إبادة على يد ذات التحالف الذي نفذ جريمة الهولوكوست، بات اليهود – الذين ترتكب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية باسمهم – غير آمنين في مواطنهم الأصلية، وسارع العارفون منهم بنوايا التحالف للتظاهر ضد المجازر الصهيونية في قطاع غزة، ودعوا لإنهاء التماهي بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل. فقمعتهم الشرطة ولاحقتهم.
وأضحت “المستعمرة الاستيطانية الصهيونية” بعد طوفان الأقصى عبئا ثقيلا على التحالف عوضا عن أن تكون عونا له، فقد أنشأها لتكون قلعة حصينة وقوة ضاربة لحراسة منابع النفط وطرق الملاحة والتجارة المواصلات والاتصالات الدولية، واستثمر فيها آلاف المليارات ووفر لمستوطنيها اليهود مستويات معيشية تفوق تلك المتاحة لمواطنيه.
ومعلوم أن ذلك الدعم ليس حبا بيهود إسرائيل، بل دفاعا عن استثماراته في الدولة الوظيفية، التي تجند مواطنيها اليهود – نيابة عن مواطنيه – لخوض حروبه والدفاع عنها وهذا ما دفعه لاستنفار وحشد جل قواه وإرسال أساطيله ورؤسائه ووزرائه وخبرائه وجنوده للمنطقة.
عرب 48: من الواضح أن طوفان الأقصى هز أركان إسرائيل والمرتكزات القائمة عليها، ومن شأنه أن يخلخل أواصر تحالفها مع الغرب الاستعماري؟
ملحيس: لقد هز طوفان الأقصى الأساسات التي ارتكزت عليها إستراتيجيته لإعادة هندسة المنطقة العربية – الإسلامية، واستبدال هويتها الحضارية الجامعة بحضارة شرق أوسطية هجينة، تتنافر فيها الأعراق والقوميات والأديان والطوائف والمذاهب كي يسهل إخضاعها وإدامة استغلال ثرواتها، بعد أن كان قد قطع شوطا بعيدا، وأوشك في السنوات الأخيرة على بلوغ هدفه، بتكريس الدولة الوظيفية اليهودية، وتغييب نقيضها الوجودي الفلسطيني.
كما عطل (طوفان الأقصى) تطبيع علاقاتها بمحيطها العربي والإسلامي، وربط دوله بشبكة مصالح اقتصادية وأمنية ترسخ وتحفظ تفوق إسرائيل النوعي، وتضمن تفردها بامتلاك السلاح النووي، وتتأهل بذلك لقيادة إقليم الشرق أوسط المعاد هندسته لإدامة الهيمنة الغربية على المنطقة الجيو استراتيجية الأهم عالميا، وأربك، كذلك، مخطط ربط المصالح الحيوية لدولها ببنى تحتية ومشاريع اقتصادية واتفاقيات سياسية وأمنية تستبدل هويتها الحضارية الجامعة للأعراق والقوميات والألوان والأديان والإثنيات والطوائف والمذاهب، بهوية شرق أوسطية هجينة، بعد أن أفشل تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع علاقات إسرائيل بمحيطها العربي والإسلامي، وفرضها كقوة إقليمية رادعة لكل من يجرؤ على التمرد، لتوظيف الإقليم في الصراع الغربي المحتدم لمواجهة صعود الصين وروسيا وإدامة النظام الدولي أحادي القطبية.