ا. محسن حزام
27/7/2024
(في الصورة) إجتماع كابينيت الحرب الاسرائيلي
ما تم تداوله في الفترة القريبة الماضية وقبل “طوفان الأقصى”، بما لا يقل عن عشرة أشهر، أن الأسباب المباشرة لملامح الانفجار داخل الكيان الإسرائيلي، ظهرت بعد السابع من أكتوبر 2023 يوم انطلاق “طوفان الأقصى” الذي كشف عورات المؤسسة العسكرية والأمنية وقدرات الجيش الذي لا يقهر، لحكومة الاحتلال، والذي تسبب في انقسام عامودي داخل الكنيست والمؤسستين العسكرية والأمنية وكذلك بين جنود جيش الاحتلال النظامي منهم والاحتياط. لكن قبلها حدث الانفجار الحقيقي فيما يسمى التعديلات القضائية، عند هذه المحطة التي هددت “نتنياهو” وفريقه الذين يشكلون الأغلبية في المؤسستين، تراجع خطوة إلى الوراء مع طاقمه اليميني أمام غضب المعارضة وتفاعلات الشارع، كان من الممكن أن يقع المحظور داخل مؤسسة الكيان بالكامل.
معركة الاصلاح القضائي
جاءت على خلفية الخطة التي تقدم بها نائب رئيس الوزراء ووزير العدل ( ياريف ليفين ) بدعم كامل من بنيامين “نتنياهو”، والتي تهدف إلى اجراء تغييرات جوهرية في النظام القانوني “الإسرائيلي” بما في ذلك فقرة – التغلب وتنظيم إلغاء القوانين – وذلك بعد ستة أيام من تنصيب الحكومة السابعة والثلاثين في 4 يناير 2023، التي تسببت في موجة غضب شعبية بداية في تل أبيب شارك فيها الآلاف، وعمت بعد شهر العديد من المدن شارك فيها بعض أطراف المؤسسة العسكرية، كان من نتائجها إقالة وزير الدفاع “غالنت” في 26/3/2023، تبعها في 27/3/2023 إعلان اتحاد العمال الإضراب العام في البلاد، الذي أدى إلى شلل في معظم قطاعات الدولة.
الحقيقة أن الهدف وراء الإصلاحات القضائية من طرف اليمين المتشدد في الحكومة الجديدة هو // تجميد وإلغاء محاكمة “نتنياهو” وملاحقته قضائيا، المطلوب على ذمة التحقيق في العديد من القضايا، وكذلك عدم إلغاء القوانين (من قبل المحكمة العليا) والتي تتعارض مع نهج التسلط لحكم أغلبية الليكود وحلفائه من اليمين المتطرف وأيضا القرارات التي تتخذها الحكومة الحالية في مسألة بناء المستوطنات وتمكين مشروع نقاء الجنس للوصول لترسيم الهوية اليهودية// .
من الملفت ان هذه التعديلات تعرضت بشكل مباشر لصلاحيات المحكمة العليا “محكمة الاستئناف” والحد من صلاحيات القضاة، حيث تستطيع مجموعة قليلة من الأغلبية داخل الكنيست (البرلمان) تعديل القوانين وسحب الصلاحيات الممنوحة، وتستطيع إلغاء ما يعرف بـــ “حجة المعقولية ” أو تقليصها، التي تعطي الصلاحية للمحكمة العليا إلغاء أية قرارات حكومية ترى أنها غير منطقية. ومن جهة المعارضة اعتبرت هذه الخطوة انقلاب على الديمقراطية وتجاوز للخطوط الحمراء؛ وحينما وصل الخلاف بين الطرفين إلى أشده، تطلب من الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ ” ان يسارع في توجيه ندائه الى الطرفين، للتعقل حرصا على مصلحة إسرائيل الكبرى، وذلك اثناء حضوره مناسبة دينية يهودية (“خراب الهيكل”: الخراب الذي أرجع حكماؤهم سببه إلى اقتتال طائفي). وفي ذات السياق جاء اتهام رئيس الموساد السابق لــ “نتنياهو” بتفكيك الجيش وتمزيق إسرائيل.
التعديلات القضائية فجرت الكنيست “الإسرائيلي”، وكان من الممكن أيضا أن تفجر المحكمة الدستورية أساسات الكيان، حينما بادرت للرد على ما حدث من [ فوضى دستورية] عبر مشاريع قرارات طرحتها امام المحكمة العليا في الاجتماع الطارئ الذي دعت اليه، فقدمت فيه محاججة فلسفية وقانونية حول مرتكزات الهوية الصهيونية، وما تم كتابته من ذات المحكمة في منتصف يناير /2024/ حول إلغاء ( قوانين أساس )، التي تعتبر رأس هرم التشريعات القانونية، واستمرار لروح نصوص وثيقة الاستقلال التي أعلنت عشية انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين في 15 مايو 1948 ، في جلسة خاصة لمجلس الشعب، بحضور 37 ممثلا عن الاستيطان اليهودي في فلسطين والمنظمة الصهيونية العالمية التي تعبر عن روح وهوية الكيان. كان ذلك سيعتبر أخطر قرار قضائي بالنسبة لتاريخ إسرائيل، كما عبر عنه أحد المحامين في مرافعته: / انا خائفا على وجود الدولة، وأننا لسنا بعيدين من خراب الهيكل الثالث / .
هذه الحادثة أظهرت التباين الكبير داخل المشهد الإسرائيلي ليس حول التعديلات بل حول أساسات البناء الدستوري المؤسس “لإسرائيل” ونظامها السياسي والاجتماعي وحتى القيمي المتمثل في “وثيقة الاستقلال”.
مع العلم ان “قوانين الأساس” تعتبرها المحكمة العليا [فصول منفصلة] داخل الدستور الإسرائيلي – غير المكتوب إلى الآن – كما جرى العرف القانوني منذ قانون “يزهار هاراري” الذي أقر في دورة الكنيست الأولى 1950 والذي يتعامل مع مجموعة “قوانين أساس” يسنها الكنيست على أنها تشريع متدرج لفصول الدستور وخطوة على طريق جمعها في نصوص دستور نهائي . هذا هو الأساس الذي بنيت عليه هيكلية الكيان الصهيوني؟!
أزمة الكيان بعد حرب غزة “الطوفان”
* ماذا في اليوم التالي ؟؟ *
هذا السؤال أول من طرحه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بعد ثمانية أشهر من الحرب على غزة، والتي لم يتحقق فيها أياً من الأهداف المعلنة لليمين المتغطرس من اليهود المتصهينين، والتي كانت محدداتها – استرجاع الرهائن والقضاء على حماس – والتي يتطلب تحقيقها، تجريف كافة الأنفاق وتدمير ما تحت الأرض وما فوقها، لذلك أمعنت قوات الاحتلال البرية والجوية والبحرية، أثناء الاجتياح مع القوى المساندة الامريكية وقوى التحالف، في القتل الممنهج الذي يرقى إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتدمير الشامل للبنى التحتية، مع إلغاء كل مقومات الحياة للشعب الغزاوي، استخدم فيها جيش الاحتلال كل قدراته العسكرية والأسلحة الفتاكة لتحقيق تلك الأهداف، والتي أدت إلى تدمير كل معالم الحياة على أرض غزة، بأسلوب وحشي عنصري غير مسبوق، عما كان عليه في المنازلات السابقة مع أهل غزة. لاشك أن كلفتها كانت قاسية على شعب غزة، لكن لم تكن أقل كلفة على جيش الاحتلال، على كافة المستويات، معنويا وبشريا واستراتيجيا، اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا، سطرتها قوى المقاومة بإرادتها، سواء أكان في عملية “طوفان الأقصى” بحد ذاتها في السابع من أكتوبر، او اثناء المواجهات مع القوات الصهيونية المقتحمة، عبر استهدافات نوعية مباشرة وغير مباشرة، لآليات العدو وجنوده.
ما حدث بعد الاجتياح الصهيوني البري لغزة، من خلال سبعة ألوية بما فيها ألوية النخبة ( ناحال والجولاني )، أمام صمود المقاومة الأسطوري، استمر لشهور دون حدوث أي تغيير في المعادلة ،لكن كانت نتائجه عكسية على بنية المؤسسة الصهيونية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخليا وخارجيا، فانهار الاقتصاد، وتعطلت الكثير من المرافق الحيوية للكيان، نتيجة سحب عدد كبير من قوات الاحتياط وزجهم في الاقتحام البري ،كما انطلقت هجرة يهودية عكسية غير مسبوقة تجاوزت المليون من المستوطنين، لم تشهدها الحكومات السابقة في حروبها مع الجيوش العربية النظامية، والاقتحامات للمدن الفلسطينية بما فيها غزة والمسجد الأقصى.
عنوان ” اليوم التالي” تم طرحه جديا في اجتماع الحكومة والكنيست، تجاوبا مع الإدارة الامريكية، غايته ايجاد طريقة لإيقاف الحرب عبر مفاوضات غير مباشرة يتم من خلالها استعادة المحتجزين والحفاظ على هيبة إسرائيل، اول من تصدى لهذا الطرح من غلاة الصهاينة المتشددين كل من “نتنياهو وبن غفير وسمتريتش وغالنت وغانتس” والمعارضة الإسرائيلية على رأسهم “لابييد”، وتم وصفه بأنه طرح انهزامي يمس هيبة الدولة ويعترف بالإرهابيين ممثلين بـ “حماس”، معتبرين أن شروط النصر لم تتحقق بعد، كما رفضته وبشدة [جماعات الصهيونية الدينية الكهنوتية] وطالبت باستمرار القتل الممنهج والإبادة الجماعية لشعب غزة ومسح هذه المنطقة مع سكانها بالكامل، في حرب مستدامة مهما كانت كلفتها، والضغط على الحاضنة الشعبية للالتفاف حول مقولة اهمية النصر والحسم، مستندين إلى قناعة فحواها / ان الأمة عندما تكون في خطر الهزيمة، فإن كل العنف اللازم للحفاظ عليها يكون مبررا / .
وعلى الطرف المقابل وبالتضاد صدرت اصوات يهودية في الداخل والخارج من كبار الحاخامات تدعوا الى القطيعة مع الصهيونية باعتبارها عرقية “شوفنية”، يضاف إليها الضغوط المستمرة لأهالي الأسرى الذين لم تحقق لهم هذه الحرب استرجاع اولادهم، إلى جانب عدد من قوات الاحتياط الذين رفضوا الالتحاق بهذه الحرب. ردّات الفعل هذه / كانت صادمة لليهود العنصريين ولم تكن متوقعة بهذه الحدة/، والتي جاءت ردا على الكارثة الإنسانية المروعة في غزة، التي خلفت إلى تاريخ هذا اليوم، أكثر من 140 الف قتيل، عدا الجرحى والمعاقين والذين لازالوا تحت الأنقاض، وهو ما يعادل من حيث النسبة المئوية لعدد السكان ( 14 مليون امريكي ).
علت هذه الاصوات والتي شكلت رقما لا يستهان به في نشاطها المدني وعلى وسائل التواصل، وفي شوارع أمريكا والدول الغربية. عبر إدانتها لحكومة نتنياهو على ممارساتها البشعة بحق المدنيين العزل، واعتبرته ارهاب دولة منظم، يتعارض مع الشريعة اليهودية والمسيحية وتعليمات “التوراة والتلمود” التي تدعوا إلى تأمين سياج الدولة وشرعيتها في التعامل مع رعاياها وجيرانها بالعدل، لكن يروا أن حزب الليكود الحاكم أسس لنظام صهيوني طارد لفكرة أن تكون / دولة إسرائيل ملاذا ووطننا لليهود في جميع أنحاء العالم، وفق القانون الأساسي الإسرائيلي لعام 2018 الذي ينص على ” الحق في تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل للشعب اليهودي”/. بدا واضحا من خلال هذا الموقف لتلك الشريحة من اليهود أن هناك تعارض واضح بين المصالح القومية مع المعتقدات الدينية التي اختلطت فيها “القومية بالهوية العرقية والدينية” حسب وصفهم، والذي وضحه أكثر وصف البرفسور ” إسرائيل شاحاك” الناجي من المحرقة والذي كان جنديا في جيش الدفاع الإسرائيلي وانشق عنه بقوله (حياتنا تساوي أكثر من حياتهم) هذه المقولة اطلقوا عليها مسمى “معاداة السامية”، وراحوا يطلقونها في مواجهة كل من يعترض على ممارساتهم مع الشعب الفلسطيني “بقوانين الفصل العنصري التي طبقت في جنوب أفريقيا” ويتهمونه بالإرهاب، ويقومون بملاحقته وقتله إن تطلب ذلك، /وهذا نراه اليوم في مواجهتهم للدول والشعوب التي انتصرت للشعب الفلسطيني وحقه في الحياة، حتى تهجموا على المحكمة الجنائية الدولية ووصفوها بأنها داعمة للإرهاب عندما جرمت أفعالهم في غزة وطالبت بمحاكمتهم كمجرمي حرب/ .
عشرة أشهر ونيف على اقتحام غزة وما نتج عن الحرب البرية، من تجريف القسم الشمالي من القطاع ( كان أقسى وأشد من المجازر التي ارتكبت من قبلهم بدءاً من مجازر ” كفر قاسم 1956″ التي أسست للتوطين المستدام في فلسطين الذبيحة ). سيطرت فيها القوات البرية على كامل القطاع الشمالي لغزة وقامت بتهجير السكان قسريا نحو الجنوب على حدود رفح المصرية، بدعوى الحفاظ على أرواح المدنيين أثناء العمليات العسكرية، لكن الهدف الحقيقي كان الدفع بهم إلى سيناء في محاولة لتفريغ غزة بالكامل بغية اجراء تغيير ديمغرافي، ظهر وبشكل سافر عندما تواصل “نتنياهو” مع السلطات المصرية طالبا استقبال /من سماهم النازحين/ مقابل دفع تعويضات مجزية، لإنقاذ الاقتصاد المصري، مع تامين بناء مدينة سكنية لاستيعابهم، لكن جاء الرد من الطرف المصري بالرفض المطلق، واعتبرت السلطات المصرية أن ذلك الطلب، [لا يناقش] لأنه مسألة أمن قومي، وإثر ذلك تم وضع تعزيزات عسكرية على معبر رفح، وتعهدت بالمقابل ان تستقبل الحالات الحرجة للجرحى والمصابين وأصحاب الإعاقات. لكن بالمقابل كانت لا تستطيع إدخال أي شاحنة من المساعدات الإنسانية والطبية، من القاطرات المتكدسة على معبر رفح الا بموافقة قوات الاحتلال وعبر مجلس الحرب حصريا.
إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن” لم تطرح مقولة اليوم التالي من فراغ، بل حصلت تطورات لوجستية على الأرض خلال الحرب على غزة هددت أمن إسرائيل، ومستقبل وجودها وبقائها، والذي اعتبرته الإدارة الأمريكية المتصهينة تهديداً لأمنها القومي المرتبط باستمرار وجود إسرائيل في المنطقة. لأن الذي حصل بعد 7 أكتوبر (وضع العربة أمام الحصان) نتيجة الصمود الأسطوري للمقاومة وكذلك بطولات أهالي غزة الذين تمسكوا بأرضهم وساندوا قوى المقاومة، وتحملوا كل ما لحق بهم من هذه العنصرية البغيضة، التي أعملت القتل والاعتقال والتنكيل بالفلسطينيين المدنيين وإبادة الأطفال والنساء وحتى الجرحى والمصابين في المشافي، ومارست سياسة الحرمان والتجويع والتعطيش والتهجير الممنهج. وأن صمود المقاومة الاستثنائي، قلب المجن على رأس “نتنياهو” و”بايدن”، مما اضطرهم إلى تغيير خرائطهم في طريقة الحرب الدائرة مع المقاومة من خلال زيادة الدعم الأمريكي، العسكري واللوجستي بقوات النخبة والكوماندوز ومعدات متطورة الكترونيا لكشف الانفاق وإغراقها بمياه البحر.
وأيضا حسابات سياسية أجبرت الإدارة الأمريكية و”بايدن” على الخصوص؛ الذاهب إلى معركة انتخابية عصيبة أمام منافسه القوي “دونالد ترمب ” ، ان ينسحب من فصلها الأخير ، فكلّف معاونته “كمالا هاريس” بمتابعة حملته الانتخابية كمرشحة عن الحزب الديمقراطي، نتيجة تدهور وضعه الصحي، الذي دفع أغلبية “الديمقراطيين” للضغط عليه من أجل الانسحاب، وكذلك بسبب فشله في التعامل مع الملفات الساخنة في المنطقة وعلى مستوى العالم بما يخدم السياسات الامريكية، يضاف له أيضا المد الشعبي المؤيد للشعب الفلسطيني الذي عم ارجاء المدن الأمريكية وبريطانيا وفرنسا الداعمة أيضا لهذه الحرب على –حماس- (المصنفة من قبلهم على أنها منظمة إرهابية)، وكذلك منظمات المجتمع المدني والتجمعات الطلابية والفعاليات المدنية الأخرى التي طالبت بإيقاف هذه الحرب الهمجية والتعامل بجدية مع الكارثة الإنسانية التي ولدتها هذه الحرب، منددين بالحكومة الإسرائيلية، والمطالبة بمحاكمة “نتنياهو” وطاقمه اليميني امام محكمة العدل الدولية، ايضا انتقل هذا التأييد الى الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية للاعتراف ((بدولة فلسطين))، المعترف بها منذ 35 عام في الجزائر 1988،ووافقت عليها ايضا 149 دولة عضو في الأمم المتحدة.
هذا يسلط الضوء على مسألتين:
الأولى/ حق الشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية منذ 1600 سنة، وحقه في “دولة فلسطينية مستقلة”..
[ لكن قبل فترة وجيزة من السابع من أكتوبر صوت الكنيست الإسرائيلي على رفض قيام أية دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، تنهي هذا الاحتلال المستمر منذ 75 عام، بتأييد 48 نائبا من أصل 120، و64% من الشارع الإسرائيلي عارضوا ذلك ] وكذلك حقه في مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال المتاحة لتحقيق مطالبه في استعادة ارضه.
الثانية / عندما عجزت كل الهيئات الدولية والحقوقية والإنسانية بما فيها مجلس الأمن، عن اتخاذ أية إجراءات عقابية بحق “إسرائيل” لما خلفته حرب الإبادة الجماعية أو إيقافها.
أمام تلك اللحظة الفارقة بين الحق والباطل تنبه الشارع الغربي ولو بشكل متأخر، عندما وضحت أمامه حقيقة الصهيونية العالمية المهيمنة على السياسة الدولية التي تصنع قراراتها وتؤمن تبعيتها، المتسترة بلباس الدين اليهودي اللاهوتي، وفي أرض الميعاد والهيكل المقدس تحت السجد الاقصى، وأن القدس عاصمة ابدية لإسرائيل (أورشليم) وعلى زيف الديمقراطية الغربية.
وعلى ذات المقلب صدر مؤخرا بذات الخصوص بيان عن المجمع الاكليروسي المقدس في 13 / 7 / 2024 المكون من رؤساء الكنائس المسيحية، والذي يمثل 1.5 مليار مسيحي في العالم. ينفي أحقية “أرض الميعاد ” عن اليهود، وأنه لا يمكن استخدام الكتب المقدسة [التوراة ] كأساس لتبرير عودة اليهود إلى ” إسرائيل” وتهجير الفلسطينيين من أرضهم التاريخية. على هذه الأرضية نفت أعلى سلطة مسيحية في العالم والغت ما قام به اليهود على مدار عشرات السنين حول أحقية وجودهم في أرض الميعاد التي ليست أرضهم.
المسار الدبلوماسي
في سنن الحروب وقواعدها، لابد من مسار تفاوضي يضع قواعد لإنهاء الحرب، توقع عبرها اتفاقات يتدخل فيها طرف ثالث بدافع إنساني.
بعد مضي خمسة أشهر من العدوان على غزة، ونتيجة ضغط أهالي (المحتجزين لدى حماس)، فرض على “نتنياهو” وفريقه، التواصل مع الطرف الأمريكي؛ وكذلك مع الجانب القطري والمصري كوسطاء، للتواصل مع رئيس المكتب السياسي لحماس “اسماعيل هنية” المقيم في قطر، لمناقشة مشروع صفقة تبادل للرهائن، وعن طريقه يتم بحثها مع قيادة المقاومة على الأرض ومعرفة شروطها، بعد موافقة القيادة الميدانية لحماس على الصفقة، عرضها “نتنياهو” على مجلس الحرب الإسرائيلي، فور انتهاء اللقاء الذي تم في باريس بين رئيس الموساد ( جهاز الاستخبارات الخارجية ) ” ديفيد برينغ ” ورئيس الشين بيت( جهاز الاستخبارات الداخلية ) مع الوسطاء من الطرف العربي؛ كما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الإسرائيلي “تساحي هنغبي ” بإمكانية عقد الصفقة، وأكد ذلك أيضا وزير الحرب الإسرائيلي “يوآف غالنت” أن الظروف نضجت لإتمام صفقة التبادل وأضاف لطمأنة مجلس الحرب، ( أن لدى الجيش وأذرع الأمن الأخرى القدرة وحرية العمل الكاملة للعودة للعمل العسكري خلال وِبعد الصفقة وما يتطلب ذلك ومتى لزم الأمر، مؤكدا أن الضغط العسكري له تأثيره على الطرف الآخر، وسنزيد الضغط على حماس عسكريا وعبر الوسطاء، لأننا نحن اليوم أكثر من أي وقت مضى نخوض حرب ضخمة من أجل وجودنا وليس لنا نية لخسارة هذه المواجهة مهما كانت التكلفة، وسوف نسقط حماس ونحبط أي تهديد مستقبلي من غزة على دولة إسرائيل وسنعيد جميع الرهائن إلى الوطن) .
تمت صفقة التبادل الأولى في نوفمبر/تشرين الأول 2023، حينها أفرجت حماس بموجبها عن 105 من الرهائن مقابل 240 من الأسرى الفلسطينيين ” النساء والأطفال” المهملين في سجون الاحتلال؛ يقابلها هدنة لمدة أسبوع، بالإضافة الى دخول دفعة من المساعدات الإنسانية المحتجزة على بوابة معبر رفح. غير أن قوات الاحتلال لم تلتزم باستكمال بنود اتفاق التبادل وارتأت متابعة حربها على غزة لتحقيق أهدافها بالقضاء على حماس، دون الالتفات لمطالب أهالي المحتجزين بإتمام الصفقة، فباشرت هجومها البري على رفح المكتظة سكانيا مع المهجرين من شمالي قطاع غزة، ما يقارب المليوني فلسطيني، والتي كانت مستبعدة من العمليات العسكرية، واستمرت في إكمال حرب الإبادة على مرأى ومسمع كل الهيئات الدولية دون أي إجراء لإيقاف هذه المقتلة. لكن المقاومة من طرفها أيضا صعدت من عملياتها الميدانية في كافة المحاور التي تتقدم فيها قوات الاحتلال، فقامت باستهداف وحدات الجيش الصهيوني في كل أماكن توغله، وحققت نتائج مبهرة من خلال تدمير دباباته “الميركافا” المتطورة التي تعتبر الثانية على مستوى العالم، وآليات نقل الجند وكافة آلياته العسكرية الأخرى، من المسافة صفر ، وعمل كمائن لجنوده في العديد من المحاور، مما أحدث حالة انكسار وانهزام نفسي من الرعب لدى جنود الاحتلال والفرار أمام المقاومة، ورفض العديد من القوات المشاركة بالمهام المباشرة، مما تطلب من مجلس الحرب أن يستقدم عناصر مأجورة من إفريقيا والهند والعديد من الدول الأخرى للمشاركة في الحرب على غزة.
بعد شهرين من الصفقة الأولى، بدأت من جديد مساعٍ عربية وأمريكية من أجل وقف جديد لإطلاق النار يكون طويل الأجل، مهد له الرئيس “بايدن” بمقترح من عدة نقاط، وافقت عليه المقاومة مباشرة، بهدف إنقاذ الوضع الإنساني المتدهور في جنوب القطاع، الجانب الاسرائيلي رفض المقترح نتيجة الشروط التي وضعتها المقاومة وهي:
// أن يتم إيقاف الحرب بشكل كامل، وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى غلاف غزة، مع عودة سكان شمال غزة الذين هجروا نحو رفح، بيوتهم التي هجروا منها. مع العلم أن القسم الأعظم من المباني السكنية والبنية التحتية، قد تهدم نتيجة القصف الوحشي لطيران العدو وتجريف اراضي شمال غزة اثناء الدخول البري للبحث عن الانفاق .// بعد ذلك يتم تبادل المحتجزين والأسرى .
فورا أرسل “بايدن” مبعوثه الخاص إلى تل أبيب واجتمع مع مجلس الحرب الإسرائيلي، لكن لم يلقى أية استجابة، مع مطالبته بضرورة وضع خرائط جديدة للتعامل مع غزة وحماس، لأنه لا يمكن تجاهل الواقع الراهن ومخرجات السابع من أكتوبر، كما كان قبله.. في هذه المقابلة جاء على لسان “غالنت” // إننا لا نريد استيطان كامل في القطاع بعد هذه الملحمة الخاسرة بكل المقاييس، وإنما الذي نريده لليوم التالي، تقسيم القطاع إلى غزتين، شمالية إسرائيلية لغاية وادي غزة (الذي يطلقون عليه محور نيتساريم )، وجنوبيه وهي غزة الفلسطينية بكل نازحيها وهذه هي ( المنطقة العازلة ) شرقا وجنوبا// ..
هذا الذي كان في مخططهم اثناء ترحيل سكان شمال القطاع إلى الجنوب، هو تغيير الخارطة الديموغرافية السكانية، والانتهاء من حماس وغزة المقاومة. لكن الاحتلال أخفق في معركة رفح وكذلك في مشروع التهجير إلى سيناء، وهو الآن في ورطة استراتيجية على كافة المستويات، لكن لازال الفريق العنصري متصلب في رأيه حول استمرار الحرب، التي وضعت العالم على صفيح ساخن نتيجة توتر الوضع الإقليمي مع إيران وحزب الله والحوثي في اليمن، الذي يوجه ضربات موجعة لسفن البضائع الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية في بحر العرب والأحمر والمتوسط، وكذلك يهدد عمق الكيان الصهيوني المحتل.
ما هو اليوم التالي بالنسبة للمقاومة:
هو الإصرار على التمسك بالأرض، والدفاع عنها بكل الممكنات المتاحة مع دعم الحاضنة الشعبية التي قدمت الكثير من الشهداء على هذا الطريق، لأن هذه المعركة بنتائجها المأساوية على الغزاويين، ربما تكون هي الحاسمة تاريخيا منذ 1948، وهي التي ستفرض على حكومة الاحتلال الصهيوني معادلة قبول الوجود السياسي للشعب الفلسطيني، في دولته المستقلة التي عاصمتها القدس. وهذا يؤكد أن الصمود هو الطريق الذي يوصل إلى الاعتراف بالوجود.
لكن هذا لا يلغي السعي الجاد لتوحيد الصفوف ما بين السلطة وحماس وتوسيع دائرة الحوار الفلسطيني مع كل التيارات السياسية، والدعوة إلى إعلان مرحلة التحرر الوطني التي أقرتها الثوابت الوطنية الفلسطينية عبر حق العودة والتمسك بالأرض، وتحرير المسجد الأقصى من دنس المحتلين الصهاينة وان النصر قادم لا محالة مهما طال الزمن، لأن الحق لا يموت طالما ورائه مطالب .
إن طوفان الأقصى أكد حقيقة لا خلاف حولها وهي (أن فلسطين لا تقبل القسمة على اثنين)، وأنها القضية المركزية لكل الأحرار العرب وفي العالم وللأمة. وان المقاومة وجدت لتبقى كما قال عبد الناصر، وان تحريرها من المحتل سيتم بيد أبنائها، والدعم المعنوي والمادي من الشعوب العربية والمحبة للسلام على مستوى العالم. طريق النصر والتغيير كلفته غالية، وطريق التحرير ليس محفوف بالزهور، بل بدماء الشهداء. هذا هو طريق مواجهة المحتلين عبر التاريخ).