وما هي رؤيتها، وموقفها مما يطرح لمفاوضات مباشرة بين المعارضة والنظام …
بقلم أ. محمد علي صايغ، عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية وعضو اللجنة الدستورية في هيئة التفاوض.
٢٥ آب ٢٠٢٤
في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، والصراعات الدولية الحادة والمحتدمة، وما يمكن أن تفرزه من صراعات أخرى، قد تؤدي إلى اختلال التوازنات والتموضعات الدولية، خاصة ضمن مؤشرات لبداية التحول عن سيطرة النظام القطبي الأحادي، الذي قد لا يستطيع البقاء في ظل صعود وبروز قوى ودول تتنامى قوتها بإطراد على الصعيد الاقتصادي والعسكري. ومع ما يمكن أن تفرضه هذه الصراعات الدولية بطبيعتها من تفاهمات على مصير العالم والدول الضعيفة، وما يمكن أيضاً أن ينعكس على القضية السورية من فرض حلول خارج الإرادة الوطنية للشعب السوري، وخارج إرادة النظام والمعارضة.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاماً على ثورة الحرية والكرامة، ودخول الملف السوري في أنفاق التعطيل والإهمال، واللعب على الزمن من أجل إطالة أمد الأزمة السورية، وإغراق وطننا بالصراعات العسكرية والسياسية والإثنية والطائفية، والحيلولة دون وصول الدولة السورية إلى السلم الأهلي وإنجاز التغيير الذي يطمح إليه الشعب السوري في دولة وطنية ديمقراطية تداولية.
في ظل هذا الاختناق المقيم، وهذا التدهور الذي يزداد طرداً مع الزمن على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والذي عصف بالدولة السورية، وخلخل بنيانها وحولها إلى دولة فاشلة، فإن الشعب السوري هو من يدفع ضريبة هذا الوضع المأساوي في حياته، وحرياته، ولقمة عيشه، ومصير أبنائه المنتشرين على خريطة دول العالم، والذين يعانون من عمليات نبذ وتنمر لا تتوقف من الدول المضيفة لهم. وجزء منهم يتعرض لتمييز عنصري مقيت، وضعهم بين ناري العودة إلى وطنهم مع افتقاده لمؤهلات الحياة والعيش الكريم، عدا عن الملاحقات والاعتقال الذي قد يتعرضوا له، وبين الاستمرار في بلدان المهجر يبتلعون التمييز والضغوط المتعددة والتهديد بترحيلهم في كل وقت.
وفي ظل دوران العملية السياسية بلا أفق لحل دولي أو تفاهم دولي لإنجاز الحل وفق القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 2254/2015، يطرح الكثير من أبناء الشعب السوري الذي يعاني ما يعاني من أوضاع كارثية تزداد تفاقماً، والعديد من القوى السياسية والشخصيات الوطنية، سؤالاً يجب الإجابة عليه من المعارضة والنظام معاً لتجنب المنعطفات الخطيرة التي تنتظر الشعب السوري والدولة السورية. والسؤال المطروح، آخذاً بالاعتبار كل المآلات الخطيرة للوضع السوري، ومرتكزاً على أن العملية السياسية اليوم في حالة موات فعلية تعتاش على أجهزة الإنعاش، هو: ألا ينبغي التفكير بعيداً عن الإجراءات التي تفرضها القرارات الدولية، والدخول في عملية حوار مباشر بين السلطة السورية والمعارضة؟
لكن السؤال الأهم في هذا السياق: ماذا لو افترضنا أن القوى النافذة بالملف السوري ضغطت بكل ثقلها ودعت قوى المعارضة للحوار المباشر مع النظام من أجل إنجاز عملية إصلاح في تركيبة الدولة السورية وأجهزتها خارج إجراءات القرارات الدولية؟ إصلاح هادئ وتدريجي يفضي إلى المصالحة الوطنية ويضع حداً للاستبداد وعسف العقود السابقة، فماذا سيكون رد المعارضة على هذه الدعوة؟
هذا سؤال يجب التفكير فيه والإجابة عليه من كافة قوى المعارضة والشخصيات الوطنية. فلا بد أن تفكر في مثل هذا السؤال، وأن يكون لها رؤية وموقف مسبق، وأن يكون لها خياراتها ومحدداتها لأي حوار إذا ما تم طرحه، سواء بضغط من أي دولة نافذة في الملف السوري، أو بدفع من بعض الدول الغربية التي بدأت تعمل على التقارب مع النظام. ويمكن أن يكون الاتحاد الروسي هو الأقرب إلى مثل هذه الدعوة للحوار والضغط باتجاهه، أو بتبني بعض الدول العربية لهذا التوجه تحت عنوان “تجاوز تدخلات الدول وشروطها وإملاءاتها”. إضافة إلى افتراض (مجرد افتراض) أن النظام السوري ذاته طرح مثل هذا الحوار والتفاوض.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة أو التوقف عند إحدى القوى العظمى التي أيضاً لها أهمية في الدفع للحوار والتفاوض المباشر، ألا وهي الصين. فالصراع الدولي على المصالح قد لا يتيح للدول النافذة الدخول في تلك الخطوة، وقد تقوم بإفشال أي خطوة من قبل الدول المنافسة الأخرى، بينما الصين يمكن دخولها كطرف محايد لم يتدخل مباشرة في النزاع على سوريا. وقد كان لها تدخلها اللافت في التقارب السعودي-الإيراني، وأيضاً في جمع المنظمات الفلسطينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية سوريا في رؤية الصين الاستراتيجية بما يخص “طريق الحرير” الذي تحاول أمريكا منافسته بالطريق الهندي وصولاً إلى حيفا في إسرائيل. فما هي شروط ومحددات قوى المعارضة للقبول أو الرفض في حال تدخل إحدى الدول الإقليمية والدولية في فرض الحوار والتفاوض على أطراف النزاع السوري؟
أرى – وهذا رأي شخصي – أن القبول بمثل هذا الحوار يجب أن يستند إلى المحددات التالية:
١. الخطوة الأولى التي لا بد منها للحوار المباشر وبناء الثقة تتمثل في الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين، وبيان مصير المغيبين والمفقودين دون استثناء من مختلف العقائد والآراء السياسية. ويندرج في هذا البند أيضاً، من أجل بناء الثقة، إصدار عفو عام رئاسي عن كل الملاحقين والمبعدين من المهجرين خارج البلاد من أجل عودة كريمة لأبنائنا وأهلنا في دول المهجر، وتقديم كل من ارتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية من طرفي المعارضة والنظام إلى محاكم علنية وعادلة تضمن لهم حق الدفاع المشروع.
٢. الاتفاق والتوافق على إصلاح دستوري يقوم على مبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة أمام القانون، وترسيخ المواطنة المتساوية لجميع السوريين. ولا يمنع هذا الإصلاح من المباشرة في تعديل دستور 2012، وخاصة باب توزيع السلطات، بما يؤدي إلى إعادة توزيع وتغيير في صلاحيات السلطات الرئاسية ومجلس الوزراء والبرلمان والمحكمة الدستورية العليا، وبما يقود إلى “نظام مختلط” أو شبه برلماني حقيقي يحقق فعلياً الفصل بين السلطات بشكل مرن، وبما لا يتجاوز الصلاحيات الدستورية. على أنه من الأفضل اعتماد دستور مؤقت في المرحلة الانتقالية المحددة زمنياً للعمل به، يجري في نهايتها أو خلالها تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة لإعداد الدستور الدائم وطرحه للاستفتاء العام من الشعب السوري.
٣. إعادة النظر وتعديل قانون الانتخابات بما ينسجم ومواد الدستور السوري الجديد، وتعديل النظام الانتخابي من نظام القوائم المعمول به، إلى النظام النسبي.
٤. تشكيل حكومة انتقالية تقود الدولة في المرحلة الانتقالية بمشاركة بين النظام والمعارضة، وتحديد سقف زمني لإنهاء الحكومة الانتقالية، والانتقال إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتشكيل حكومة جديدة وفق الدستور وقانون الانتخابات الجديد.
٥. إطلاق الحياة الديمقراطية، وإعادة النظر بقانون الأحزاب، بما يفضي إلى إطلاق حرية تأسيس الأحزاب والعمل الحزبي، وإعادة النظر بحرية الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بما يضمن إعلاماً حراً ضمن قواعد الالتزام الوطني والوحدة الوطنية. وهذا يقتضي أيضاً إعادة النظر في قانون النقابات العلمية والمهنية وقوانين العمل المدني والأهلي، بما يلغي سيطرة الحزب الواحد أو الحزب القائد.
٦. إعادة تشكيل وهيكلة الأجهزة الأمنية، بما يلغي سيطرة الأجهزة الأمنية وتغولها، وإعادة النظر في تكوينها، وقصر صلاحياتها على الأمن الخارجي وما يتعلق به، وحصر مقتضيات الأمن الداخلي بوزارة الداخلية وفق القانون.
هذه المحددات يمكن أن تكون مطالباً وأهدافاً لإنهاء الأزمة السورية المستعصية. وعلى القوى الوطنية السياسية وكافة المهتمين بالتغيير الوطني الديمقراطي أن يبادروا – كما أرى – إلى المناداة بها والتبشير فيها، وترويجها في الشارع السوري، من أجل أن يتبناها عموم الشعب السوري باعتبارها مفتاح الانتقال السياسي باتجاه تغيير النهج القائم في البلاد إلى نظام وطني ديمقراطي، النظام الذي يضمن للشعب السوري حريته وكرامته، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أبنائه.
قد يكون ما طرحته وما يمكن طرحه من محددات لقبول المفاوضة المباشرة مع النظام خارج المألوف، ولكن أليس كل ما يجري حولنا، وما يخطط لنا ولغيرنا، هو بالحقيقة والفعل خارج المألوف، وخارج سياق المصلحة الوطنية السورية، وخارج مصلحة الشعب السوري ووحدة شعبه وأرضه؟
إن المخاطر التي تنتظر الدولة السورية، ووجود خمسة احتلالات على الأرض السورية، إضافة إلى المليشيات المتعددة الجنسيات، والانهيارات المتتابعة للدولة السورية، يفرض على جميع الوطنيين والأحزاب والشخصيات الوطنية السورية، وحتى السلطة السورية، التفكير بجميع الخيارات، وأن تكون لهم رؤية واضحة لجميع الحلول التي تطرح أو يمكن أن تطرح لإنقاذ الوطن السوري. واليوم، لا زالت القاعدة السارية رغم كل مقولات الزعم بانتصار النظام، أو تفاؤلات جزء كبير من المعارضة بإحداث التغيير الجذري الفوري، بأنه لا زال يحكم هذه المرحلة قاعدة “توازن الضعف”. فلا النظام قوي، ولا المعارضة قوية، وخلال مراحل الأزمة السورية على مدى أكثر من ثلاثة عشر عاماً، فإن القوى الخارجية النافذة والمتحكمة بالملف السوري عملت على استمرار قاعدة “إضعاف النظام دون انتصاره، وإضعاف المعارضة دون هزيمتها”.
وعلى هذا الأساس، يجب التفكير “خارج الصندوق”، أي خارج ما ساد ويسود من حلول نمطية قد لا تؤدي إلى حل وتغلق الأبواب باتجاه أي حل. مع الأخذ بالاعتبار أن القرارات الدولية جميعها والخاصة بالملف السوري ليس فيها إجراءات تنفيذية ملزمة، وهي في مضمونها وصياغتها تحتمل تفسيرات متعددة، وصياغتها من الدول الخارجية النافذة قد يكون من أجل عدم الوصول لأي حل إلا بما يضمن مصالحها ونفوذها ولو على حساب مصلحة الشعب السوري وعلى حساب وحدة الدولة السورية أرضاً وشعباً.