عبدالله عبدون – الشرق نيوز
نوفمبر 29, 2024
لطالما كانت الحرب السورية مسرحاً تتقاطع فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية، حيث يختلط فيها الميداني بالسياسي، والمعلن بالخفي. ومعارك ريف حلب الغربي ليست استثناءً عن هذه القاعدة. ما نشهده اليوم من تقدم سريع للفصائل الثورية وانهيار غير مسبوق لمليشيا النظام ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو فصل جديد في صراع المصالح الكبرى، حيث تتحكم المكائد السياسية والتوازنات الدولية في سير المعركة.
النظام: انهيار أم مكيدة؟
على مدار سنوات، اعتمد نظام الأسد على القمع الممنهج والدعم المطلق من روسيا وإيران، ليقدّم نفسه ككيان غير قابل للهزيمة. لكن الأداء الأخير للنظام في ريف حلب يعكس صورة مختلفة تماماً. التراجع السريع على جبهات استراتيجية مثل كفرناها وباشمرا وحلب المدينة، يشير إلى ضعف عسكري واضح. الجيش الذي طالما تغنّى بقوته الميدانية بات مكشوفاً أمام هجمات الفصائل، التي اعتمدت على تكتيكات المفاجأة والمباغتة.
ورغم ذلك، فإن هذا الانهيار لا يمكن تفسيره فقط كنتاج ضعف عسكري. بل قد يكون النظام جزءاً من لعبة أكبر. تاريخ النظام مليء باستخدام المكائد السياسية للتلاعب بأعدائه وحلفائه على حد سواء. التراجع الحالي قد يكون خطة مدروسة لاستدراج الفصائل إلى مناطق مكشوفة تمهيداً لضربات روسية واسعة، أو قد يكون رسالة موجهة من موسكو للضغط على أنقرة أو واشنطن لتحقيق تنازلات في ملفات أخرى.
روسيا: الحليف الذي يُمسك بالخيوط
روسيا ليست مجرد داعم للنظام، بل هي اللاعب الأساسي الذي يحدد معادلة الصراع في سوريا. ومع ذلك، يبدو أن موسكو تجد نفسها في مأزق مع هذه التطورات. الدعم غير المحدود للنظام لم ينجح في فرض حل عسكري حاسم، كما أن التراجع الحالي يضعف موقفها أمام القوى الدولية.
قد يكون السماح بهذا الانهيار جزءاً من استراتيجية روسية أوسع، تهدف إلى إعادة خلط الأوراق على الأرض. فلاديمير بوتين ليس معنياً بانتصار النظام بقدر ما هو معني بتثبيت نفوذ بلاده وإجبار تركيا والفصائل على الدخول في تسويات تخدم مصالح موسكو. هذه السياسة تجعل روسيا تبدو وكأنها تُمسك بكل الخيوط، لكنها في الحقيقة تُراهن على الوقت لتحقيق مكاسب على حساب الجميع.
تركيا: خط دفاع أم ساحة تجاذبات؟
بالنسبة لتركيا، معارك ريف حلب الغربي ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي معركة وجود. هذه المناطق تشكل خط الدفاع الأول عن أمنها القومي. أنقرة تعلم أن تقدم النظام وميليشياته إلى تلك المناطق يعني تهديداً مباشراً لحدودها وتدفقاً جديداً للاجئين.
لكن تركيا تلعب لعبة خطرة. فهي تدعم الفصائل الثورية بطرق غير مباشرة، سواء عبر تقديم الدعم الاستخباراتي أو السماح بتمرير الإمدادات، لكنها لا ترغب في استفزاز روسيا إلى حد التصعيد. أنقرة تجد نفسها مضطرة للموازنة بين حماية نفوذها في الشمال السوري والحفاظ على علاقاتها مع موسكو، التي أصبحت شريكاً اقتصادياً وسياسياً رئيسياً.
ومع عودة الحديث عن منطقة آمنة شمال سوريا، تبدو تركيا وكأنها تحاول استغلال ضعف النظام لتحقيق مكاسب ميدانية جديدة. لكنها تدرك أن أي مواجهة مفتوحة قد تكلّفها كثيراً، سواء مع الروس أو حتى مع الولايات المتحدة، التي لا تزال تُلقي بثقلها في دعم بعض الفصائل الكردية.
الإدارة الأمريكية: عودة ترامب وصراع الصفقات
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد تضيف بعداً جديداً للصراع السوري. ترامب، المعروف بنهجه البراغماتي، ينظر إلى سوريا من زاوية المكاسب الاقتصادية والسياسية. اهتمامه بالفصائل الثورية أو حتى بتركيا لن يكون إلا ضمن إطار يخدم مصالح واشنطن في مواجهة موسكو وبكين وطهران.
بالنسبة للفصائل، هذا قد يشكل فرصة إذا استطاعت استغلال التناقضات الدولية لصالحها. لكن هذه الفرصة تأتي مع مخاطر كبيرة. فدعم ترامب، في حال حدوثه، سيكون تكتيكياً ومؤقتاً، وقد يُستخدم كورقة ضغط لفرض تسويات لا تخدم أهداف الثورة على المدى الطويل.
الفصائل الثورية: اختبار الإرادة والاستراتيجية
بالنسبة للفصائل الثورية، هذه المعركة ليست مجرد جولة ميدانية، بل هي معركة وجود. الانتصارات الأخيرة تثبت قدرتها على الصمود أمام النظام وحلفائه، لكنها في الوقت ذاته تضعها أمام تحديات كبرى.
نجاح الفصائل في تحقيق تقدم سريع يعكس قدرة على التكيف مع المتغيرات الميدانية. لكنها بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك. التحدي الأكبر يكمن في توحيد صفوفها وتجاوز الخلافات الداخلية التي طالما أضعفتها. كما أن عليها وضع استراتيجية طويلة الأمد تراعي تعقيدات الصراع الدولي والإقليمي، وإلا فإن هذه المكاسب الميدانية قد تتحول إلى عبء سياسي.
جغرافيا المصالح: من يتحكم بالمعركة؟
في النهاية، معركة “رد العدوان” ليست مجرد مواجهة بين نظام ومعارضة، بل هي لوحة معقدة ترسمها مصالح الدول الكبرى. النظام يريد استنزاف خصومه وإعادة فرض سيطرته تدريجياً. روسيا تسعى لتثبيت نفوذها وتوسيع مكاسبها السياسية. تركيا تحاول حماية أمنها القومي والحفاظ على مناطق نفوذها. وواشنطن تراقب وتنتظر الفرصة المناسبة للتدخل بما يخدم أجندتها.
وسط كل هذا، يبقى الشعب السوري، كما كان دائماً، الضحية الأكبر. الثورة السورية بدأت كحركة شعبية تهدف إلى الحرية والكرامة، لكنها أصبحت اليوم رهينة لصراعات لا تعترف بهذه القيم.
هل نحن أمام منعطف جديد؟
المعركة الدائرة في ريف حلب الغربي قد تكون بداية لمرحلة جديدة في الصراع السوري. لكن السؤال الأهم: هل تستطيع الفصائل الثورية استغلال هذا التقدم لتحقيق مكاسب حقيقية تُغير معادلة الصراع؟ أم أن هذه الانتصارات ستتحول إلى مجرد نقاط تفاوض تُفقد على طاولة الصفقات الدولية؟
ما يجري اليوم هو انعكاس لصراع المصالح بين القوى الكبرى، حيث تختلط فيه المكاسب الميدانية بالمكائد السياسية. وحدها الأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت معركة “رد العدوان” ستكتب فصلاً جديداً في تاريخ الثورة، أم ستكون مجرد صفحة أخرى في كتاب الصراع السوري الطويل.
مصلحة الثورة فوق كل اعتبار
إن مصالحنا قد تقاطعت مع مصالح غيرنا شئنا أم أبينا، وهذه طبيعة أي صراع تتداخل فيه القوى الإقليمية والدولية. ولكن إن لم نسعَ بوعيٍ وحكمة لتحقيق مصالحنا بأيدينا، فإن من تتقاطع مصالحه مع مصالحنا سيحقق مصالحه غصباً عنا ورغم أنوفنا. هذه الحقيقة تُحتم على الفصائل والقوى الثورية أن تضع استراتيجيات واعية، لا تكتفي بالمكاسب الميدانية، بل ترتكز على رؤية سياسية تُعيد زمام المبادرة إلى السوريين أنفسهم، وتجعلهم لاعبين رئيسيين في معادلة لا يمكن لأحد تجاوزها.