بقلم : محمد علي صايغ
الصراع الدولي في هذا القرن يزداد حدةً وتفاقماً ، والنظام الدولي تتفاعل داخله أزمة بنيوية ، تتحكم فيه صراع المصالح بين الدول والتكتلات الجديدة الناشئة مثل البريكس والتحالفات البينية بين الدول في محاولة كسر سيطرة القطب الأحادي الأمريكي المتغول والمتحكم بالنظام العالمي . لكن حالة الصراع المتصاعد يمكن ان تفرض انعطافا متسارعاً يشير إلى بداية العد التنازلي بما ينذر باهتزاز مواقع السيطرة والتحكم العالمي إلى عالم متعدد الأقطاب .
صعود اليمين في كثير من دول أوربا على حساب اليسار أو اليمين المعتدل شكل قفزة جديدة في الصراع الدولي ، يتم استثماره في تشكيل تحالفات جديدة على خلفية الاهتزازات العالمية لبلورة الصراعات السياسية بما يخدم محاولات إنعاش أو تأجيل انهيار القطب الواحد إلى نظام دولي متعدد الأقطاب .
وإذا كانت الحروب في أوربا ( حرب الثلاثين عاما ، وحرب المئة عام ) في القرن السادس عشر وما بعده ، كانت حروب دينية بين الكاثوليك والبروتستانت ، قادت في نهايتها إلى تقسيم أوربا وولادتها القيصرية إلى ما يعرف بالدول الأوروبية الحديثة بعد القرن الثامن عشر ، فإن الصراعات السياسية الدولية اليوم تجنح في عمقها إلى استخدام الديني في الاصطفافات السياسية – كإحدى أشكال التحالفات – ، لتتمحور تلك الاصطفافات غالبا بين دول البروتستانت مقابل دول الكاثوليك المتحالفة معنوياً وضمنياً مع الارثوذوكس خاصة بعد محاولة دفع البابا فرنسيس للمصالحة التاريخية بين الكنيستين ( الكاثوليكية والارثوذوكسية ) وإعلانه بضرورة الحوار بين الكنيستين وتصحيح ” خطيئة الانقسام ” بينهما .
وفي خضم هذا الصراع تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية في تثبيت أو مد سيطرتها إلى المواقع الاستراتيجية وخاصة في البحر الأحمر ( باب المندب ) والمحيط الهادئ ( استراليا )والبحر المتوسط ( اسرائيل ، تركيا …) … في مواجهة اندفاع المنافسة مع الصين ومن ورائها روسيا الاتحادية .
وفي خطوة اعتبرت بأنها إعادة ترتيب هيكل القوة في المحيط الهادئ تم إرساء قواعد تحالف ” أوكوس AUKUS ” بين أمريكا وإنجلترا واستراليا ( مع ملاحظة أن جميع دول هذا التحالف ” دولاً شاطئية ” ، وأن غالبية سكانها تتبع الكنيسة البروتستانتية أو البروتستانتية الانجليكانية ) في شراكة دفاعية وأمنية جديدة لهذا التحالف في مجالات التكنولوجيا والصواريخ فوق صوتية والغواصات النووية ، مما أدى بالضرورة إلى استبعاد فرنسا ( تتبع الكنيسة الكاثوليكية ) من صفقة الغواصات الفرنسية الموقعة بينها وبين استراليا . فما يقلق أمريكا دائما ، هو أي تحالف أو نزوع فرنسي ألماني لإعادة القوة الأوربية المستقلة والانفكاك عن التبعية والهيمنة التي تفرضها أمريكا على أوروبا ، لذلك فإن عزل فرنسا أو احتوائها بأقل ما يمكن يصب في هذا الاتجاه ، كما أن الدور الأمريكي أيضاً في انسحاب إنجلترا ( البروتستانتية الانجليكانية )من الاتحاد الأوروبي وإن كان في أحد أسبابه يتعلق بالاقتصاد الانجليزي لكنه أيضا كما يرى محللون يرتبط بالاصطفاف البروتستانتي .
وفي هذا الاتجاه فإن عوامل الشد والجذب في أوربا لا يقف عن هذا الحد كنتيجة من نتائج التدخل والضغط الأمريكي وإنما يمتد إلى الصراع ضمن ” النادي الأطلسي ” الذي يفرض لقبول الدخول إليه شرطان : أن تكون الدولة شاطئية وبروتستانتية معا ، وعبر هذا النادي تثير أمريكا الإشكاليات في محاولة منع اعتماد ، أو استبعاد دخول فرنسا ( شاطئية أطلسية لكنها كاثوليكية ) ، وشد ألمانيا للنادي الأطلسي على الرغم من أنها ليست شاطئية ولكنها بروتستانتية .
ومن الملاحظ أيضا أن الحرب الأوكرانية وإن كانت حرباً في إطار الصراع ( الجيوسياسي ) لنزع أوكرانيا من سيطرة روسيا لمكانتها السياسية والجغرافية والإستراتيجية في الصراع الأمريكي / الغربي في مواجهة المحور الروسي الصيني ، إلا أنه في داخل تلك الحرب وعلى خلفيتها عملت أمريكا ومعها ألمانيا على شق الكنيسة الأرثوذكسية ، ومحاولة إيجاد كنيسة ارثوذوكسية موالية لأمريكا والغرب مع دعم نشاط وحضور الكنائس البروتستانتية في أوكرانيا ، خاصة وأن يهود أوكرانيا وعلى رأسهم الرئيس زلينسكي يدفعون باتجاه تصعيد دور الكنيسة البروتستانتية على اعتبار أن الأصولية البروتستانتية تؤمن وفق رواياتها الاسطورية بأن قيام دولة إسرائيل مسألة دينية تجسيداً لنبوءات الكتاب المقدس ، ومقدمةً لمجيئ المسيح المخلص إلى الأرض ، وهناك من يؤكد أن أصل الصهيونية بروتستانتية .
ولا شك بأن الصراع على الشرق الأوسط والمنطقة العربية وإن كان صراع قديم قدم التاريخ لمكانته الاستراتيجية الجيوسياسية ، إضافة إلى أهميته اليوم باعتباره مصدرا حيويا ومهما من مصادر الطاقة ( البترول ، الغاز … ) . فإن هذا الصراع اليوم يتبدى بين أمريكا والغرب ، مقابل روسيا ومعها الصين ( مشروع طريق الحرير ) في إطار معادل موضوعي للصراع يتركز على التدافع بينهما باتجاه مواقع الهيمنة والنفوذ والمصالح . وفي محاولة كل من طرفي هذا الصراع لتثبيت نفوذه وحضوره ، والتحرك بقوة على استيعاب واحتضان الإسلام الشعبي العريض ونظامه الرسمي ، والتنافس عليه من أجل ضمان الإمساك المستقبلي بالمفاتيح المهمة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية في الصراع الدولي القادم . ومع تضاد الاستراتيجية الأمريكية / الغربية ، مع الروسية / الصينية ، فإن أمريكا تريد الإسلام الشعبي والرسمي خاضعاً وتابعاً بالمطلق للإرادة الأمريكية ولذلك تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على خلق صراعات وحروب فئوية ومذهبية وجعل أطرافها لا يستطيعون الانفكاك عن الدعم الأمريكي ، بينما روسيا تريد إسلاماً معتدلا غير متطرف ، يقبل الحوار ويعترف بوجود المذاهب والأديان الأخرى بما يساعد ذلك على تمكينها في المنطقة ( لا بد من الإشارة إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا لا مشكلة لها مع الإسلام السني / الشيعي ، وتاريخياً كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة المسيحية الأرثوذوكسية ) ، كما يساعدها الإسلام المعتدل في ضبط الجمهوريات الإسلامية المحيطة بروسيا والحيلولة دون تحولها إلى التطرف والعنف في محاكاة للإسلام السياسي في الشرق الأوسط ..
وفي سياق الحرب الصهيونية على غزة ،فإن هذه الحرب قد كشفت عمق التحالف الأمريكي / الإسرائيلي ، والتدخل الأمريكي ومعظم الدول الغربية بكل وسائل الدعم المادية والعسكرية والدبلوماسية إلى جانب الكيان الصهيوني .. لكن يبقى التدخل الغربي متفاوتاً بين دولة وأخرى ، إذ لا يمكن اعتبار التدخل الأمريكي والبريطاني والاسترالي .. معادلاً للفرنسي والاسباني والايطالي .. فالإدارة الفرنسية مثلا مضطرة إلى وضع مسافة للدعم الإسرائيلي وعدم الوقوف مع المجاذر الصهيونية لوجود تاريخ فرنسي عريق بما يخص دعم حقوق الإنسان ورفض حروب الإبادة ، ولما قد يدفع ذلك أيضاً الى الاصطدام مع ضغط الشارع الفرنسي الكاثوليكي الذي يرى المسيحية الفلسطينية وإن كانت أغلبها ارثوذوكسية فإنها أقرب إلى الكنيسة الكاثوليكية من الكنيسة البروتستانتية باعتبار الكنيسة البروتستانتية منشقة عن الكنيستين الكاثوليكية والارثوذوكسية ..
يقال الحرب في غزة ليس كما قبلها ، في انعكاساتها على الصراع الدولي وعلى المنطقة العربية بأسرها ، وهي ستحدد مصير المنطقة العربية ( باعتبار القدس محور التجاذبات الخفية الإقليمية والدينية ) إما بفرض مزيد من التبعية والإذلال ، وتحويل المنطقة إلى بؤر متوالية من الصراعات والحروب وإعادة إنتاج مخططات ما بات يعرف بالشرق الأوسط الجديد يتجاوز اتفاقية سايكس بيكو وتقسيماتها ، إلى تقسيمات (دول ودولات )جديدة متصارعة ، أو استثمار تلك الدول نتائج الحرب في غزة والاستفادة من معطياتها التي رسخت أن معيار الإيمان والقوة والإعداد لهما ، بوابة لأي تغيير وانتصار ، وإن الانعتاق من السيطرة الأمريكية الغربية خطوة في سبيل التحضير لأن يكون لدولنا وأمتنا حضور وفعل في التكتلات الدولية القادمة التي ستحدد مصير السياسات ، ومصير الملفات السياسية العالقة ، ومصير الدول ، وهي الخطوة اللازمة أيضا على طريق بناء المشروع العربي النهضوي الذي يضمن مستقبل أمتنا ..
المؤشرات كلها لا تصب في هذا الاتجاه .. والأنظمة التي أدارت ظهرها لفلسطين في معركة غزة ، غير قادرة ولا مؤهلة تبعاً لبنيتها وهيكلية نظمها لأي تغيير أو نهوض . ويبقى الأمل كل الأمل في الشباب العربي الجديد ، ووعيه في إنجاز التغيير السياسي الديمقراطي ، من أجل وطن حر ومستقل لا يلفظ مواطنيه في أصقاع الأرض مهاجرين ، ومن أجل وطن يحقق الدولة المدنية الديمقراطية ويرسخ المواطنة المتساوية بين الجميع ، ويكافح من أجل أن يستكمل بناء الوحدة الاقتصادية والدفاعية بين الدول العربية تمهيداً للوصول إلى الوحدة السياسية ليكون لأمتنا العربية دور وفعل في صناعة التاريخ وصناعة المستقبل ، في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء .