ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث، يكرر الأيرلنديون دعمهم ومساندتهم لفلسطين.
2024-03-21
علم فلسطين على حائط ديري المحررة عام 2018
إعداد وتحرير: صباح جلّول
السفير العربي
بمناسبة يوم القديس باتريك، اختار عدد من الأيرلنديين توجيه رسالة إلى جو بايدن، يتبرأون فيها من “الأيرلندي الأشهر في الولايات المتحدة”، بحزن وحزم، في فيديو قوي ومؤثر، تلبس فيه الناشطة ديدري ليندر، التي تخاطب بايدن مباشرة، كوفية فلسطينية وتقف بين قبور أسلافها ضحايا الاضطهاد والجوع والتنكيل.
“نحن هنا في المقبرة الأثرية في كيلويرا في مقاطعة لاوث لنرسل لكَ رسالة، أيها الرئيس بايدن، ولنكرّم أسلافنا وأبطالنا المدفونين في هذه الأرض. عاش الإيرلنديون في الفقر وتحت الاحتلال والقمع لقرون. خلال المجاعة الكبرى في عقد الـ1840، ترك المحتلّون البريطانيون الإيرلنديين يموتون من الجوع والمرض. وأُجبِر مليون آخرون على الهجرة، مثل أجدادك الكبار (…) وفي يوم القديس باتريك، حين يحتفل ملايين الأميركيين بأصولهم الأيرلندية، نريدك أن تسمع هذه الرسالة من أيرلندا.
نشأنا على الإرث المروع لأجدادنا الذين أُجبروا على ترك وطنهم وماتوا في الطريق جوعاً، ووُجدت جثثهم والحشائش في أفواههم. بسبب تاريخنا، لن يسامح الأيرلنديون أبداً من يسمحون بالقمع والتطهير العرقي والإبادة للشعوب الأخرى، مثلما فعلتم في غزّة بتسليح النظام الإسرائيلي وتمويله وتوفير الغطاء السياسي له.
لقد خُنتَ أسلافك الأيرلنديين وخنتَ الإنسانية. نحن نقف مع شعب فلسطين. أنهوا الإبادة الآن! وافرضوا وقف إطلاق نار دائماً ومستمراً.”
منذ الأيام الأولى على العدوان الإباديّ الحالي على غزة، وعند مدخل مدينة ديري الأيرلندية الفخورة بمقاومتها للاحتلال الإنكليزي، اضيفت إلى جملة “أنتم تدخلون الان الى ديري الحرة” عبارة أخرى: “أيرلندا تدعم المقاومة الفلسطينية”.
… وقال رئيس وزراء أيرلندا ليو فارادكار أمام الرئيس الأميركي جو بايدن وضيوفه، وذلك خلال عشاء “أصدقاء أيرلندا” الذي أقامه البيت الأبيض بمناسبة يوم القديس باتريك في 17 آذار/ مارس 2024:
“الرئيس (بايدن): كما تعلم، فالشعب الأيرلندي يشعر باضطراب شديد تجاه الكارثة التي تحدث أمام أعيننا في غزّة. عندما أجول في بلدان العالم، غالباً ما يسألني قادة الدول لماذا نشعر نحن – الأيرلنديون- بتعاطف مع الشعب الفلسطيني. الإجابة بسيطة: إننا نرى تاريخنا في عيونهم”، قابل بايدن، ذو الأصول الأيرلندية، جدية فارادكار – وربما محاولاته لاستفزاز عاطفة بايدن ،بتذكيره بما يعنيه نضال الفلسطينيين للأيرلنديين- باجترار الكلام نفسه حول المساعدات الإنسانية والسعي للوصول لوقف إطلاق نار. وبخفّة تجلت في بضعة نكات ألقاها حول أنه قد يكون “الأيرلندي الوحيد الذي لا يشرب الكحول” وأنه “ليس أيرلنديا حقاً” بما أنه لا يملك “أقارب في السجن” (وتلك من الأفكار النمطية حول الأيرلنديين يكررها رئيس جمهورية الولايات المتحدة)!
ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث، يكرر الأيرلنديون دعمهم ومساندتهم لفلسطين. ولا شكّ أنّ مأساتهم هم، التجويع الممنهج الذي طال شعبهم، والاحتلال الإنكليزي الذي نظر إليهم باحتقار رهيب جعل من قتلهم شربة ماء، وذكرى ذلك التاريخ الدموي الذي حرصوا على حفظه وتعليمه لأولادهم، كانت كلها عناصر كوّنت موقفهم الرافض للاحتلال الإسرائيلي وهمجيته.
في القرن الثاني عشر، كتب أحد المؤرخين الإنكليز، جيرالد ويلز، الذي رافق الملك هنري الثالث في رحلة إلى أيرلندا، واصفاً الإيرلنديين: “إنه شعب بربري حقاً، يعتمدون على الحيوانات في معيشتهم وهم يعيشون مثل الحيوانات”. وفي القرن الرابع عشر، كتب مؤرخ إنكليزي آخر أنه كان من السهل على رجل إنجليزي أن يقتل أيرلنديا أو على امرأة إنجليزية أن تقتل امرأة أيرلندية، “كما لو أنك تقتل كلباً”. إن إعادة الاطّلاع على هذه الأفكار العنصرية العميقة النازعة للإنسانية في أيامنا هذه تُظهر مدى تشابه الظروف والعقليات المريضة المؤدية إلى قتل وتجويع شعب كامل بسهولة كاملة. يعرف ضحايا المجزرة بعضهم بعضاً، وهم أول من يتضامن ويقف سداً منيعاً ضد تطبيع هذه الممارسات.
أبعد من تضامن من شهد الويلات ومن يرى نفسه “في عيون الفلسطينيين”، تضامن آخر يتململ من حال عالمٍ مريضٍ لدرجة لم يعد من الممكن احتمالها: شرائح جديدة من مجتمعات غربية، شباب وطلاب بالأخص، لم يكونوا بالأمس يتخيلون أن ما يحدث أمام عيونهم وعلى شاشات هواتفهم مقبول في عالم اليوم. هؤلاء الذين انهار تصورهم للعالم الذي نعيش فيه، الذين تأكدوا أنّ شرّ هؤلاء متفلت تماماً من أية ضوابط، ويخافون على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، هل يتبرأون بدورهم أخيراً من حكوماتهم المنغمسة حتى أكواعها في حمّام الدم والرعب؟