د. مخلص الصيادي
15 / 5 / 2023
كل المؤشرات تذهب إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيقود تركيا لخمس سنوات قادمة، ليكمل بيده رسم تركيا المستقبل التي تحدث عنها في مناسبات عديدة، وجعلها هدفا لسياساته، وطموحه، كما تذهب هذه المؤشرات إلى أنه ستتوفر لقيادته للمرحلة القادمة كل عوامل السيطرة والنجاح. وذلك بعد أن أحكم حزبه وتحالفه قبضته على مجلس البرلمان التركي بحصوله على أغلبية مريحة تجعل من هذا المجلس عونا للرئيس على تطبيق كامل رؤيته، وتوجهاته، وبرامجه.
كثير من المراقبين كانوا يتطلعون إلى حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، لكن ذلك لم يتحقق، واتجهت البلاد إلى جولة ثانية في 28 / 5 / 2023، كما كان الكثير من هؤلاء يتوقعون أن يحقق تحالف المعارضة نتائج أفضل في انتخابات البرلمان، لكن صناديق الاقتراع ذهبت في اتجاه آخر، فحُسمت برلمانيا لصالح التحالف الحاكم، وحُسمت رئاسيا لصالح جولة إعادة.
وبلا أدنى شك فإنه لو حسمت انتخابات الرئاسة في جولتها الأولى لكان الأمر أفضل، وأكثر راحة، وأقل تكلفة، وأدعى إلى إخراج البلاد سريعا من حالة الاستقطاب الشديدة التي عاشتها على وقع هذه الانتخابات، لكن الراجح أن تفاعلات نتائج الانتخابات على المستويين باتت تصب في صالح الرئيس التركي وائتلافه الحاكم، ويؤكد دقة هذا الترجيح عوامل عدة:
1 ـ أن الاستقطاب كان على أشده في هذه الانتخابات، وبلغ مستوى غير مسبوق في تاريخ الانتخابات التركية، بل هو غير مسبوق أيضا في الانتخابات التنافسية على المستوى العالمي، فقد أدلى أكثر من 88% من الناخبين بأصواتهم، وكانت قاعدة التحالف السياسي للمعارضة واسعة، واحتاجت لوقت طويل لترتيب نفسها، في حين كان التحالف الحاكم أكثر استقرارا، لأنه كان تحالفا مستمرا، لم يتولد بدافع آني للانتخابات، وإنما كان تحالفا تم اختبار قوته في حكم مستمر لسنوات.
وقد عكس هذا الاستقطاب الشديد نفسه، وتجلى في البرامج السياسية والاجتماعية للجانبين، حتى بات واضحا أن تحالف المعارضة يَعِدُ بقلب طاولة أردوغان بالكامل، ونقض مسيرته على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية، الاقتصادية والاجتماعية والدستورية. وأسهمت استطلاعات الرأي ـ التي ظهر أنها لم تكن محايدة ـ، في زيادة حدة هذا الاستقطاب إذ أظهرت على غير الحقيقة تقدما مهما لكليجدار على أردوغان، لكن النتائج ما لبثت أن كشفت زيف هذه الاستطلاعات.
ورغم هذا الاستقطاب الشديد، فإن الانتخابات بمختلف أجوائها جاءت شهادة طيبة لصالح الدولة التركية، والمجتمع التركي، الذي اجتازها بأمان وسلاسة وحرية مشهود لها.
2 ـ سيذهب أنصار التحالف الحاكم إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسية وهم أكثر تماسكا وقوة، فقد أثبت هذا التحالف في الانتخابات النيابية هذه الطبيعة فيه، وحقق مكاسب كبيرة، إذ حصد 322 مقعدا في البرلمان من أصل 600 مقعدا، في حين سجل تحالف المعارضة ـ على عكس ما يتطلع ـ تراجعات كبيرة في هذه الانتخابات، فقد توقفت مقاعد تحالف كليجدار عند 212 مقعدا، وتحالف “العمل والحرية” ومن ضمنه حزب الشعوب الديموقراطية” على 66 مقعدا
3 ـ في مقابل ذلك فإن من المنتظر أن تؤدي هذه النتائج من الآن وحتى موعد جولة الإعادة، إلى تخلخل القاعدة الانتخابية لثلاثة أحزاب أعضاء في تحالف المعارضة، أو ما يسمى ب”الطاولة السداسية”، وهذه الأحزاب الثلاثة بطبيعتها وبالتوجه الشعبي لأنصارها تعتبر الأقرب إلى حزب العدالة والتنمية لأنها منبثقة أو منشقة عنه، أو متصلة معه في الأصول الفكرية، والأحزاب التي نشير إليها هي: “حزب المستقبل” بزعامة رئيس الوزراء السابق أحمد داوود اوغلو، و”حزب الديموقراطية والتقدم” بزعامة علي باباجان، و”حزب السعادة” بزعامة الدكتور نعمان كورتولموش، وتشير نتائج الانتخابات البرلمانية أن هذه الأحزاب الثلاثة مجتمعة حصلت على أكثر من ثلاثين مقعدا في البرلمان، ومن المنتظر أن تنظر القاعدة الانتخابية لهذه الأحزاب إلى ضرورة دعم الرئيس أردوغان في الجولة الثانية، وذلك بعد حصول تحالفه على الأغلبية البرلمانية المستقرة.
4 ـ وحسمت نتائج الانتخابات البرلمانية سلبا عددا من الوعود التي أطلقها مرشح المعارضة للرئاسة “كليجدار أوغلو”، وتمكن من خلال وعود هذه جمع الحلفاء، ومن أهم الوعود التي أجهضتها هذه النتائج، وعده بالعودة إلى النظام البرلماني، فإنجاز مثل هذا الوعد يحتاج ـ إذا وصل هو إلى سدة الرئاسة ـ إلى أغلبية برلمانية مريحة، والمعارضة مجتمعة باتت أقلية في البرلمان الجديد، وبالتالي فإن هذا الوعد سقط من قائمة وعود كليجدار قبل التحرك إلى جولة الإعادة.
كذلك فإن كل الوعود التي أعطيت لحزب” الشعوب الديموقراطية”، ومنها إخراج زعيم الحزب “صلاح الدين دمرطاش” من السجن، وكذلك الأمر بالنسبة للتوقعات بشأن زعيم pkk المسجون في جزيرة “أمرالي” في بحر مرمرة، والتي كانت تشير إلى تخفيف سجنه، أو تحويله إلى إقامة جبرية.
5 ـ ثم إن “حزب الشعوب الديموقراطية” الذي دخل الانتخابات تحت راية “حزب اليسار الأخضر” وفي إطار “تحالف العمل والحرية”، لم يحقق النتائج التي كان يرجوها، بل إنه سجل تراجعا مهما اذ وقف هذا التحالف عند حدود 62 مقعدا، وبالتالي حيث لم يعد ينظر إليه باعتباره “بيضة القبان” في الشارع الانتخابي، أوفي البرلمان، وهذا يلقي بظلاله على جدوى التنازلات التي قدمها كليجدار لحزب الشعوب الديموقراطية لضمان تأييده في انتخابات الرئاسة، ومن شأن هذه الظلال أن تنبه كل الطيف “القومي” في تحالف المعارضة على اختلاف أحزابهم إلى تهاوي المبررات التي قدمها كليجدار للتحالف مع حزب الشعوب الديموقراطية، وإلى سقوط مبررات التنازلات أو الوعود التي قدمت له.
6 ـ في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة حصل المرشح الثالث سنان أوغان على أكثر من 5 % من أصوات الناخبين، وهؤلاء عليهم أن يختاروا لمن يصوتون في جولة الإعادة، وإذ أعلن “أوغان” شروطا لدعمه كليجدار في جولة الإعادة تجعله في صدام مع حلفائه “الأكراد”، أو أنه لن يدعم أحد المرشحين في هذه الجولة القادمة، فإن هذا التصريح يأتي لصالح الرئيس أردوغان، لأن سنان ينتمي إلى تيار المعارضة، بالتالي فإن أصوت مؤيديه ستتوزع بين المرشحَين المتنافسَين في جولة الإعادة، والرئيس أردوغان الذي حصل على أكثر من49. 51 % من أصوات الناخبين لا يلزمه إلا القليل جدا من الأصوات ليتجاوز عقبة الخمسين بالمئة اللازمة للفوز.
7 ـ ليس من المتوقع أن يصاب معسكر الرئيس أردوغان بأي اهتزاز أو تراجع، بل على العكس من ذلك، يبدو وكأنه “كتلة واحدة متماسكة” تتحرك بإيقاع مضبوط باتجاه جولة الإعادة، فيما ينتظر تحالف المعارضة انشقاقات، وتساقطات، وتراخ في الزخم الذي حصل أوصل “كليجدار أوغلو” في الجولة الأولى إلى نسبة لم تصل إلى 45 %.
من كل ما سبق يبدو للمراقب أن جولة الإعادة تتجه لصالح الرئيس أردوغان، وبالتالي تتجه لتوفير قيادة قوية ومتماسكة وموحدة لتركيا لسنوات خمس قادمة، وبالتالي لزمن ممتد، قد يصعب تخيل أفقه.
إن هذا الترجيح الذي يبدو واضحا يعتبر بمثابة فرصة حاسمة واختبار نهائي “لمشروع النهضة التركية، وللدولة التركية ” التي أطلق الرئيس أردوغان عنانها، واعتبر العام 2023 مدخلا لها، وقدمها إلى عالم اليوم باعتبارها تجربة رائدة، وصانع رئيسي لخريطة القوى السياسية الإقليمية والدولية، وبديل يتجاوز تجربة “كمال أتاتورك” مؤسس الجمهورية التركية، ويستعيد الدور المركزي المسؤول لتركيا المتصالحة مع تاريخها وثقافتها ومحيطها بعدها الحضاري والديني.
د. مخلص الصيادي