فيما يلي مقتطفات وملخصات من مقال أطول للاقتصادي الإسرائيلي آرييه كرامبف، يشرح فيه التحول الكبير في التوجهات النيوليبرالية في دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ أوائل القرن الحادي والعشرين. نهتمّ هنا بشكل خاص بفهم ما يعنيه هذا التحول فيما يتعلق بدور دولة الاحتلال الإسرائيلي على المسرح العالمي. في نصّه، يقول كرامبف إن المحاولات لتفسير تبني إسرائيل لصنفٍ خبيث من النيوليبرالية الاقتصادية قد تجاهلت جانباً مهماً، ألا وهو حاجة إسرائيل إلى خلق واقع اقتصادي يقلِّل من الضغوط التي تواجهها من المجتمع الدولي في ظلّ استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية ونيتها بمصادرتها وإلحاقها بها.
2024-03-15
مستوطنون إسرائيليون يرهبون الأهالي في بلدة حوّارة باقتحام سوقها بالفؤوس والهراوات في تشرين الأول أكتوبر 2022 (أ ف ب)
إعداد وتلخيص “السفير العربي”
وقع الاقتصاد الإسرائيلي في منتصف الثمانينات الفائتة في أزمة ديون وتضخم كبيرة، حدث على إثرها تغيير عميق في نظامه الاقتصادي. أدى ما سُمّي بالتحول النيوليبرالي في إسرائيل إلى تخلي الحكومة عن سياسة التدخل المباشر لصالح إلغاء القيود التنظيمية واللبرلة والخصخصة. على الرغم من كونه اتجاهاً عالمياً، إلا أن طريق إسرائيل إلى هذه النيوليبرالية له سماته الفريدة. منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غدا هذا التحول النيوليبرالي متطرفاً بشكل واضح. تظهر الأبحاث أنه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، زادت معدلات الفقر وعدم المساواة في إسرائيل، وهي مرتفعة جداً مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى.
في صيف عام 2011، ضاق الإسرائيليون ذرعاً فخرجوا إلى الشوارع في موجة احتجاجات واسعة. وفي الوقت نفسه، كانت صناعة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل تشهد ازدهاراً كبيراً، إلى جانب قطاعات التصدير الأخرى، مما حوّل إسرائيل إلى دولة ذات فائض كبير في الحساب الجاري لميزان المدفوعات. تجلت “المعجزة الإسرائيلية”، كما توصف غالباً، في عدد كبير من المؤشرات الاقتصادية مثل انخفاض الدين العام، وارتفاع مستوى احتياطيات النقد الأجنبي، وارتفاع التصنيف الائتماني. فكيف يمكن تفسير هذه السمات الفريدة للنيوليبرالية الإسرائيلية؟
يجيب كرامبف أن أحد التفسيرات هو أن إسرائيل تبنت سياسة “أفضل الممارسات” للدول المتقدمة والتي تمّ تبريرها على أساس النظريات الاقتصادية السائدة التي روّج لها كبار الاقتصاديين والمؤسسات الدولية. التفسير الآخر هو أن إسرائيل تبنت إيديولوجيات النيوليبرالية والمحافظين الجدد المستورَدة من الولايات المتحدة نتيجة الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية. كما أن هناك أدلة على أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، وخاصة أوائل سنوات ال2000، قام بنيامين نتنياهو، كوزير للمالية ورئيس للوزراء، بلعب دور رائد في فتح الطريق أمام هذه السياسات النيوليبرالية، والتي غالباً ما كانت تُبررها أيديولوجيا المحافظين الجدد.
هناك تفسير شائع آخر يتمثّل بأن في ذلك مصالح عدد صغير من “أباطرة” القطاع الخاص، بالأخص أولئك الذين ربّوا علاقات وطيدة مع الحكومة. وبما أن المستفيد الأكبر من خصخصة وعولمة الاقتصاد الإسرائيلي هو القطاع الخاص، فقد دفع هذا القطاع نحو هذا التغيير. غير أن هذا التفسير ليس مقنعاً تماماً بدوره.
يُظهِر التاريخ الاقتصادي لإسرائيل أن التغييرات الهيكلية في الاقتصاد بدأتها أولاً وقبل كل شيء الدولة، التي منحت فوائد للقطاع الخاص بحيث لا يقف في طريق الحكومة بل يكون حليفاً لها. علاوة على ذلك، فإن القطاع الخاص ليس كتلة موحدة بل مزيج من المصالح المتضاربة: ففي حين يستفيد قطاع التكنولوجيا الفائقة – hitech – والمصدِّرون، من النظام الاقتصادي الحالي، فإن العديد من الصناعات والخدمات تتأثر سلباً وتسعى إلى تغييره. إذا كان الأمر كذلك، فالسؤال هو لماذا تغلبت مصالح الأول على مصالح الأخير؟ على الرغم من أهمية التفسيرات سالفة الذكر لفهم أسباب تجذر النموذج النيوليبرالي المتطرف في إسرائيل، إلا أنها لا تقدم صورة كاملة للمسار التاريخي.
الفيل في الغرفة
يتابع كرامبف في مقالته قائلاً أن ما تسهو عنه هذه التفسيرات هو الالتفات لعامل أساسي تمّ إهماله إلى حد كبير في الأبحاث والنقاش العام حتى اللحظة: العلاقة بين النيوليبرالية والسياسة الخارجية الصقرية للحكومات الإسرائيلية. يقول الكاتب إنّ الحكومات اليمينية في إسرائيل روّجت على مدى العقد والنصف الماضيين لتبنّي نوع معين من النيوليبرالية التي يسميها الكاتب “النيوليبرالية الصقرية” (hawkish neoliberalism)، وهو نوع يؤدّي إلى مستويات أعلى من عدم المساواة والفقر مقارنة بالنماذج النيوليبرالية البديلة.
من أجل فهم انتقال إسرائيل من نظام إلى آخر، لا يكفي دراسة الإيجابيات والسلبيات الاقتصادية لكل نظام، بل يتعين على المرء أن يفهم الظروف الجيوسياسية الكامنة وراء الاختيارات التي اتخذها صناع القرار الإسرائيليون. إن الحكومة التي توجّهها سياسةٌ خارجية صَقرية أو يتملكها هاجس الأمن سيتكوّن لديها دافعٌ إضافي لتبني سياسات نيوليبرالية صَقرية كبديل للاعتماد بشكل كبير على الاتفاقيات الدولية والمساعدات الخارجية.
طالما أنّ المصالح الإسرائيلية والأميركية كانت متطابقة، لم تنظر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى المساعدات الأميركية باعتبارها تهديداً لسيادتها واستقلالها. تغيّر هذا الوضع في النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات مع تغير المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إذ سعت الولايات المتحدة إلى تكريس دورها كوسيط بين الدول العربية وإسرائيل، وبدأ الأميركيون في ممارسة ضغوط ناعمة على إسرائيل لتبني سياسة خارجية أكثر حذراً.
يستند مؤيدو النيوليبرالية الصقرية إلى حجّتين. أحدهما المنطق القائل بضرورة اتخاذ تدابير جذرية لتعزيز مرونة إسرائيل الجيوسياسية والاقتصادية وسط التهديدات الأمنية المستمرة. ومن هذا المنظور، يُنظر إلى مستويات عدم المساواة والفقر الآخذة بالارتفاع على أنها كِلفة الظروف الأمنية في إسرائيل. أمّا الحجة الثانية، والتي تتكامل مع منطق الحجة الأولى، لكن نادراً ما يُستشهد بها في الدراسات أو في الخطاب العام، فهي أنّ النموذج النيوليبرالي المتشدد الذي تروج له في الأساس حكومات إسرائيل اليمينية صُمّم ليحدّ من اعتماد إسرائيل الاقتصادي على وكلاء خارجيين – أي أولاً وقبل كل شيء، على الولايات المتحدة وبدرجة أقل الدول الأوروبية – وذلك لأسباب سياسية. إن تقليل اعتماد إسرائيل على المساعدات الخارجية يعني أن الحكومات الأجنبية ستمتلك قدرة أقل على التأثير على القرارات السياسية الإسرائيلية في أمور مثل مفاوضات السلام أو طريقة تعامل إسرائيل مع الأراضي المحتلة.
نوعان من النيوليبرالية
يتساءل الاقتصادي الإسرائيلي في دراسته، كيف يرتبط التوجه للتطرف النيوليبرالي بمحاولات الحكومات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة لتعزيز سيادتها الفعلية. يتابع كرامبف شارحاً أن مصطلح النيوليبرالية يمكن فهمه بشكل أفضل من خلال التمييز بين نموذجين مختلفين من النيوليبرالية الاقتصادية: ما يسميه النموذج النيوليبرالي الأوروبي – أو الكوزموبوليتي – والنموذج الأنجلو-أمريكي – أو النموذج الصَقْري.
يعطي النموذج الأول الأولوية للبرلة الاقتصاد المحلي، فضلاً عن التجارة الدولية وتدفقات رأس المال. في الوقت نفسه، يولي هذا النموذج أهمية للتشريع الموجّه للسوق، بما في ذلك ضبط حقوق العمال، ويسمح بمستويات مختلفة من سياسات الرعاية الاجتماعية. في مقابل ذلك، برز النموذج النيوليبرالي الأنجلو- أميركي الذي يستند إلى نهج “السياسة الصديقة للأعمال التجارية”، والذي جرى تبنيه على حساب دولة الرفاه، فسدّد ضربة قوية للعمال. أمّا فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، فإن النيوليبرالية الأنجلو-أميركية أكثر “انعزالية” من النموذج الأوروبي، بمعنى أنها لا تدعو إلى التعددية والتعاون الدولي.
تأثرت العديد من الدول شبه الهامشية، بما في ذلك إسرائيل، بالنماذج النيوليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا – وإن لم تقم بتبنيها بشكل أعمى. من منظور الاقتصادات الصغيرة، يُفهَم الاقتصاد العالمي على أنه ساحة قتال تتواجه فيها البلدان من خلال الوسائل الاقتصادية. في ظلّ الاقتصادات النيوليبرالية ذات التوجه التصديري، لا يكون الهدف المركزي للحكومة تعزيز النمو ورفاهية المواطنين في المقام الأول، بل تعزيز وضع الاقتصاد عبر تدابير أحادية الجانب لسياسة حمائية موجهة نحو السوق. غرض هذه السياسة هو تحسين رصيد الحساب الجاري عبر خفض العجز أو زيادة الفائض، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وخفض الدين الخارجي العام واكتناز الاحتياطيات الأجنبية من قبل البنك المركزي.
بحسب آرييه كرامبف، تُمكّن هذه السياسة إسرائيل على العمل لتحسين قدرتها على تحمل الصدمات الاقتصادية والسياسية من خلال الاعتماد على مواردها الخاصة. أمّا الفائدة الثانية، وهي متفرعة من الأولى، فهي سياسية الطابع. إن استراتيجية الاعتماد الذاتي تقوّض قدرة الجهات الفاعلة الخارجية، كالمجتمع الدولي أو الحلفاء السياسيين أو المنظمات الدولية، على التأثير على عملية صنع القرار داخل الحكومة. بهذا المعنى، يساهم النظام النيوليبرالي الصَّقري في استقلالية الحكومة الإسرائيلية أمام الجهات الفاعلة الخارجية وفي تعزيز سيادتها الفعلية في عالم معولَم.
التبعية والسيادة الإسرائيلية
يرى الباحث أن النوعين سالفي الذِكر من النيوليبرالية ينطبقان على فترتين في تاريخ إسرائيل الاقتصادي منذ بداية تحولها النيوليبرالي: في الفترة الممتدة من عام 1985 إلى عام 1995، اتسمت إسرائيل بنيوليبرالية كوزموبزليتية (أو ما يُسمّى بالحمائمية في مقابل الصّقرية)، وفي الفترة الممتدة من أوائل القرن الحادي والعشرين وحتى يومنا هذا، اتسمت إسرائيل بالنيوليبرالية الصّقرية. ومن أجل فهم انتقال إسرائيل من نظام إلى آخر، لا يكفي دراسة الإيجابيات والسلبيات الاقتصادية لكل نظام، بل يتعين على المرء أن يفهم الظروف الجيوسياسية الكامنة وراء الاختيارات التي اتخذها صناع القرار الإسرائيليون.
إن الحكومة التي توجّهها سياسةٌ خارجية صَقرية أو يتملكها هاجس الأمن سيتكوّن لديها دافعٌ إضافي لتبني سياسات نيوليبرالية صَقرية كبديل للاعتماد بشكل كبير على الاتفاقيات الدولية والمساعدات الخارجية. وإذا نجح مثل هذا النظام، فهو يعمل كنوع من الأداة الممتصة للصدمات الاقتصادية والسياسية، ويساعد في سحب قدرة الجهات الخارجية على ممارسة نفوذها على عملية صنع القرار المحلي الإسرائيلي. بسبب الظروف الاقتصادية والجيوسياسية، كان “الاستقلال الاقتصادي” – بمعنى التخفّف من اعتماد إسرائيل على المساعدات الاقتصادية والأسواق الغربية – هدفاً سياسياً بالغ الأهمية لإسرائيل منذ تأسيسها.
نظر بيريز إلى الأسواق باعتبارها أداة تهدئة يستطيع القطاع الخاص على الجانبين قطف أرباحها. وبالفعل، فالسلام الذي وَضعت اتفاقية أوسلو تصوّره حظي بدعم واسع من قطاع الأعمال الإسرائيلي، الذي توقع جني الأرباح الكبيرة بعد الشروع بالتعاون الاقتصادي مع الأردن والسلطة الفلسطينية، كما أن شركات دولية بدأت تظهر اهتماماً بهذا الجانب. ويظهر أن نموذج “الشرق الأوسط الجديد” استلهم النيوليبرالية الأوروبية وعملية التكامل الأوروبي.
أنهى اندلاع الانتفاضة الثانية – المصحوب بانهيار إطار أوسلو، عصرَ النيوليبرالية الحمائمية في إسرائيل. شاعت عبارة “ليس هناك شريك” في الخطاب العام في إسرائيل، واستُبدل التفاؤل الذي ارتكزت عليه رؤية بيريز ل”الشرق الأوسط الجديد” بتصوّرٍ مفاده أن المتطلبات الأساسية لتحقيق هذه الرؤية غير موجودة. وفي هذا الوضع الجديد، استعادت فكرة تحقيق الاعتماد على الذات أهميتها لدى القيادة السياسية الإسرائيلية.
على سبيل المثال، بعد حرب الأيام الستة، وبشكل أكبر بعد حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، تضاءلت الحاجة الملحة إلى تقليل العجز التجاري، مع بدء الولايات المتحدة في تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية ومدنية هائلة لإسرائيل. أدت هذه المساعدات إلى زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي، حيث دفعت فاتورة إنشاء جيش يناسب قوة إقليمية، ونظام رعاية اجتماعية أوروبي المستوى، ودعم سخي للصناعيين والمصدِّرين، بالإضافة إلى تكاليف إدارة الأراضي المحتلة. كانت كِلفة هذه الإنجازات هي الاعتماد الاقتصادي والسياسي المتزايد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. وطالما أنّ المصالح الإسرائيلية والأميركية كانت متطابقة، لم تنظر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى المساعدات الأميركية باعتبارها تهديداً لسيادتها واستقلالها.
تغيّر هذا الوضع في النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات مع تغير المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إذ سعت الولايات المتحدة إلى تكريس دورها كوسيط بين الدول العربية وإسرائيل، وبدأ الأميركيون في ممارسة ضغوط ناعمة على إسرائيل لتبني سياسة خارجية أكثر حذراً. أدى ذلك إلى توقيع اتفاق السلام مع مصر في عام 1979. ثمّ بلغ اعتماد إسرائيل الاقتصادي على الولايات المتحدة ذروته بعد ست سنوات، في عام 1985، عندما كان الاقتصاد الإسرائيلي على وشك الانهيار، فتم إنقاذ إسرائيل. حينئذٍ كان شرط الحصول على هذه المساعدات هو اعتماد “خطة الاستقرار الاقتصادي الطارئة”.
هكذا بدأ عصر النيوليبرالية الحمائمية في إسرائيل، عصر اللبرلة مع الدفع بعملية السلام والأمل باتفاقات إقليمية ودولية. في تلك الظروف، لم يكن يُنظر إلى الاعتماد الاقتصادي على الولايات المتحدة على أنه ذو تكلفة سياسية باهظة. في الثمانينيات والتسعينيات، كان يُنظر إلى المساعدات الأمريكية على أنها جزء من التبادل السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وكانت إسرائيل تدفع عملية السلام إلى الأمام بما يتماشى مع المصالح الأمريكية ويطبق سياسة اقتصادية نيوليبرالية تتوافق مع الفهم الأمريكي للعالم، وهذا مقابل الحصول على دعم اقتصادي من الولايات المتحدة.
بُرّر النظام النيوليبرالي الكوزموبوليتي بناءً على منطق صاغه شمعون بيريز. في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، يقول بيريز أن دول الشرق الأوسط “فقدت حاجتها للحرب، لأن تطوير الاقتصاد الحديث يعتمد على مستوى الدول التكنولوجي أكثر من اعتماده على أراضيها. كما أن الحصول على الموارد الطبيعية بواسطة المال أقل كلفة من الحصول عليها بواسطة السلاح، وبأثمان اقتصادية بدلاً من ثمن الحرب. ثانياً، إن ثمن الحرب (وأي حرب كبيرة في المستقبل ستكون حرباً في ظل الأسلحة النووية) يجعل مثل هذا السلوك لاعقلانياً بشكل متزايد”. نظر بيريز إذاً إلى الأسواق باعتبارها أداة تهدئة يستطيع القطاع الخاص على الجانبين قطف أرباحها. وبالفعل، فالسلام الذي وضعت اتفاقية أوسلو تصوّره حظي بدعم واسع من قطاع الأعمال الإسرائيلي، الذي توقع جني الأرباح الكبيرة بعد الشروع بالتعاون الاقتصادي مع الأردن والسلطة الفلسطينية، كما أن شركات دولية بدأت تظهر اهتماماً بهذا الجانب. ومن هنا، بحسب كرامبف، يظهر أن نموذج “الشرق الأوسط الجديد” استلهم النيوليبرالية الأوروبية وعملية التكامل الأوروبي.
اقتصاد إسرائيل، بكونه اقتصاداً صغيراً في بيئة معولمة، يعتمد هيكلياً على الإستيراد والتصدير، مما يعرضه لأدوات ضغط سياسية محتملة مثل المقاطعة أو سحب المزايا عن الصادرات الإسرائيلية – وهذا هو تماماً نوع الإجراءات التي تدعو إليها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS).
إسرائيل لم تستقل عن الولايات المتحدة. إن اعتماد إسرائيل على الدعم الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي المباشر وغير المباشر من الولايات المتحدة الأميركية هو عنصر أساسي في المسار التاريخي لإسرائيل. لكن السؤال ليس ما إذا كانت إسرائيل تعتمد على الدعم الأمريكي، بل إلى أي مدى يمكن لهذا الدعم التأثير على خيارات إسرائيل في السياسة الخارجية والأمن القومي.
بتبنّي هذه الرؤية للشرق الأوسط الجديد، تنخفض الأولوية الاستراتيجية للاعتماد الذاتي الاقتصادي، أولاً لسبب اقتصادي: في إطار النيوليبرالية العالمية، لا يُنظر إلى العجز التجاري بصفته مشكلة، بل ينظر إليه كنتيجة عرَضية طبيعية غير مؤذية للاقتصاد العالمي الحرّ. لذلك، لم تشعر الحكومة الإسرائيلية بضرورة السعي لتحقيق فائض في الحساب الجاري. أما السبب الثاني فهو سياسي: بما أن إسرائيل والولايات المتحدة تشتركان في رؤيتهما الإقليمية، تستطيع الحكومة الإسرائيلية أن تثق في قدرة أميركا على تحمل فاتورة جهود السلام المبذولة. بالتالي فتكلفة تحقيق الاعتماد الذاتي اقتصادياً تفوق فوائده المتوقعة.
أنهى اندلاع الانتفاضة الثانية – المصحوب بانهيار إطار أوسلو وما ترتب على ذلك من صعود حكومات يمينية متعاقبة إلى السلطة – عصرَ النيوليبرالية الحمائمية في إسرائيل. شاعت عبارة “ليس هناك شريك” في الخطاب العام في إسرائيل، واستُبدل التفاؤل الذي ارتكزت عليه رؤية بيريز ل”الشرق الأوسط الجديد” بتصوّرٍ مفاده أن المتطلبات الأساسية لتحقيق هذه الرؤية غير موجودة. وفي هذا الوضع الجديد، استعادت فكرة تحقيق الاعتماد على الذات أهميتها لدى القيادة السياسية الإسرائيلية.
التخلي عن المساعدات الخارجية؟
يخلص الاقتصادي الإسرائيلي إلى أن أية مساعدات أميركية لاحقة ستزوِّد الأميركيين بوسيلة سريعة وسهلة للتدخل في عملية صنع القرار الإسرائيلية. بناء عليه، فإن الاستراتيجية الاقتصادية الصّقرية التي تتبناها إسرائيل كانت سبباً في الحد من قدرة الإدارة الأميركية على ثني ذراع إسرائيل في شؤون السياسة الخارجية والحرب، ولو أنها لم تلغِ هذه القدرة بطبيعة الحال.
بالفعل، انخفضت تدريجياً المساعدات المدنية لإسرائيل بدءاً من عام 1997، والتي تبلغ نحو 1.2 مليار دولار سنوياً، حتى انتهت في عام 2008. غير أنّ الحكومة الإسرائيلية لم تكن جاهزة لرفض المساعدات العسكرية بعد، التي ارتفعت قيمتها على مر السنين ويبلغ مجموعها الآن أكثر من 3 مليار دولار سنوياً، وهي آخذة بالتضخّم (منذ الاتفاق بين نتنياهو وأوباما). قد يبدو أن حقيقة عدم تضاؤل الحجم الفعلي للمساعدات الأمريكية تقوِّض الحجّة المركزية التي يقدمها كرامبف، ولكنه يتابع أنه ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن مدى قدرة الدولة المانحة على ممارسة الضغط على الدولة المتلقية لا يعتمد فقط على المبلغ المقدّم ولكن أيضاً – وبشكل أساسيّ – على مدى قدرة الدولة المتلقية على التخلي عن هذا الدعم.
هذا لا يعني أن إسرائيل قد استقلّت عن الولايات المتحدة. إن اعتماد إسرائيل على الدعم الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي المباشر وغير المباشر من الولايات المتحدة الأميركية هو عنصر أساسي في المسار التاريخي لإسرائيل. لكن السؤال ليس ما إذا كانت إسرائيل تعتمد على الدعم الأمريكي، بل إلى أي مدى يمكن لهذا الدعم التأثير على خيارات إسرائيل في السياسة الخارجية والأمن القومي.
من أجل تشجيع الصادرات، تقدّم الحكومة الإسرائيلية امتيازات وإعفاءات لعدد صغير من الشركات الكبيرة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يتميز بإنتاجية وأجور مرتفعَين. وقد عزّزت هذه السياسة التوجه الإسرائيلي إلى تكثيف الصادرات المرتبطة بعدد قليل من شركات التكنولوجيا الفائقة (hi-tech) التي تتمتع بدعم حكومي هائل.
في عام 2007، كان أكبر عشرة مصدّرين في إسرائيل يمثلون 36 في المئة من إجمالي صادراتها. في عام 2014، ارتفعت حصة هؤلاء إلى 50 في المئة من إجمالي الصادرات. في عام 2010، حصلت أربع شركات – هي “تيفا” و”إسرائيل للكيماويات” و”إنتل” و”تشيك بوينت” على إعفاءات ضريبية بقيمة 4 مليار دولار.
خلال تولّيه وزارة الاقتصاد، كان نفتالي بينيت أحد المروّجين الأساسيين للنيوليبرالية الصقرية في إسرائيل، وقد بذل جهداً لجذب المستثمرين وتعزيز الصادرات، وبشكل خاص إلى دول شرق آسيا، أفريقيا، وأميريكا اللاتينية. بالنسبة لبينيت، توفّر الصادرات الإسرائيلية قاعدة جذابة لبناء تحالفات تتجاوز الصراع. قد يرى البعض أن النمو الاقتصادي ذو المنحى التصديري لا يؤدي إلّا إلى تعميق اعتماد إسرائيل على الجهات الخارجية. لكن اقتصاد إسرائيل، بكونه اقتصاداً صغيراً في بيئة معولمة، يعتمد هيكلياً على الإستيراد والتصدير، مما يعرضه لأدوات ضغط سياسية محتملة مثل المقاطعة أو سحب المزايا عن الصادرات الإسرائيلية – وهذا هو تماماً نوع الإجراءات التي تدعو إليها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS).
هنا يتبين أن النموذج الصقري يقارب هذه المسائل بشكل أكثر فعالية بالنسبة لإسرائيل من النموذج الكوزموبوليتاني. فإسرائيل لا تعتمد على شروط التجارة “العادلة” بل على القدرة التنافسية العالمية المعزّزة للشركات الإسرائيلية، وتقليل الاعتماد على المساعدات والقروض الأجنبية و القدرة على امتصاص الصدمات المالية القوية في شكل احتياطيات عالية المستوى من العملات الأجنبية وفوائض الحساب الجاري. إن ميزات النظام النيوليبرالي الصّقري لا توظف فقط في العمل على درء المخاطر الأمنية التي يواجهها الاقتصاد الإسرائيلي، بل أيضاً في مواجهة المخاطر السياسية المرتبطة بسياسة إسرائيل الخارجية الصقرية.
بالنتيجة..
تقيس إسرائيل نجاح نيوليبراليتها الاقتصادية إلى حدّ كبير بالمتغيرات الاقتصادية التي تعكس علاقاتها مع سائر العالم. توحي الأرقام حول الفوائض وانخفاض الدين العام، بجهوزيتها لتحمل الهزّات السياسية أو الاقتصادية دون الحاجة إلى مساعدة خارجية، وتُقرأ بالتالي على أنها قصة “نجاح اقتصادي”. غير أن النموذج الانعزالي الذي تتبناه إسرائيل يتسبب في خسائر اجتماعية فادحة على جزء كبير من الإسرائيليين.
في المجمل، ذهب 90 في المئة من إجمالي الإعفاءات الضريبية إلى ربع شركات الشريحة العشرية العليا فقط. أدت هذه السياسة إلى تداعيات اجتماعية كبيرة، فهي تمنح الأولوية ليس فقط للشركات المصدِّرة، ولكن أيضاً للعاملين في هذا القطاع المحدد. اتسعت الفجوة بين الصناعات التصديرية (عالية الإنتاجية والأجور) والصناعات الإنتاجية المحلية (منخفضة الإنتاجية والأجور) بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين.
من أجل تشجيع الصادرات، تقدّم الحكومة الإسرائيلية امتيازات وإعفاءات لعدد صغير من الشركات الكبيرة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يتميز بإنتاجية وأجور مرتفعَين. وقد عزّزت هذه السياسة التوجه الإسرائيلي إلى تكثيف الصادرات: فمعظم صادرات إسرائيل مرتبطة بعدد قليل من شركات التكنولوجيا الفائقة (hi-tech) التي تتمتع بدعم حكومي هائل. وفي عام 2007، كان أكبر عشرة مصدّرين في إسرائيل يمثلون 36% من إجمالي صادراتها. في عام 2014، ارتفعت حصة هؤلاء إلى 50% من إجمالي الصادرات. في عام 2010، حصلت أربع شركات – هي “تيفا” و”إسرائيل للكيماويات” و”إنتل” و”تشيك بوينت”[1]، وتُكوِّن 0.5 في المئة من العمليات التجارية في إسرائيل- على إعفاءات ضريبية بقيمة 4 مليار دولار، والتي وصلت إلى 70 في المئة من إجمالي الإعفاءات الضريبية الممنوحة في ذلك العام، وحوالي نصف الفائض في الحساب الجاري[2].
في المجمل، ذهب 90 في المئة من إجمالي الإعفاءات الضريبية إلى ربع شركات الشريحة العشرية العليا فقط. أدت هذه السياسة إلى تداعيات اجتماعية كبيرة، فهي تمنح الأولوية ليس فقط للشركات المصدِّرة، ولكن أيضاً للعاملين في هذا القطاع المحدد. اتسعت الفجوة بين الصناعات التصديرية (عالية الإنتاجية والأجور) والصناعات الإنتاجية المحلية (منخفضة الإنتاجية والأجور) بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين، مما يعني أن مجموعة صغيرة من الصناعيين والعمال في إسرائيل يتمتعون بالرخاء الاقتصادي، دوناً عن كل العاملين في القطاعات الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، أدت سياسة شراء الدولار التي ينتهجها بنك إسرائيل، النموذجية للتوجه الصقري، إلى ارتفاع الأسعار المحلية. وتحافظ على سعر صرف للشيكل أقل مما هو متوقع دون تدخل البنك، وتوفّر بالتالي حافزاً للمصدِّرين. في الوقت نفسه، ترفع هذه السياسة أسعار الواردات وتكاليف المعيشة، مما يؤثر سلباً على الأجور الحقيقية للعمال من الطبقتين الوسطى والدنيا، أي من جيوب الإسرائيليين، ودون أن يقدم لهم في المقابل نظام رعاية اجتماعية سخياً يعوضهم عن خسائرهم.
في ضوء التحليل الذي يقدمه آرييه كرامبف في بحثه، يتساءل أخيراً إذا ما كان النموذج النيوليبرالي الصقري قد فُرض على إسرائيل بسبب ما يسميه “ظروفها الأمنية الفريدة” أم أنه كان خياراً سياسياً وأيديولوجياً. يستنتج الكاتب أنه لا يمكن إنكار أن قدرة إسرائيل على تقليد النموذج الأوروبي للنيوليبرالية تقيّدها عوامل مؤسسية وسياسية واقتصادية محلية لا يمكن تغييرها على المدى القصير أو المتوسط، ولكنه يرى في الوقت نفسه أنه من الخطأ عدم الاعتراف بدور العوامل الأيديولوجية والسياسية في تشكيل النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يَعد بعواقب اجتماعية واقتصادية قد تنتج عن الخيارات الأمنية الإسرائيلية.
هذا المقال هو جزء من العمل البحثي الذي انطلق تفاعلاً مع الإعلان الذي صاغه ونشره “السفير العربي”: “الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب”، والموجود على موقعنا بالعربية والفرنسية والانجليزية. فبعد “ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟”، و”رأس الحكمة.. هل باع المصريون أرضهم لأبناء زايد؟”، نقدِّم “التحوّلات في النيوليبرالية الإسرائيلية ونموذج الأمن القومي الإسرائيلي”.
______________________
• أرييه كرامبف اقتصادي إسرائيلي نقدي أستاذ جامعي، والتلخيص يستند إلى بحث بالانجليزية بعنوان Israel’s Neoliberal Turn and its National Security Paradigm . وهو منشور في كتاب له صادر في 2018، وجدنا أنه يلامس إشكالية الطبيعة الحالية للنظام الاقتصادي والسياسي الإسرائيلي، والتغييرات التي حلت فيها.
______________________
Teva, Israel Chemicals, Intel and Check Point. ↑
Krampf, A. (2018). The Israeli Path to Neoliberalism: The State, Continuity and Change. Milton Park, Abingdon, Oxon & New York, NY: Routledge. ↑