د. سليم بدليسي
٢٤ آذار مارس ٢٠٢٢
الجزء الثالث (3 من 3)
٩-الاستبداد والترقي في فكر الكواكبي
“الحركة سنٌة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص وهبوط. فالترقي هو الحركة الحيوية اي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة الى الموت او الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب.. ويؤثر فعل الاستبداد بالأمة بأن يحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل”..
شخّص الكواكبي جوانباً أساسية لحالة التخلف المتمكنة من البشر في الشرق نتيجة الاستبداد بهم واستعبادهم من قبل الطغاة واعوانهم.. وكان طيلة تشخيصه هذا يرسم بالتنوير خطوط المواجهة بين هذا الداء وهو الاستبداد والدواء وهو الحرية للخروج من حالة التخلف والتعاسة في كافة مجالات الحياة الى رحب الآفاق النهضوية الممكنة بالوعي والتغيير بإعمال العقل والحركة..
ويوجّه الكواكبي رسائلاً خطابية إلى شعوب الشرق والى المسلمين وإلى قومه من العرب مسلمين وغير مسلمين، رسائل ذات خطوط عريضة ولكنها عميقة وواضحة حمّلها دعوته لهم للعبور إلى الآفاق الانسانية المستقبلية في كافة شؤون الحياة فيقول للشرق الفخيم: رعاك الله يا شرق ماذا دهاك وأقعدك وسكّن منك الحراك.. ثرواتك الطبيعية وافرة ويبقى أبناؤك حفاة عراة في ظلام. قاتل الله الاستبداد المانع من الترقي في الحياة المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات.. ثم يدعو الغرب إلى التعاون مع الشرق لهدم سور الشؤم والشر. ويقول للمسلمين إن جرثومة دائنا هي خروج ديننا من كونه دين الفطرة والحكمة والنظام والنشاط دين القرآن الصريح البيان إلى أن جعلناه دين الخيال والخبال دين الخلل والتشويش والإجهاد فشوّش حياتنا الفكرية والعملية والعائلية والاجتماعية والسياسية.. لقد ضيّع دينكم ودنياكم ساستكم.. وإني ارشدكم الى عملٍ افرادي لا حرج فيه علماً ولا عملاً.. أن يُحكِّم واحدكم الوجدان للتمييز بين الخير والشر تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتكفّوا عن عبادة الظالمين. ويتوجه إلى الناطقين بالعربية من غير المسلمين فيقول لهم: يا قوم أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين فما بالنا ان لا نفتكر في أن نتبع إحدى طرق وسائل الاتحاد على اصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسيّ (القومي) دون المذهبي والارتباط السياسي دون الإداري. فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعجام (الأتراك) والأجانب (الغرب) دعونا يا هؤلاء نحن ندبّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضراء، ونتساوى في السراء.. دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط.. دعونا نجتمع على كلماتٍ سواء، ألا وهي.. فلتحيَ الأمة، فليحيَ الوطن، فلنحيَ طلقاء أعزاء.. ويتوجه إلى ناشئة الاوطان: يا قوم وأريد بكم شباب اليوم رجال الغد شباب الفكر رجال الجدّ أعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان. وأعيذكم من الجهل، جهل أن الدنيونة لله، وهو سبحانه وليّ السرائر والضمائر. قد علمتم يا نجباء من طبائع الاستبداد ومصائر الاستعباد جملاً كامنةً للتأملِ والتدبّر فاعتبروا بها. خُلقتم أحراراً لتموتوا كراماً. ويخاطب الوطن المحبوب، العزيز، الحنون: كوّن الله عناصر أجسامنا منك.. يحقّ لك في شرع الطبيعة أن لا تحب الأجنبي الذي يأبى طبعه حبّك فيفقرك ليغني وطنه.. إلى متى يعبث خلالك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك يطاردون أنجالك الأنجاب ويمسكون على المساكين الطرق والأبواب، يخربون العمران ويقفرون الديار؟؟
١٠-الأمة والوطن في مفهوم الكواكبي
من بديهيات الكواكبي في أدبياته انقسام البشر إلى أمم شرقية وغربية مختلفة والتي عليها بالترقي بلوغ المرتبة القصوى السامية التي تليق بالإنسانية. ويعطي الكواكبي تعريفاً للأمة في غير مكان. فالأمة اي الشعب هي مجموعة أفراد تجمعها روابط نسب او دين أو وطن ولغة وحقوق مشتركة وجامعة سياسية اختيارية ولكل فردٍ حق اشهار رأيه. فاذا ترقت أو انحطت أفراد الأمة ترقت أو انحطت هيئتها الاجتماعية حتى أن حالة الفرد الواحد من الامة تؤثر في مجموع تلك الامة. وهذا التعريف ينسجم مع التعريف الحديث للأمة الوطنية “Nation”. وعلى هذا الأساس يعطي تعريفاً لمفهوم الامة العربية. والمنتمون للأمة العربية عنده هم العرب الناطقون بالعربية من مسلمين وغير مسلمين القاطنون في وطنٍ محدد في المجال العربي المحكوم من الاستبداد العثماني. يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الاسلام (1984) : “إن فكرة العروبة بمعناها الحديث بلغت عند الكواكبي درجة الوضوح والنضج من خلال مفهومه للأمة العربية، رافضاً التعايش مع الأتراك تحت رداء الخلافة الاسلامية القائمة على رابطة الدين وعلى النحو الذي يقيم تناقضاً بين العروبة القومية والاسلام الدين. فالكواكبي لا يرى في العقيدة الدينية تخطياً وإلغاءً للروابط القومية ولا يتخبط في تحديد العلاقة بينهما.” وبالفعل فالكواكبي يتطلع الى بناء وطن وأمة كأمم الغرب الحديثة ويذكر النمسا وأمريكا ويدعو العرب الى اتحاد قائم على العلم بعيداً عن الترك والغرب فيتحدث عن الشباب الذين تعقد الامة آمالها بأحلامهم.. وتتعلق الاوطان بحال همتهم، الذين يحبون وطنهم حب من يعلم أنه خلق من ترابه، الذين يعشقون الانسانية، ويعلمون أن البشرية هي العلم، والبهيمية هي الجهالة.. الذين يعتبرون أن خير الناس أنفعهم للناس.. يقول العلّامة محمد كرد علي عن الكواكبي وقد كان صديقاً له في القاهرة : “إنه مع تمسكه بالإسلام لم يكن متعصباً، يأنس لمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء، لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة”.
١١-هل كان الكواكبي علمانياً؟
هذا الموضوع كان مجال بحث وأخذ ورد عند كثير من الباحثين والمهتمين. فمنهم من اعتبر الكواكبي علمانياً وتقبّل او رفض ذلك منه وكذلك منهم من لم يجد فيه ذلك. ولكي نجيب عن السؤال المطروح نرجع إلى مفهوم العلمانية.. فسمات العلمانية هي فصل السلطات الدينية عن المدنية والمساواة بين حقوق المواطنين في الوطن.. رأينا فكر الكواكبي الوطني واولوية انتمائه الوطني ونشره لهذا الإنتماء في الناشئة ابناء الوطن من مختلف الأديان وان يكون الدين حكماً بينهم في الآخرة فقط.. وهذا سمة من سمات الدولة الوطنية العلمانية في مصطلحات من يطرحها. وفي مبحث “التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم” يقول: لا يجوز الجمع بين سلطتين او ثلاث في شخص واحد منعاً لاستفحال السلطة. فتُخصَّص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها ولا تتدخل الحكومة بأمر الدين ما لم تُنتهك حرمتِهِ. ونقطة الفصل بين السلطات السياسية والدينية كانت في زمنه موضع خلاف. فقد كتب عنه صديقه الشيخ محمد رشيد رضا (١٨٦٥-١٩٣٥) فيقول: “وقد كنا على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح ولكن كان هناك مسائلاً خالفنا فيها الفقيد وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية”. ويؤكد محمد عمارة: “أن الكواكبي ليصل الى ذروة الحسم والوضوح في معالجة هذه القضية قضية العلاقة بين “الدولة” ونظام الحكم وبين “العقيدة الدينية” عندما يُعلِن في جرأةٍ، يحسده عليها معاصروه، فضلاً عن معاصرينا، ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.” وبذلك فإن الكواكبي لايبدو ذو توجهٍ علمانيٍّ فحسب وإنما يبدو ويتميز كأول مفكر عربي مسلم في تاريخ النهضة العربية يطرح سمات الدولة العلمانية الوطنية بهذا الوضوح.
١٢-الاستبداد والتخلص منه
يقول الكواكبي: “ان تقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين.. حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار.. فقرر قواعد أساسية في هذا الباب تضافرَ عليها العقل والتجريب”.
لقد طرح الكواكبي في خمسة وعشرين مبحثاً مسائلاً هامة وأساسية تغطي الحياة السياسية والاجتماعية للأمة/الوطن وقيام الدولة. نذكرها للأهمية:
١-مبحث ماهي الأمة أي الشعب. ٢-ماهي الحكومة. ٣-ماهي الحقوق العمومية. ٤-التساوي في الحقوق. ٥-الحقوق الشخصية. ٦-نوعية الحكومة. ٧-ماهي وظائف الحكومة. ٨-حقوق الحاكمية. ٩-طاعة الامة للحكومة. ١٠-توزيع التكليفات. ١١-إعداد المنعة. ١٢-المراقبة على الحكومة. ١٣-حفظ الأمن العام. ١٤-حفظ السلطة في القانون. ١٥-تأمين العدالة القضائية. ١٦-حفظ الدين والآداب. ١٧-تعيين الأعمال بقوانين. ١٨-كيف توضع القوانين. ١٩-ما هو القانون وقوته. ٢٠-توزيع الأعمال والوظائف. ٢١-التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم. ٢٢-الترقي في العلوم والمعارف. ٢٣-التوسيع في الزراعة والصنائع والتجارة. ٢٤-السعي في العمران. ٢٥-السعي في رفع الاستبداد.
ويقول الكواكبي: “ان كل من هذه المباحث يحتاج الى تدقيق عميق، وتفصيل طويل، وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية.. وفي مبحث السعي في رفع الاستبداد يضع قواعداً لرفع الاستبداد فيقول:
١-الأمة التي لا يشعر كلها او أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
٢-الاستبداد لا يقاوم بالشدة انما يقاوم باللين والتدرج.
٣-يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.
وبالتالي يلزم أولاً تنبيه حس الامة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها..
ومع ذلك، ومع رفضه للعنف في التغيير يبقى جانب الثائر الحر في شخصية الكواكبي لا يخلو من توهج، فنراه يقول: “لو ملكت جيشاً لقلبت حكومة عبدالحميد في اربعٍ وعشرين ساعة” ؟! كما يحدد الحالات التي تثير غضب العوام من المستبد عقب أحوال مخصوصة مهيّجة فورية: كعقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد، او حرب يخرج منها المستبد مغلوباً، أو إهانة المستبد للدين، او عقب تضييق مالي شديد عام، في حالة مجاعة او مصيبة عامة، او تعرّض المستبد لناموس العرض، او عقب حادث تضييق او عقب ظهور موالاة شديدة من المستبد لمن تعتبره الأمة عدواً.
كما ان الجانب السياسي الاجتماعي التقدمي في شخصية وفكر الكواكبي كان حاضراً عندما كان يتناول مسالة الحرية.. يقول: “المعيشة الاشتراكية هي ابدع ما يتصوره العقل” ويرى ان الديمقراطية لا يمكن لها ان تكون حقة مالم تحتوي مضموناً اجتماعياً اشتراكياً الى جانب مضمونها السياسي المتمثل في الحرية السياسية وفق نظام دستوري كقاعدة اساسية يبنى عليها نظام الحكم. وقد ترك الباب مفتوحاً لمناقشة معمقة لتفاصيل هذا النظام وتفسير مباحثه وآلياته والتي رسم خطوطها العريضة او بالأحرى طرح نقاطها للمناقشة كما ذكرنا. وهو يرى بعين الوقت أن معيشة الاشتراك مقولة اساسية واصيلة في المسيحية والاسلام. فتراكم الثروة المفرطة مولِّد للاستبداد ومضر بأخلاق الافراد. والله قد جعل الاراضي ممرحاً لكل المخلوقات. والإسلامية كانت قد قررت ترك الاراضي الزراعية ملكاً للعامة، يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط. وللدولة دور أساسي في الاعتناء بالشؤون العامة بالأمة التي يتساوى جميع افرادها. لقد كان همه سلوك طريق التقدم وكان يستعين في كل ذلك بالرجوع الى القرآن الكريم والسنة حيث كان يرى أن من الحكمة أن نلتمس للضروريات أحكاماً اجتهادية تتماشى مع التقدم والترقي. وبذلك يعتبر أول مفكر إسلامي في العصر الحديث يفرّق بين واجبات الأعمال الدينية حقاً وبين ضرورات الحياة المدنية المتطورة باستمرار.
لقد انتقد الكواكبي وبالتفصيل، طوال كتاباته، الاستبداد من كافة الوجوه وخاصةً في صورته الشرقية وبيّن بصورة جلية نتائج هذا الاستبداد السيئة في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما الدينية. والكثير من الاعتبارات التي يعتمد عليها في التشخيص والبدائل مازالت معاصرة حتى اليوم ضرورية وأساسية لحوارٍ نحلّل به واقعنا العربي ونستشرف به آفاق المستقبل. فأقكار الكواكبي وصيحته ليست عبرة من الماضي فحسب بل هي اليوم من أهم الأسس لاستكمال المشروعٍ العربيٍّ التنويريٍّ الحضاريٍّ النهضويّ التحرري.
د. سليم بدليسي