حركة التاريخ الانساني تنبئنا أنه من النادر أن تتحكم قوة وحيدة منفردة بالعالم وتفرض لعقود عديدة سيطرتها وتغولها على عالمنا .. إذ تتحرك قوى أخرى تعمل على تثبيت وجودها وحضورها على المسرح الدولي ، وغالبا لا تنزاح القوة العظمى المنفردة إلا عبر ولادة عسيرة للقوى الأخرى المنافسة لها ، وضمور تدريجي لدور وفعالية القوة المسيطرة على السياسة الدولية .. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية لازالت تمتلك مقومات القوة العظمى المسيطرة ، فإن إرهاصات صعود قوى أخرى منافسة لها بدأت تتشكل على الساحة الدولية ،
إن كان في النهوض الاقتصادي والتكنولوجي الضخم للصين أو بتطور الٱلة العسكرية الروسية او بلجوء الدول إلى تشكيل تحالفات ( تحالف دول البريكس مثلا ) عسكرية وتقنية وتبادل في الخبرات والمعلومات لوقاية دولها والحد من ٱثار السيطرة الأمريكية على العالم ، وذلك تمهيدا للانتقال من الاحادية القطبية الى عالم متعدد الأقطاب ..
وفي هذا الصدد يقول ” وانغ يي ” وزير الخارجية الصيني: “بفضل التوجه الاستراتيجي للرئيس ” شي جين بينغ ” والرئيس ” بوتين “، تحافظ علاقات الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي بين الصين وروسيا في العصر الجديد على قوة دفع عالية للتنمية ،وتتحركان بثبات وثقة بما يتماشى مع تشكيل عالم متعدد الأقطاب، وتظلان ملتزمتين بذلك “.
ضمن هذا التصور الاستراتيجي الذي يهدد القطبية الأحادية للولايات المتحدة الامريكية اشتغل صانعي السياسة الأمريكية على لجم الاندفاع الصيني ومحاصرته ، واستجرار بوتين واستفزازه للدخول في الحرب الأوكرانية لإنهاء العمق الاستراتيجي له بعد تطويقه بنفوذها في الدول المتاخمه له ، ومن ثم إدخاله في مستنقع حرب طويلة الأمد لاستنزاف القدرات الروسية اقتصاديا وعسكريا في محاولة لتحويل الدولة الروسية مع إطالة أمد الحرب الى دولة منهكة بما يضعف حضورها ودورها الدولي ويحقق إصابة عصفورين بحجر واحد : فهي من جهة تضرب التحالف الصيني الروسي لما يمكن أن يشكله من تهديد للسيطرة الاحادية الامريكية ، ومن جهة أخرى تضمن الاستقرار في حلف شمال الأطلسي وبالتالي ضرب أي نزوع أوربي ( المانيا ، فرنسا ) للخروج عن الحضن الأمريكي أو محاولة التقارب – وفق معيار المصالح – مع الاتحاد الروسي ، خاصة مع ظهور مؤشرات إلى أن الأوروبيين بدأوا مؤخرا في حلف الناتو ( قبل الحرب الأوكرانية ) للانعتاق -لاعتبارات عديدة – عن الولايات المتحدة الأمريكية .
ويبقى الموقف الصيني من الحرب الأوكرانية معقدا ، إذ وضعتها الحرب بين نارين : الاستمرار بالمنافسة الاقتصادية وتحسين مستوى اقتصادها من خلال تبادل العلاقات الاقتصادية مع روسيا ( شراء النفط والغاز باسعار تفضيلية ) ، وخسارتها من الاستفادة من علاقاتها بالغرب عبر شركات غربية وأمريكية استثمارية تم تجميد نشاطها مع انزياح الموقف السياسي الصيني الى جانب روسيا . وفي هذا الموقف ليس من مصلحة الصين استمرار الحرب خاصة بعد تهديد الوزير الأمريكي ” بلنكن ” بالعقوبات الشديدة أذا ما دعمت روسيا عسكريا ..
ومن هنا تتبدى مصلحة الصين في إنهاء الحرب الاوكرانية كي تتفرغ إلى الدفع بعجلتها الاقتصادية وبرامج التنمية التي تشتغل عليها بعد تعسر هذه البرامج وانعكاس أثر الحرب وقبل ذلك جائحة كورونا على النشاط الاقتصادي الصيني العالمي . ولذلك فإن الرؤية الصينية لإنهاء الحرب تقوم على قاعدة لا غالب ولا مغلوب عبر حل سياسي ، فهي لا تريد لأوكرانيا ان تخرج مهزومة من هذه الحرب ، كما لا تريد لروسيا أن تخرج منتصرة من الحرب لأن لها مصلحة في أن تبقى روسيا تحت جناحيها ، علاوة على ذلك، ومع وجود مصالح متشابكة ومعقدة للصين في حال إذا ما أمتد الصراع بعيدا عنها، فإن ذلك سوف يُصرف انتباه الغرب عن مسرح المحيطين الهندي والهادي، وسوف تُترك روسيا ضعيفة بحيث لا تشكل أي تهديد لنفوذ الصين المتنامي في فضاء الجمهوريات السوفياتية السابقة وفي أوراسيا ووسط ٱسيا ، في الوقت الذي تستطيع فيه أن تملأ الفراغ الاقتصادي داخل روسيا، والذي خلفه انسحاب الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية .
ومع هذه الرؤية الصينية وقد تكون تغطية لاهدافها الحقيقية تريد ان تكون وسيطا في حل سياسي ودورا في صنع السلام . وفي هذا الاتجاه أطلقت مبادرتها الاخيرة للحل السياسي في ” ميونخ ” وصولا الى وقف النار والدخول بمفاوضات سياسية عبر وساطتها معولة على الغرب في تسهيل ذلك ، لعلمها أن أمريكا سترفض المبادرة ولن تمنحها فرصة ان تكون حمامة سلام …
ولكن ذلك يقودنا الى التساؤل حول جدية مبادرتها في هذا الوقت بالذات مع ترافق ذلك بالتحذير والتهديد الأمريكي بعدم إدخال السلاح الصيني في الحرب ، وهل مبادرتها غايتها تشتيت الرؤية الدولية عن عزمها في دعم روسيا عسكريا ؟؟ .. أم أنها فعلا تريد ان يكون لها دور كصانع سلام للحصول على مكاسب سياسية تكون بمثابة إعلان عالمي بقبول دورها كدولة كبرى في تحقيق السلام ؟؟
وفي المقابل فإن أمريكا وأمنها القومي واستمرار قيادتها للعالم ومصالحها تعمل على انتصار أوكرانيا وتدعمها بزخم كبير بالأسلحة والعتاد والدعم المادي ولكنها تضع خطا أحمرا بعدم تجاوز الحرب الحدود الروسية بما قد يشعل حربا مباشرة مع روسيا وحلفائها لا تريدها اليوم .
وفي سبيل تحقيق الإدارة الامريكية أهدافها في الحرب الاوكرانية عليها أن تعمل على حل الصراع الداخلي لديها بين التيار المحافظ المتشدد والذي يريد الانسحاب من الحرب ووقف الدعم لأوكرانيا والانسحاب من بؤر التوتر في العالم ، وبين التيار الاوسع ( من أغلبية الحزب الديمقراطي والجمهوري ) الذي يدفع بمزيد من الدعم لأوكرانيا وإطالة أمد الحرب .. وبالتأكيد لا تريد هذه الإدارة حربا مع الصين وتحاول أن توازن بين ضغط التيار الذي يرغب بحرب مفتوحة بأوكرانيا ، وبين استمرار العلاقة مع الصين والضغط بكل الوسائل للحد من تدخل الصين الى جانب روسيا وخاصة دعمها عسكريا … ووفقا لذلك فإن إدارة الرئيس الأمريكي اعتبرت أن الصين أكبر تحدي للأمن القومي وأنها ” التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية لأمريكا ” واتخذت خطوات لتشكيل شبكة تحالفات جديدة تحيط بالصين وتستهدف مواجهة قوتها الصاعدة وتأسس على إثر ذلك تحالف أوكيوس” (AUKUS) مع أستراليا وبريطانيا، وتحالف “كواد” (Quad) مع اليابان وأستراليا والهند ، والعمل على تعزيز تحالفاتها الإقليمية في شرق أوروبا وفي جنوب وشرق آسيا، وعلى رفع وتيرة التنسيق الأمني والعسكري بشكل خاص مع كييف وطوكيو وسيؤول وكامبيرا ( استراليا ) .
وقد قال متحدث الخارجية الأميركية ” تدعي بكين الحياد، لكن سلوكها يوضح أنها ما زالت تستثمر في علاقات قوية مع روسيا “، مضيفا أن واشنطن “تراقب أنشطة بكين عن قرب”. ” وإن زودت الصين روسيا بالأسلحة فستدفع ثمنا حقيقيا ” .
ولكن الدبلوماسية الصينية لطالما كررت مقولة “ضرورة التخلي عن عقلية الحرب الباردة وفكرة التحالفات العسكرية، والتحول إلى نظام دولي براغماتي متعدد الأقطاب تلعب فيه الدول غير الغربية دورا أكثر حسما”.
والسؤال الذي يطرح نفسه في ضوء ثبات الاستراتيجية الصينية ومن ورائها روسيا ودول أخرى للانتقال إلى التعددية القطبية ، وإصرار واشنطن منع أي إجراء لحدوث ذلك ، ماذا يمكن أن تؤول نهايات الحرب الأوكرانية ؟؟؟
لقد أثبتت تجربة تاريخ الحروب أن الدخول في أي حرب يعني الدخول في نفق مظلم لا يعرف أيا من طرفي الصراع منعرجاته ومٱلاته …
ولا شك ان انتهاء عصر العولمة الاحادية ينعكس ايجابا على أغلبية دول العالم لإنهاء تحكم واستغلال وعربدة الولايات المتحدة الأمريكية ، ويطلق مساحة مهمة وهوامش يمكن استغلالها لإيجاد منافذ لإطلاق فاعليات التنمية والنهضة في الدول التي يقف الاخطبوط الامريكي في مواجهة تقدمها ..
فهل يمكن – في حال الانتقال الى التعددية القطبية – أن تستغل دولنا العربية هذا الظرف التاريخي – إن حصل – للخروج من عباءة التخلف والتبعية وتحكم الاستبداد في بنيتها وبناها ، واللحاق بركب العصر والحضارة ؟؟؟
ذلك هو السؤال المحوري ، وعليه يجب التحضير لممكنات هذا التغيير .. وعلى القوى الوطنية الحية في دولنا وضع استراتيجيات وخطط للتعامل مع المتغيرات ، وعدم الانتظار مما قد يحصل قبل فوات الاوان …