سلمان عز الدين
هربت حميدة من “زقاق المدق” لتواجه مصيرها المفجع. كانت الحرب العالمية دائرة والخطر منثور في كل مكان. وهناك، على بعد خطوات من الحارة الصغيرة، كان العالم منتظرًا فاغرًا فاه، بجيوشه وأساطيله وقنابله وسياساته المعقدة..
وفي قراءة لرواية نجيب محفوظ الشهيرة، يرصد محمود أمين العالم هذا الالتقاء الاستثنائي بين الخاص جدًا والعام جدًا، بين الحيز الصغير المغلق والعالم الكبير الواسع، بين الهوية الأهلية الضيقة والهويات المتداخلة والمختلطة..
ويبقى لافتًا ومستحقًا للرصد والملاحظة كيف أن حارة صغيرة للغاية وقعت وسط أحداث عالمية عظمى.. كيف صارت جزءًا من الحرب الكونية الكبرى!
اليوم.. الآن، لم يعد هذا موضوعًا مثيرًا للفضول أو مستحقًا لرصد فني أو نقدي. ذلك أنه ببساطة صار موضوعًا مألوفًا شائعًا، نحياه جميعًا كشأن من شؤوننا اليومية المعتادة.
لقد صرنا جميعًا، بحاراتنا الصغيرة وقرانا النائية ومضاربنا التائهة في الصحارى، جزءًا منفعلًا من هذا العالم الكبير، لا نستطيع الفكاك من تعقيداته، ولا الهروب من حروبه، ولا النأي عن أزماته..
ومذ صار الكون قرية صغيرة، ونحن مشبوكون بشبكة واحدة، نتلقى عبرها أصغر الهمهمات من أقصى الأمكنة، وفي كل صباح وكل مساء، بل وفي كل ساعة، نقف أمام وجبة من الأخبار العاجلة القادمة من مشارق الأرض ومغاربها، فنشعر أننا معنيون، ونتوهم أننا نُستشار ونُسأل، فيصيبنا الغرور ولكن ينتابنا القلق كذلك.
منذ مئة عام تقريبًا، عاش أجدادنا الأقربون في هذه البلاد أزمة وجودية كالتي نعيشها اليوم. اضطرب العالم وتراقصت الحدود واهتزت الكيانات القديمة ثم سقطت، وبزغت مكانها كيانات جديدة. هويات عتيقة تبخرت وهويات حديثة ولدت.. ولا شك أنهم عانوا كثيرًا وسط تلك العواصف. خافوا وجاعوا ومرضوا.. ولكن ثمة ما يبيح الظن أنهم كانوا أقل إحساسًا بالمصيبة منا. ربما لأنهم عرفوا أقل مما نعرف فقلقوا أقل مما نقلق وحزنوا أقل مما نحزن. ربما لأنه كان لديهم، رغم كل شيء، عوالم صغيرة محمية يلوذون بها.. قرى نائية لم تصلها آثار الحرب، مواسم جنيت قبل وصول الجراد، أحراش احتفظت بثمارها البرية وحطبها من أجل جوع مباغت وشتاء داهم لا يرحم.. وثمة أمر كبير الأهمية قدمته لهم عوالمهم هذه: حمتهم من أصداء ما يدور خارج حدودها، أغنتهم عن الحاجة إلى معرفة ما يحدث في البعيد، فحصنتهم من هم الترقب وغم المقارنة.
كانوا أقرب إلى القاعدة في “هرم ماسلو”، فإذا ما أمنوا لقمتهم (رغم صعوبة هذا)، وإذا ما ابتعدوا عن مرمى الرصاص والقنابل (وكان هذا ممكنًا).. فهم في عداد المكتفين المحظوظين..
أما نحن، أحفادهم، فنجوع وأعيننا على ألمانيا التي لا تجوع، ونبرد وأعيننا على السويد الدافئة دائمًا وسط محيط من الصقيع. نغرق فيما نراقب صعود كوريا الجنوبية وماليزيا وتحليق تايوان.. ومن هنا، من المقارنة تأتي الكآبة وهي ما لم تكن، على الأرجح، بين الشرور التي طاردت أجدادنا..
نعرف، للأسف، أن الحرب الروسية على أوكرانيا تطاردنا نحن أيضًا حتى أبعد بقعة في بلادنا وأصغر خيمة في باديتنا، فما يحدث هناك يزيد حربنا تعقيدًا وينذر بإطالة أمدها إلى ما لا نهاية.
وفيما نقضي أيامنا ونحن نركض خلف سراب المازوت، ونفتش طول البلاد وعرضها عن جرة غاز.. فإن أفكارنا تبقى مشغولة بما يحدث بين واشنطن وموسكو، وبين واشنطن وبكين، وبين بروكسل وطهران.. بالانتخابات التركية والانتخابات الأمريكية، بما يحدث في كواليس الكرملين وأروقة البيت الأبيض.. فنشعر أن عبء العالم كله جاثم فوق كواهلنا. وإلى الجوع والبرد نضيف تعبًا للأعصاب ووجعًا للأدمغة، وإلى الموت في بحار الهجرة وبرصاص الحرب الطائشة، نضيف أسبابًا أخرى للموت: الجلطة القلبية والجلطة الدماغية والانهيار العصبي..
من القسوة أن نحسد أجدادنا المساكين على ما كانوا فيه، ومن الحمق أن نعتقد بأن عالمهم البائس كان فردوسًا علينا أن نفتقده ونبكيه. ومع ذلك فربما كانوا، رغم كل مصائبهم، أكثر حظًا منا. لقد احتاجت المأساة أن تخطو حميدة بضع خطوات خارج حارتها لتلاقي قدرها القاسي، وكثيرون من مجايلي حميدة لم يخرجوا من الحارة فسلموا، بالتالي، من شرور العالم في الخارج. أما نحن فلا نحتاج أن نمشي أي خطوة بعيدًا عن حارتنا لنلاقي العالم، ذلك أن العالم برمته قد صار في عمق حارتنا بل وداخل بيوتنا.
والأهم أن حميدة صنعت بمصيرها مأساة، وفي المأساة عزاء ما لكبرياء البشر. أما اليوم فلفرط تكرار المأساة واتساع نطاقها صارت مبتذلة.. صارت “مسخرة”، وفي هذا سبب إضافي للكآبة.
يمكن تحميل الرواية من