وفد المبعوثين من الولايات المتحدة وأوروبا، جاء إلى السودان حاملاً أجندة واضحة ومحددة تتصدرها مسألة الالتزام بالاتفاق وتوسيع مشاركته، وتشكيل الحكومة كيفما اتفق لوقف التمدد الروسي في أفريقيا والذي بدأ يتخذ من جغرافيا السودان مناطق نفوذ جديدة. عزز ذلك مشاركة الأطراف العسكرية السودانية في الصراع لدى الجارة، جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تشهد حضوراً روسياً متصاعداً.
شمائل النور – كاتبة صحافية من السودان
السفير العربي
2023-02-18
أحمد شبرين – السودان
بعدما أنهى ستة مبعوثين من الولايات المتحدة وأوروبا زيارة امتدت لثلاثة أيام في الخرطوم، انخرطت كافة الأطراف السياسية والعسكرية في اجتماعات مكوكية لتسوية خلافاتها السياسية في محاولة للتوصل إلى حد معقول من التوافق الذي يتيح فرصة تشكيل حكومة على وجه السرعة، لاستئناف الفترة الانتقالية بعد انقطاعها بانقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
وفد المبعوثين جاء حاملاً أجندة واضحة ومحددة، أشبه بالامتحان المكشوف، وما على الأطراف السودانية إلا تقديم الكراسات للتصحيح. تتصدر الأجندة مسألة الالتزام بالاتفاق وتوسيع مشاركته والاستفسار عن معايير وتشكيل الحكومة.
وتشكيل حكومة كيفما اتفق هو المطلب الرئيسي والعاجل للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بهدف وقف التمدد الروسي في أفريقيا والذي بدأ يتخذ من جغرافيا السودان مناطق نفوذ جديدة. عزز ذلك مشاركة الأطراف العسكرية السودانية في الصراع لدى الجارة، جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تشهد حضوراً روسياً متصاعداً.
اتفاق إطاري تحت الضغط
تحت الضغط الأمريكي – الأوروبي وقّع الجيش و”الدعم السريع” و”تحالف الحرية والتغيير” – تحالف رئيسي في السودان- على اتفاق إطاري في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2022. لكن الاتفاق رفضته كتلة رئيسية كانت جزءاً من “تحالف الحرية والتغيير” قبل أن تقدّم نفسها حاضنة لانقلاب قائد الجيش، وهي كتلة قوامها حركات مسلحة رئيسية. كما أن الاتفاق رفضته مبدئياً قوى ثورية رئيسية (“لجان المقاومة، وبعض القوى المهنية، الحزب الشيوعي، “حركة تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد نور، وحزب البعث العربي).
الاتفاق الإطاري الذي منح “قوات الدعم السريع” استقلالية موازية للجيش عبّد الطريق أمام اصطفاف حاد، مدني / عسكري بين مجموعات “الحرية والتغيير” من جهة والجيش و”الدعم السريع” من جهة أخرى، وهو انعكاس وامتداد للاصطفاف الإقليمي حول السودان.
تدعم الإمارات العربية المتحدة الاتفاق الإطاري بقوة، انطلاقاً من الوضعية المميزة التي حاز عليها قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، بينما تدعم مصر وبلا مواربة الجيش السوداني ضد الدعم السريع، وهذا موقف مصري معلوم، حتى أن القاهرة لا تبدي ممانعة من التعاون مع “الإخوان” في السودان، وهي تعلم نفوذهم في الجيش.
قاومت مصر الاتفاق الإطاري منذ أيام التفاوض، وحينما لم تستطع لإفشاله سبيلاً، استمالت المجموعات السياسية المناوئة للاتفاق، وعلى رأسها “الحزب الاتحادي الديمقراطي” برئاسة محمد عثمان الميرغني وهو حزب تربطه علاقات تاريخية بمصر منذ استقلال السودان. بجانب الحزب الاتحادي، استمالت مصر المجموعة المنشقة من تحالف الحرية والتغيير (تلك الحاضنة لانقلاب البرهان)، وحاولت خلق منبر في القاهرة تحت لافتة حوار سوداني – سوداني.
ولعل نصيحة مصر للبرهان ابتداء هي الإغراق وتفريخ مجموعات سياسية هي أصلاً متناحرة وصولاً إلى فرية “فشل الأحزاب”، ما يمهد الطريق لتوطيد مسار عسكري قابض، بالبرهان أو بغيره، خصوصاً مع حالة السيولة التي عمّت أطراف البلاد والشلل الاقتصادي الشامل الذي خلّف حالة كساد نادرة ومظاهر غياب الدولة التي أصبحت جلية.
الاتفاق الإطاري الذي منح “قوات الدعم السريع” استقلالية موازية للجيش، عبّد الطريق أمام اصطفاف حاد، مدني / عسكري بين مجموعات “الحرية والتغيير” من جهة والجيش و”الدعم السريع” من جهة أخرى، وهو انعكاس وامتداد للاصطفاف الإقليمي حول السودان.
بالمقابل تمكنت الإمارات وعبر الآلية الرباعية (مع أمريكا، بريطانيا والسعودية) من جعل الاتفاق واقعاً. وتطمح الإمارات لفرض نفوذ اقتصادي في السودان تأتي الموانئ في مقدمته، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ واجه الاتفاق عزلة بالرفض الواسع له، كما أن القوى السياسية الموقِّعة على الاتفاق ومنها “الحرية والتغيير، لم تفلح في تسويقه بين قوى الثورة كما لم تحرز تقدماً في حل خلافاتها مع الأطراف الأخرى من التحالف المناوئة للاتفاق، ما دفع قادة الجيش إلى إطلاق تصريحات متتالية تلمح للتملص من الاتفاق، وهو أمر متوقع وفقاً للنصائح المصرية.
مصير الاتفاق أم مصير الانتقال ككل؟
زيارة المبعوثين الستة أعادت الضغط على كافة الأطراف لضرورة التوصل إلى حل يمهّد لتشكيل حكومة بأسرع ما يُمكن، في محاولة لإنقاذ الاتفاق الإطاري المدعوم أمريكياً بشكل مطلق، لكن التحديات أمامه عديدة. كما يبدو دعم الولايات المتحدة والأوروبيين لاتفاق يمنح “قوات الدعم السريع” استقلالية أكبر، متنافياً مع مبدأ سياسي لديهم، لكن الواضح أن البراغماتية حسمت الأمر في الوقت الراهن، بحيث يتم قبول الاتفاق مؤقتاً على أن يتولى الجيش أمر وقف توسع “قوات الدعم السريع” ضمن خطة الوصول لجيش موحد.
صرح قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في مرات متتالية مؤكداً تمسكه والتزامه بالاتفاق الإطاري الموقع مع “الحرية والتغيير، معتبراً إياه المخرج الوحيد للبلاد: فإما هو أو الفراغ، وذلك على عكس قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، الذي يظهر بوضوح عدم حرصه في الاستمرار في هذا الاتفاق.
يُدار الآن المشهد في السودان بشكل كامل من خارجه، حتى باتت الساحة السياسية لا تتحرك إلا بقدوم فاعل دولي، وليس بمقدور القوى العسكرية والسياسية السودانية المنخرطة الآن في الاتفاقيات إلا الرضوخ وهو أمر غير فارق إذ أن الاتفاقيات والتفاهمات التي تنتظم الساحة الآن لا تخرج عن دائرة تقاسم السلطة.
وإن كان موقفه صحيحاً ظاهرياً، حيث إن الاتفاق لم يحظَ بالإجماع المطلوب، إلا أن خلافات البرهان تصاعدت مع نائبه ومنافسه “حميدتي” في أعقاب فشل الانقلاب الذي أكمل عاماً وأربعة أشهر عاجزاً عن تشكيل حكومة. وخلاف الرجلين، وإن كان انطلاقاً من التنافس على الحكم، إلا أنه لا يعدو كونه انعكاساً للتنافس الإقليمي – الدولي داخل السودان.
المشهد الآن في السودان يُدار بشكل كامل من خارجه، حتى باتت الساحة السياسية لا تتحرك إلا بقدوم فاعل دولي، وليس بمقدور القوى العسكرية والسياسية السودانية المنخرطة الآن في الاتفاقيات إلا أن ترضخ.
وخطورة الأمر هو أن هذه القوى الإقليمية والدولية ليست متفقة، بل لكلٍ منها رؤيته ولكلٍ حلفاؤه من الشقين، العسكري والمدني. يتساءل الكثيرون عن مصير الاتفاق الإطاري الموقع بين الجيش و”الدعم السريع” و”تحالف الحرية والتغيير”، بينما السؤال الأحق بالطرح هو ما مصير العملية الانتقالية ككل في ظل التشظي السياسي والانهيار الاقتصادي، بل ما مصير البلاد؟
المؤكد أن السباق الأمريكي الروسي سيكون له القدح المعلى في تحديد مصائر الاتفاقيات والتحالفات السودانية، وبالتالي سيحدد هذا السباق الحامي ملامح الفترة المقبلة، وهو أمر غير فارق إذ أن الاتفاقيات والتفاهمات التي تنتظم الساحة الآن لا تخرج عن دائرة اتفاقيات تقاسم السلطة.