الجمعة، ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٣
صالحة علام – الجزيرة مباشر
تحدثنا في مقال سابق عن عودة العلاقات التركية المصرية، وكيف أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف باقتصاد البلدين لعبت دورًا مهمًا في توجيه دفة المصالحة بينهما، وكانت العامل الأبرز في تخطي خلافاتهما، وفتح الباب رحبًا أمام عودة علاقاتهما الدبلوماسية وتبادل السفراء، مع انفتاح كامل منهما على مناقشة القضايا والملفات التي لا تزال عالقة بينهما
يتصدر هذه القضايا بامتياز الملف الليبي، الذي يعد أحد أكثر الملفات الساخنة التي عمّقت الخلاف بين أنقرة والقاهرة، وزادت من تصاعد وتيرته طوال السنوات الماضية، تبادل خلالها البلدان الاتهامات، وكثفا من هجومهما على بعضهما بعضًا، ووجّها انتقادات لاذعة لممارسات كل منهما السياسية عبر وسائل إعلامهما
فالقاهرة ترى أن ليبيا، الشقيقة والجارة، تمثل عمقها التاريخي والاستراتيجي، وأن الارتباط بينهما ارتباط وثيق لا انفصام له على الأصعدة كافة السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية الأمر الذي يعني تلقائيًا بالنسبة لها أن أية تدخلات أجنبية على الأراضي الليبية يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، بل وإعلان حالة الحرب ضدها
بينما تختلف أنقرة في نظرتها إلى ليبيا اختلافًا بينًا عن نظرة القاهرة تلك، فهي بالنسبة لها واحدة من أهم ساحات المواجهة الإفريقية الدائرة بينها وبين باريس، التي تلاحقها تركيا في كل مكان داخل القارة السمراء، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة على تحجيم دورها فيها، من خلال الكشف المستمر عن ممارساتها غير الإنسانية التي تقوم بها في الدول التي تتمركز بها، وتفرض سطوتها عليها
وترى تركيا أنه إذا كان لأحد الحق في الوجود على الأراضي الليبية من خارج مجموعة الدول العربية فهي أولى وأحق من غيرها، لاعتبارات عدة تاريخية وعقدية واقتصادية واجتماعية، حيث إنها تعمل دومًا على مد يد المساعدة للدول التي توجد على أراضيها، ولا تبخل بتقديم خبراتها في المجالات كافة الكفيلة بتحقيق النمو والازدهار الذي يضمن لشعوبها حياة كريمة من خلال توظيف ثرواتها وما تملكه من إمكانيات، وذلك على عكس الدول الأوربية التي تسعى فقط إلى الاستحواذ على خيرات البلاد ونهب ثرواتها دون أدنى اعتبار لشعوبها
كما أن ليبيا بما تملكه من موقع جغرافي متميز، وثروات طبيعية كثيرة تعد فرصة ذهبية أمام أنقرة لتحقيق مكاسب أمنية وسياسية واقتصادية لا يجب إهمالها أو التفريط فيها، خاصة وأن الوضع القائم الذي تمر به ليبيا حاليًا يسمح لها بالوجود والتمركز في شمال إفريقيا، ولعب دور على الصعيد السياسي تضمن من خلاله أن تكون لاعبًا أساسيًا فيها مستقبلًا، ومنافسًا قويًا للدول الأوربية التي تتصارع على الاستفادة من ثروات المنطقة وأسواقها التجارية
جنت تركيا بالفعل أولى ثمار وجودها على الأراضي الليبية، حينما نجحت في توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين، وهي الاتفاقية التي منحتها وجودًا شرعيًا ورسميًا معترفًا به في منطقة شرق المتوسط المتنازع عليها، الأمر الذي عضد من موقفها في مواجهة كل من اليونان وقبرص الجنوبية، فيما يخص حصتها من ثروات المنطقة المكتشفة حديثًا، التي سعت الدولتان إلى إقصائها منها، من خلال إنكار وجود أية حقوق لها في هذه الثروات كونها ليست إحدى الدول المطلة بشكل مباشر عليها، وليس لها فيها حدود بحرية معترف بها، اللهم إلا يدها الموضوعة على الجزء الخاص بالحدود البحرية لقبرص الشمالية، وهو وجود تعده الدولتان احتلالًا يجب إنهاؤه
اختلاف وجهتي نظر البلدين في رؤيتهما لعلاقتهما مع ليبيا، ومصالحهما فيها، وإدراكهما أنهما ليستا دولتين متنافستين على الساحة الليبية، وأن لكل منهما أهدافًا ومصالح تختلف في أغلبها عن أهداف الطرف الآخر ومصالحه، إلى جانب إدراك القاهرة أن الوجود التركي في ليبيا أو التعاون العسكري بينهما لا يشكلان لها أية تهديدات، وهي مسألة طالما أرقتها وأثارت لديها الكثير من الشكوك حول نوايا أنقرة تجاهها
عوامل عدة كان لها أثر بالغ في تغيير موقفهما، بل واتفاقهما على أهمية التحرك سويًا من أجل التحضير الفعلي والجاد لإجراء انتخابات في ليبيا، تكون هي القاعدة والأساس الذي يمكن البناء عليه لإعادة الأمن والاستقرار للأراضي الليبية والمحافظة على وحدة شعبها وأمنه
كما اتفقا على العمل سويًا من أجل إعداد القوات المسلحة الليبية وتدريبها، وتوحيد صفوفها من خلال الجمع بين القوات الموجودة في الشرق تحت قيادة اللواء خليفة حفتر، والقوات الموجودة في الغرب بقيادة الفريق الركن محمد الحداد، لما لذلك من أهمية كبرى في ترسيخ مبدأ الدولة الموحدة ذات الجيش الواحد، الأمر الذي يجعل من السهولة بمكان إعادة الاستقرار والأمن إلى طوائف الشعب الليبي، وضمان وحدة أراضيه، وإعادة الحياة إلى طبيعتها بأسرع وقت ممكن
أما فيما يخص القوات التركية الموجودة في غرب ليبيا، التي تعمل مع حكومة الوفاق الوطني، وفق الاتفاقية الموقعة بين الطرفين، وكذلك العناصر المسلحة الأخرى، فقد تم الاتفاق على أن يتم سحبها على مراحل، وذلك في أعقاب إتمام الانتخابات، وتشكيل حكومة موحدة تضم شرق البلاد وغربها، ودمج القوات المسلحة الليبية تحت قيادة واحدة، والانتهاء من عمليات التدريب والتأهيل التي ستتولاها قيادات من الجيشين المصري والتركي
أما فيما يرتبط بمصالح كل من مصر وتركيا الاقتصادية في ليبيا، فالاتفاق الذي تم بينهما سيحفظ فيما يبدو لكل منهما حصته، سواء من عملية إعادة إعمار ما دمرته سنوات الحرب، أو في المشروعات الصناعية والتجارية التي ستتم فيها، الأمر الذي يمهد الطريق لتوسيع نطاق تعاونهما، حيث من المتوقع أن تستعين أنقرة في تنفيذ مشروعاتها المستقبلية على الأراضي الليبية بعمالة مصرية، كونها أرخص تكلفة، وأكثر قدرة على التواصل مع الليبيين بحكم اللغة، إلى جانب معرفتهم الجيدة للواقع الاجتماعي وعادات أهل البلد، الأمر الذي يحقق للقاهرة رغبتها في أن يكون لها وجود أكبر داخل القطاع الاقتصادي والتجاري الليبي حلًا لمشكلة البطالة المرتفعة بين مواطنيها، خصوصًا بعد أن بدأت بعض الدول العربية في تسريح العمالة المصرية لديها، الأمر الذي يمثل عبئًا على الدولة التي تعاني من وضع اقتصادي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم
كما تم التوافق على قضية اقتصادية مهمة تشغل بال المسؤولين في البلدين، وهي مسألة الصادرات إذ اتُفق على أن تكون المنتجات التركية والمصرية معًا هي الأكثر وجودًا في السوق الليبي، وهو ما سيؤمن للبلدين مصدرًا جيدًا للعملات الأجنبية، وتصريفًا مستمرًا ودائمًا لمنتجاتهما، خاصة وأن المؤسسات المالية العالمية تصنف السوق الليبي كأحد الأسواق الواعدة سواء في مجال التصنيع أو الاستهلاك، في حال تم حل المشاكل القائمة، وانتهى الصراع القائم بين الأطراف المتنافسة على الساحة
ما توصلت إليه القاهرة وأنقرة في الملف الليبي، الذي رجح الكثيرون من المراقبين صعوبة التوصل إلى حلول جذرية بشأنه بينهما على الأقل في المستقبل القريب، يعد خير دليل على إمكانية حل باقي الملفات الخلافية بينهما بالسهولة نفسها إذا ما تم إعادة النظر في كل ملف منها، ومراجعته وفق المصالح والأهداف التي يسعيان لتحقيقها، والمواءمة بين الأهم والمهم في كل ملف منها