المحامي : محمد علي صايغ
ظهرت فكرة المواطنة لدى البشر باعتبارها امتيازا تتمتع به فئة من السكان بسبب أصلها أو وضعها الاجتماعي والاقتصادي . وقد أخذت بالبداية طابعا ذكوريا محضا بمنح الرجال صفة الأهلية القانونية دون النساء كما في أثنا وروما . وقد طال زمن سلطة الذكور لقرون عديدة إلى أن حل عصر الأنوار ليشكل مرحلة تحول في مفهوم المواطن والمواطنة , بجعل المواطنة حقا إنسانيا طبيعيا يتمتع به الجميع (رجالا ونساء”) على قدم المساواة . وقد كانت الثورة الفرنسية فاتحة هذه الرؤيا الجديدة , إذ جعلت من المواطنة حقا قانونيا وسياسيا بإعلانها حقوق الإنسان والمواطن ثم شرعنت هذه الحقوق في الأمم المتحدة .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الإسلام قد خطى خطوات باتجاه المواطنة , من خلال “صحيفة المدينة” التي حددت – ضمن معايير عصرها – صفات المواطن وحقوقه وواجباته دون تمييز بين الأعراق والأصول . وكان المسجد في عهد النبوة والخلفاء الراشدين فضاء” أساسيا للتداول في قضايا الحرب والسلم ، وانتقال الخلافة ، والحوار في مختلف القضايا.. وكان تعبيرا عن المشاركة والاندماج الاجتماعي والسياسي والإنساني .
والمعيار الأساسي للمواطنة هو الانتماء إلى وطن تسوده علاقات مبنية على احترام الحقوق والالتزام بالواجبات . وهذا لا يعني اتساق ذلك مع مجموعه من القوانين المعيارية المحددة والمتصلة بعلاقة الفرد بالدولة فقط , وإنما يتجاوز ذلك إلى الحياة الجماعية القائمة على روابط تشريعيه وسياسيه وثقافيه وإنسانيه . وهي مفهوم ديناميكي يتطور بتطور المجتمعات ووعيها بحقوقها ، ويقترن بدرجة تطور الإنسان وسعيه نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة من اجل تحقيق إنسانيته واحترام وجوده .
والمواطن وفقا لرؤية القانون هو شخص من جنسيه وطنيه يتمتع بحقوق مدنيه وسياسيه , ويتوجب عليه الاضطلاع بواجبات تجاه المجتمع ، ويتمتع بخاصية المساهمة في الحياة العامة .
هذا الوضع القانوني للمواطن يمنحه :
– حقوقا مدنيه وحريات أساسيه : الزواج ، التملك ، الأمان ، المساواة أمام القانون ، المساواة أمام العدالة ، حرية التفكير ، حرية التعبير ، حرية المعتقد ، حرية التنقل ، حرية الاجتماع والمشاركة ، الانضمام إلى جمعيات وحرية التظاهر، المساواة في الوظائف العامة….
– حقوقا سياسيه : الحق في الانتخاب ، الحق في أن ينتخب ، الحق في المطالبة باستصدار القوانين عبر الممثلين المنتخبين …
– حقوقا اجتماعيه : الحق في العمل ، الحق في الإضراب ، الحق في التعليم ، الحق في الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية …
وبمقابل هذه الحقوق يتوجب على المواطن تأدية مجموعه من الالتزامات والواجبات منها : احترام القوانين ، المساهمة في المصاريف العامة (دفع الضرائب) ، الاستعلام ، المساهمة في الدفاع عن الوطن … الخ
والمواطنة أيضا تعبيرعن هوية مشتركه (الجنسية) ، وتعتبر الجنسية العنصر الأساسي في تعيين الهوية المشتركة بين المواطنين ، وتعتبر الرباط القانوني الذي يصل الشخص (المواطن) بموطنه وبمجموع المواطنين ، كما تعبر المواطنة عن الانتماء إلى الجهة السياسية ذاتها (الأمة في حال العيش في – دولة / أمة – حيث لا دوله بدون أمة) , وهي تتيح للمواطن أن يَنتخب ويُنتخب ، كما تعبر أيضا عن هوية ثقافيه , وعن تاريخ مشترك والتشارك في الذاكرة ضمن المحطات المؤثرة في التاريخ الوطني أو الأمجاد التي سجلها التاريخ
وللمواطنة خصائص عامة هي :
1- شاملة : فهي شاملة لكافة الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية …..
2- متكاملة : وهي غير قابلة للتجزئة , ولا تخضع لأي تراتبية أو أولوية تفضيلية لحق على آخر
3- انسانية : وتشمل كل البشر أينما وجدوا
4- متساوية : لا تقبل التمييز بسبب العرق أو اللون أو الدين والمعتقد أو الاختلاف الطائفي والمذهبي والاثني ….
ويبقى أن المواطنة تنتظم من خلال أربعة قيم أو مبادئ أساسيه :
– الآداب العامة : وتتبدى في سلوك يتجسد من خلال احترام المواطن والمواطنين الآخرين (اللباقه، حسن التصرف، التسامح..) , وتجاه الأماكن والأبنية العامة (وسائل النقل مثلا..) , والاعتراف المتبادل القائم على الاحترام للشخصية الإنسانية ، واحترام حق الاختلاف في الآراء والمعتقدات .
– المسؤولية المدنية : القائمة على احترام – والتربية على احترام – القوانين والقواعد السارية ، وعلى وعي الفرد لواجباته تجاه مجتمعه , وعلى سلوك فعال في الحياة اليومية والعامة , وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .
– التضامن : المواطنين ليسوا أفرادا متجاورين , وإنما جمعا من الرجال والنساء المرتبطين بمشروع مشترك ، وهو أيضا انفتاح على الآخر والحوار معه , والمساهمة في العمل الاجتماعي (مساعدة المحتاجين، المحافظة على البيئة، تحسين الصحة والتعليم…) والارتقاء به .
– المشاركة : المواطن مسؤول , وحقه في المشاركة واجب في كل ما يتعلق في حماية حقوقه ، وفي كافة الأنشطة الثقافة والسياسية والاجتماعية والترفيهية ، والإسهام في خلق رأي عام له القدرة على التغيير والتأثير . وتعتبر المشاركة في الدول التي تقوم على تداول السلطة من أهم أوجه المشاركة للمواطنين وتتمثل هذه المشاركة في :
– الانخراط في منظمات المجتمع المدني : كالنقابات , والجمعيات الأهلية والانسانية , والنوادي الثقافية والترفيهية والرياضية … وان يكون للمواطنين دورا في الارتقاء بها وتفعيلها بما يخدم اهدافها .
– الانتظام في الأحزاب السياسية : حيث ينخرط المواطنون في الأحزاب بناء على اقتناعهم بمبدأ المشاركة السياسية , وأهمية العمل العام التي تسمح لهم بالتأثير في القرارات التي تتخذ في الدولة , ومراقبة ومتابعة جماعية للحقوق الدستورية والقانونية والسياسية واتخاذ موقفا فاعلا في حال تعرضها للانتهاك من السلطة التنفيذية .
– المشاركة في الانتخابات: وتتم المشاركة في الانتخابات عبر الترشيح والترشح , والتصويت والحوار , والاقتراح ومسائلة المنتخبين , واتخاذ موقف – ايجابي أو سلبي – من برامجهم
– المشاركة بعد الانتخابات: عن طريق متابعة أداء المنتخبين وبرامجهم ومسائلتهم في حال وقوع خروقات أو تجاوزات أو صدور قرارات مجحفة بحق المواطنين، والحصول على المعلومات، وتحديد الانجازات وتحديد المعوقات… الخ.
والخلاصة: فان المواطنة تحقيق للقيم الايجابية المرتبطة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة لممارسة الحرية والمساواة والعدالة في إطار دولة الحق والقانون مع الالتزام بالواجبات التي تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة والمشاركة والمساهمة في كافة أوجه النشاطات العامة وميادين العمل العام .