بقلم : محمد علي صايغ
٣ / ٤ / ٢٠٢٤
تعتبر الانتخابات المحلية ( البلدية ) في تركيا التي جرت في 31 / 3 / 2024 ضربة قاسية لحزب العدالة والتنمية الحاكم بعد أن كان يحوز الأغلبية على مدار عقدين من الزمن ، في حين اكتسحت المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري الصناديق الانتخابية ، وضمنت أغلبية رئاسة البلديات في تركيا وخاصة البلديات الكبرى كاستانبول وأنقرة وبورصة وازمير وغيرها من الولايات الأخرى ، وتمكن حزب الشعب الجمهوري من حصد خمسة عشر ولاية بينما حاز حزب العدالة على أحد عشر ولاية ، فيما ذهبت رئاسة الولايات الأخرى لبقية الأحزاب ..
وقد شارك في الانتخابات البلدية / 34 / حزباً تركياً في مقدمتهم حزب العدالة والتنمية ، والحزب الجمهوري ، والحركة القومية ، وحزب الرفاه ، وحزب الجيد إضافة إلى المستقلين ، فيما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات بحدود 77 % ، وهي نسبة قد لا تصل إليها أعتى وأكثر الديمقراطيات في العالم .
وبالرغم من تصريح رئيس حزب العدالة والتنمية الرئيس أردوغان وتأكيده على أهمية وجود معارضة قوية في البلاد ، لما لها من انعكاسات على شحن الهمم وتحفيزها من خلال المنافسة على تقديم أفضل الخدمات للمواطنين ، فإن ضربة نتائج الانتخابات ستلقي بٱثارها لفترة طويلة على حزب العدالة الحاكم ، وتعطي الدافع للحزب الحاكم والأحزاب الأخرى لإعادة تقييم أداءها ومراجعة حساباتها على ضوء نتائج الانتخابات …
وهنا لا بد من التوقف عند أهم المعطيات التي أفرزتها الانتخابات البلدية ويمكن اختصارها بالٱتي :
١- أكدت الانتخابات انتصار الديمقراطية والانحياز لصندوق الانتخاب ، وشفافية ونزاهة الانتخابات رغم المشككين بأن الحزب الحاكم سيتلاعب بنتائجها ، وجاءت تقارير المراقبين الدوليين لتؤكد مصداقيتها ، إذ أن انتخاب الرئيس أردوغان على دورتين لعدم حيازته الأصوات المؤهلة لفوزه من الدورة الأولى ، وخسارة حزب العدالة للانتخابات البلدية تأكيد جلي على هذه المصداقية .
٢- الانتخابات أبانت تغير في مزاج الناخب التركي ، انعكس على التحول في اختياراته ، كما أعطت مؤشراً بأن الناخب التركي إذا كان قد أعطى الأغلبية للرئيس أردوغان والأغلبية في الانتخابات البرلمانية فإن هذه الأغلبية كانت انحياز الشعب التركي لأردوغان ورصيده وإنجازاته ، بينما في الانتخابات البلدية كان للشعب رأي ٱخر .. وقد يكون الناخب التركي أراد توزيع حقائب الحكم وإدارته بين الحزب الحاكم والمعارضة لتفعيل المنافسة بينهما لمزيد من الخدمات وتطوير البلاد ، وإعطاء الفرصة للمعارضة واختبارها في إثبات جدارتها .
٣- كان للشباب دور مهم في نتائج الانتخابات ، كما أن دخول ما يقارب مليون وخمس وثلاثين ألف ناخب جديد منهم لبلوغهم سن الثامنة عشر دور أيضا في تلك النتائج ، إذ كما يبدو نتيجة شعور الحزب الحاكم بالتفوق خلال العقدين الماضيين ، وعدم استشعار الحوافز والنوازع الداخلية للشباب ورغباتهم في التغيير قد أعطى نوع من التراخي وعدم التحرك الجاد من أجل فهم مطالبهم وخياراتهم ..
٤- والانتخابات أكدت أن هناك إشكالية في بنية وهيكلية حزب العدالة الحاكم ، وبأن الصراعات الحزبية قد بدأت تدريجياً تنخر في أوصاله ، يضاف إلى ذلك انتشار ظاهرة التكلس الذي أشار إليها الرئيس أردوغان في خطاب الشرفة كان لها تأثير في بنية الحزب ، وخاصة خلال السنوات الأخيرة وما بدى يظهر داخل الحزب من انشقاقات وانسحاب شخصيات لها وزنها وثقلها ورصيدها الوطني والشعبي .
٥- لا بد من الإشارة إلى التضخم الاقتصادي الكبير وأثره على أصوات الناخب التركي ، إذ أن الانخفاض الكبير لليرة التركية مقارنة بالعملات الأخرى وانعكاس ذلك على حياة المواطنين وعيشهم قد شكل عاملا إضافياً مهما في اختيارات الناخبين ، ولا شك بأن الضغط والحصار الاقتصادي الخارجي ، ومحاولات أمريكا والغرب لي الزراع التركي وإيقاف النهضة العسكرية والاقتصادية ، والدعم الخفي للمعارضة كان له تأثيره على صناديق الانتخاب .
٦- وهناك عامل قد يكون تأثيره ليس كبيراً كما أظهرت نتائج الانتخاب والذي يتمحور حول الأحزاب المحافظة التي انتزعت أصوات الناخبين الذين يفترض أن تذهب أصواتهم إلى حزب العدالة ، خاصة وأن بعض هذه الأحزاب خرجت بالاصل من رحم حزب العدالة .
هذا الوضع من الصراع الحزبي قد أدى إلى ظهور كتلة من الناخبين لم يشاركوا بالعملية الانتخابية ، وإلى انخفاض نسبة المشاركة بحدود 10% مقارنة بالانتخابات السابقة .
٧- وأخيراً ، فإن ورقة المهاجرين وإن لم تستخدم علنا وبكثافة في هذه الانتخابات البلدية مقارنة بالانتخابات التي قبلها ، إلا أن تراكم استخدامها بشكل متواصل في السنوات الأخيرة قد صعد من التعصب القومي وخطاب الكراهية ، وأحدث فرزاً واضحاً في الرأي العام التركي لازالت تبعاته وانعكاساته تتفاعل في المستوى الشعبي .
ولما كانت الانتخابات المحلية ( البلدية ) تعبير عن اللامركزية ، ولها أهميتها التي لا تقل عن أهمية الانتخابات البرلمانية ويعتبرها البعض أكثر أهمية لامتلاك البلديات الدور الخدمي وتمتعها بميزانية مستقلة ، ولأنها النافذة الأساسية لاستقطاب الجمهور التركي في أية انتخابات برلمانية ورئاسية .
وبغض النظر عن عدم القبول بالاحتلال التركي للأراضي السورية وكافة الاحتلالات الأخرى ، فإن التجربة الانتخابية التركية برمتها تنتظرها إعادة تقييم وبحث ودراسة ، وتنتظرها تحديات عديدة أهمها :
١- تحدي استمرار النهج الديمقراطي ، واستمرار القواعد الديمقراطية المرتكزة على النزاهة والشفافية واعتماد صندوق الانتخابات ونتائجه ، وهذا يقتضي تثبيت دعائم الديمقراطية لدى الجمهور التركي ، والبحث عن مخارج لتجاوز الانقسام القائم على معايير اثنية أو دينية طائفية التي مازالت تخيم بشكل أو بٱخر على الاصطفاف الانتخابي ، كما لا بد من تعميق الانحياز الديمقراطي في مواجهة أي ارتداد نحو الحكم العسكري وتجربته المرة .. فانتصار التجربة الديمقراطية اليوم أمامها طريق صعب ووعر للمحافظة على استمرارها خاصة وأن ولاية أردوغان هي الولاية الأخيرة ، ولا بد من تعميق هذا النهج الديمقراطي توقياً لارتدادات داخلية تنتظرها قوى إقليمية ودولية انسجاما مع سياساتها ومصالحها ..
وهذا يتطلب العمل بجدية على وضع الحلول لمواجهة أي حالة انقسام مجتمعي وعلى رأسها تعميم ثقافة المواطنة المتساوية في المجتمع التركي ، مما يتطلب النهوض الاجتماعي والاقتصادي في مناطق التجمعات الأقلوية ، والتركيز عدم التمييز في المناصب والمراكز الحكومية والأخذ بمعيار الكفاءة وتحمل المسؤولية في تحديد المهمات والمسؤوليات .
٢- التحدي الاقتصادي المتمثل بتراجع النمو الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة التركية والارتفاع الكبير في أسعار السلع الاستهلاكية ، والخلل في معدلات الفائدة وانعكاساتها السلبية .. كل ذلك وغيره يشكل تحدياً جديداً أمام الحكومة التركية .
ولمواجهة هذا التحدي لابد من انتهاج سياسة اقتصادية جديدة تتجاوز ٱثار تلك الأزمات لإنعاش الاقتصاد ووضع الحلول للتضخم الاقتصادي ، وهذا يتطلب إيجاد سياسة متوازنة بين استثمارات الدولة وبين استثمارات القطاع الخاص وتدعيم الاستثمارات الخاصة بدعم القطاع الخاص عن طريق إنجاز عقود شراكة بين القطاع الخاص والعام ، واستجرار الاستثمار الخارجي وترغيبه في الاستثمار بمجالات محددة تنعكس إيجابياً على الاقتصاد التركي بما لا يتجاوز على استقلال القرار الوطني ، ويأتي العمل على الاستثمار في الثروات الباطنية وخاصة في مجال الثروات المنتجة للطاقة كأحد الموارد المهمة لدعم الاقتصاد ونموه .
وقد تكون سياسة العودة الى ” صفر مشاكل ” مع الخارج وخاصة مع الدول المحيطة بالدولة التركية والدول الأخرى وفتح باب العلاقات المتوازنة وتنشيط الاستثمار أمامها خطوة في الاتجاه الصحيح ..
٣- تحدي إعادة التقييم ومراجعة الحسابات للحزب الحاكم والأحزاب الأخرى ، هذه المراجعة تفترض إجراء تغييرات في هيكلية الأحزاب ، وإعادة تأهيل لكوادرها ، وإبراز قيادات شابة جديدة قادرة على استقطاب جيل الشباب وفهم متطلباته وطموحاته ، ووضع الخطط العملية لاستيعاب الشباب فوق الثامنة عشر عاما في عجلة العمل وتهيئة الفرص لهم ، واتباع سياسة عادلة بين قيم الأجور ومعادلتها مع التضخم في أسعار المواد المستهلكة . ولا بد من القول أن فوز الحزب المعارض ليس نهاية المطاف ، وأن المرحلة الأصعب هي المحافظة على هذا الفوز من خلال العمل الجاد في وضع الخطط العملية لتقديم مزيد من الدعم والخدمات لعموم المواطنين .
٤- تحدي تجاوز الهاجس الخاص بالمهاجرين ، وتجاوز الاحتقان العنصري والضخ الإعلامي تجاههم ، فقد انتهت العمليات الانتخابية وتوقفت لأربعة سنوات قادمة على الأقل ورقة استخدامهم الانتخابي لحيازة أصوات الناخبين ، ولا بد من الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة من انتهاج سياسة احتواء واحتضان لهؤلاء المهاجرين ودمجهم في عملية النهوض الاقتصادي .. هؤلاء المهاجرين بالرغم من أن وجودهم على الأراضي التركية مؤقت ، إلا أنه بالإمكان استثمار وجودهم وجهودهم في دفع الاقتصاد التركي ونهوضه ..
كما أن الإعلان عن عودة تدريجية ٱمنة للٱجئين يتطلب انتهاج سياسة تأخذ بالاعتبار تطبيق القرارات الدولية ، والمساهمة في إيجاد البيئة الٱمنة لعودتهم دون قسر أو دون زرعهم جبراً في المساحات المتاخمة لحدود الدولة التركية بما يشكل تغييراً ديموغرافياً ، سيشكل في المستقبل عامل عدم استقرار ، ونزاعات وصراعات من نوع جديد تضر بالنسيج الاجتماعي السوري ، وتضر أيضاً بالدولة التركية ، وتستنزف قدراتها في استمرار عدم الاستقرار على حدودها ، ذلك لأن الحلول الجزئية أو الترقيعية لمشكلة اللاجئين في دول الجوار ودول الاغتراب لا يمكن أن تنجز حلا مستداماً ، ولا بد من إنجاز الحل الجذري الشامل للقضية السورية وفق القرارات الدولية وخاصة القرار ٢٢٥٤ / ٢٠١٥، وبدون ذلك فإن تدفق اللاجئين سيستمر دون توقف مرحلة بعد أخرى ..
أن دراسة التجربة الديمقراطية في تركيا والوقوف عند عوامل القوة والضعف مهم ليس لاستنساخها وتطبيقها كنموذج لنا في سورية ، وإنما تأتي دراستها مع دراسة التجارب الأخرى الناجحة ، من أجل الوصول إلى تجربة ديمقراطية خاصة تنسجم مع مجتمعنا وقيمه والاستفادة من تجارب الٱخرين بالارتكاز إلى القواعد والأسس الأساسية للنظام الديمقراطي ، ووضع تجربتنا السورية تحت مجهر الدراسة والتدقيق والمقارنة مع أنماط الحكم سواء الناجحة أو الفاشلة ، مقدمة لا بد منها لإنجاز التغيير الوطني الديمقراطي الذي يرسي دعائم الحرية والعدالة والوحدة ويحقق قيم المواطنة المتساوية لجميع المواطنين السوريين قولا وعملا ….