موقع “درج” – نور الأحمد
14 ، 03 ، 2024
يكشف هذا التحقيق عن أوجه متعددة لمعاناة يواجهها المدنيون في مدينة الحسكة للحصول على مياه الشرب النظيفة، في ظل لجوء أطراف نزاع، بمن في ذلك “قوات سوريا الديمقراطية” والمعارضة السورية المتحالفة مع تركيا، الى محطة المياه الرئيسية “علوك” كوسيلة ضغط سياسي، ما جعل السكّان غير قادرين على تحصيل المياه النظيفة.
“أُصبت أنا وأمي بالكوليرا، نتيجة شرب مياه الصهاريج”، تقول بيان (25 عاماً)، من حي غويران جنوب مدينة الحسكة، الذي يعتمد غالبية سكانه وسكّان أحياء الحسكة شمال شرقي سوريا، على مياه الصهاريج الخاصة كمصدر بديل وأساسي للشرب.
الشابة بيان، وبعدما اشتدّ الألم في معدتها، وبدأت بمرحلة الإعياء والإسهال الشديدين في بداية العام 2023، لجأت وأمها التي تعاني من الأعراض نفسها الى مستشفى الشعب (الوطني سابقاً) الذي تديره الإدارة الذاتية (حكومة محلية لادارة الإقليم)، لعدم قدرتها على تحمّل تكاليف العلاج الباهظة في المستشفيات الخاصة، حيث شُخِّصت حالتها وأمها بالكوليرا، بعد فحوصات روتينية، وأُخضعا لنظام علاج مكوّن من أدوية ومصول طبّية.
بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الكوليرا عدوى حادة تسبب الإسهال وتنجم عن تناول الأطعمة أو شرب المياه الملوّثة، ولا تزال تشكّل تهديداً عالمياً للصحة العامة ومؤشراً إلى انعدام المساواة وغياب التنمية الاجتماعية.
تماثلت بيان وأمها للشفاء من الكوليرا بعد رحلة علاج دامت ثلاثة أشهر، وانتقالها من مستشفى الى آخر ومن مركز طبي الى آخر في المدينة، للحصول على أفضل علاج، بعدما تجرّعت مضادات حيوية وسيرومات كثيرة واعتمادها على المياه المعدنية للشرب، إلا أنها تشعر ببعض الآلام في المعدة بين حين وآخر، وتخشى الإصابة مجدداً قائلة: “نجوت من الموت بأعجوبة، الطبيب منعني من شرب مياه الصهاريج وأخبرني أنّها سبب إصابتي، أخشى أن أصاب مرة ثانية”.
انقطاع المياه هل هو السبب؟
يكشف هذا التحقيق عن أوجه متعددة لمعاناة يواجهها المدنيون في مدينة الحسكة للحصول على مياه الشرب النظيفة، في ظل لجوء أطراف نزاع، بمن في ذلك “قوات سوريا الديمقراطية” والمعارضة السورية المتحالفة مع تركيا، الى محطة المياه الرئيسية “علوك” كوسيلة ضغط سياسي، ما جعل السكّان غير قادرين على تحصيل المياه النظيفة.
وقطعت فصائل المعارضة السورية المياه عن محطّة علوك لمرّات متكرّرة طيلة السنوات الفائتة، في حين قطعت “قوات سوريا الديمقراطية” الكهرباء عن هذه المحطة، ما جعل المدنيين يعتمدون على الآبار غير النظيفة لمياه الشرب وسط تحوّل المياه الي مركز نزاع غير متناهٍ راح ضحيته السكان المدنيون.
كما وثّق التحقيق أن ضعف قدرة “الإدارة الذاتية”، بمن في ذلك هيئة الصحة ومديرية المياه، إضافةً إلى مديرية صحة الحسكة في الحكومة السورية، على مراقبة جودة المياه الموزّعة عبر الصهاريج الواردة إلى مدينة الحسكة، أدّى إلى شرب السكّان مياهاً غير صالحة للاستخدام البشري، ما أسفر في نهاية المطاف عن انتشار أمراض عدة، بما في ذلك الكوليرا والتهابات الأمعاء والالتهابات المهبليّة النسائية.
جاء ذلك بعد انقطاع المغذي الرئيسي للمدينة من المياه، واعتماد ما يقارب المليون مواطن على شرب مياه الصهاريج الخاصة، والتي لا تراعي الشروط الصحية الواجب اتباعها.
محطة “علوك” هي واحدة من أهم محطات مياه الشرب في سوريا، تقع في منطقة رأس العين في ريف الحسكة، وتغذّي مدينة الحسكة وريفها وبلدة تل تمر بمياه الشرب، بمعدّل 70 ألف متر مكعب يومياً. كما تجاوز عدد المستفيدين من المحطة نحو المليون ونصف مليون مواطن.
بدأت مشكلة قطع المياه المتعمد والمتكرر وشبه الكامل، من محطة “علوك” المغذي الرئيس لمياه الحسكة وريفها، بالتزامن مع عملية “نبع السلام” التي قامت بها تركيا والجيش الوطني المتحالف معها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والسيطرة على مدينة رأس العين الحدودية، وبالتالي سيطرتها على محطة مياه علّوك، ما جعلها نقطة نزاع وورقة ضغط بين طرفي النزاع، أحدهم يسيطر على المحطّة والآخر يسيطر على خطوط الكهرباء المغذّية لها.
وعلى رغم التدخلات الأممية من منظمات إنسانية مثل اليونيسيف والصليب الأحمر الدولي، لتحييد المحطة عن النزاع السياسي، إلا أنها ومنذ أربع سنوات، شبه متوقّفة، إذ كانت تُقطع لأكثر من 40 مرة في السنة، إلى أن توقفت بشكل شبه كامل عام 2023.
لم يردّ مكتب “يونيسيف” في سوريا على أسئلتنا عبر البريد الإلكتروني، حول موقف المنظمة من استخدام محطّة “علوك” كأداة ضغط لتصفية حسابات سياسية، ولكن أظهر بحثنا أن منظّمات دولية عدة، من بينها “يونيسيف” و”الصليب الأحمر الدولي” و”المجلس النرويجي”، قدّمت دعماً ومساعدة لتأهيل بعض الآبار أو تقديم مواد تعقيم للمياه.
حاولت مديرية المياه التابعة لـ “الإدارة الذاتية”، إيجاد بدائل للمياه، إذ تم استجرار المياه من نهر الفرات، لكنها لم تُضخّ لبعض أحياء المدينة سوى مرات عدة، بسبب عدم قدرة المشروع على تغطية حاجة المدينة من المياه، وانخفاض منسوب نهر الفرات، لذا تحاول مديرية المياه إيجاد بديل، باستجرارها من ناحية عامودا الحدودية، لكن المشروع لم يرَ النور بعد.
دفعت أزمة المياه سكان مدينة الحسكة الى إيجاد بدائل لتوفيرها، مثل حفر آبار ارتوازية، والتي منعتها الإدارة الذاتية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، حفاظاً على البيئة ومخزون المياه الجوفية في المدينة. ولأن الآبار هذه غير صالحة للشرب، لجأ أهالي المدينة الى شراء مياه الصهاريج الخاصة التي تأتي من آبار خارج المدينة.
صهاريج ملوّثة بديل المياه الرئيسي!
تتمّ تعبئة مياه الصهاريج الخاصة من المناهل المملوكة لأصحاب الأراضي المجاورة لها، والتي يقع معظمها في ريف مدينة الحسكة الغربي، وتوزَّع بعد ذلك للأهالي المحتاجين لها، مقابل أجر مادي يختلف بين صاحب صهريج وآخر، وغالباً ما يتّفق أصحاب الصهاريج على سعر موحد، يزداد بازدياد حاجة السكان الى المياه، وعدم وجود رقابة على التسعيرة.
يلجأ معظم أصحاب الصهاريج الخاصة الى استخدام صهاريج مخصصة لمياه الشرب، مع وجود بعض المخالفات من بعضهم الآخر، سواء من حيث جودة الصهريج التي يمكن أن تصدأ مع الوقت، أو استخدام صهاريج مخصصة للمحروقات واستبدالها بالمياه بعد محاولة تنظيفها. وما يزيد الطين بلّه، هو عدم التزام الكثير منهم، سواء من أصحاب الصهاريج أو مالكي المناهل، بعملية التعقيم أو بإضافة المواد المعقّمة الى المياه الموزعة لهم، سواء من حكومة دمشق أو الإدارة الذاتية، تجنباً لاهتراء الصهريج أو التغيّر بمذاق المياه.
مئات صهاريج المياه الخاصة تدخل إلى مدينة الحسكة يومياً من جميع مداخل المدينة، باستثناء الجنوبي منها، لتلبية حاجة السكان من المياه. وعلى رغم ارتفاع سعرها الذي يصل أحياناً الى نصف دولار (سبعة آلاف ليرة) للبرميل الواحد (ألف ليتر)، لكنها تبقى البديل الوحيد تقريباً.
لا يقلّ خزان كل عائلة عن خمسة براميل، أي بقيمة مئة ألف ليرة سورية شهرياً تقريباً، إلا أنها تُعتبر البديل الأرخص راهناً.
وبحسب الرئيس المشترك لمديرية المياه في الإدارة الذاتية، عيسى يوسف، فإن مياه الصهاريج الموزعة في أحياء مدينة الحسكة المختلفة، يتم استجرارها من 68 بئراً في بعض قرى مدينة الحسكة، تعود ملكية 52 منها الى أصحاب الأراضي المجاورة لها، وسبع مناهل لمديرية المياه في الإدارة الذاتية.
يؤكد يوسف على تعقيم المديرية بمادة الكلور جميع مناهل المياه السبعة المشرفة عليها، والواقعة في ريف مدينة الحسكة، وتوزيعها مادة الكلور المعقمة لأصحاب الآبار الخاصة، وتشديدها على ضرورة الالتزام بذلك، لكنه لا يضمن الأخيرة.
وعلى رغم وجود قسم للضابطة في مديرية المياه، بحسب يوسف، والتي أغلقت مدخل المدينة الجنوبي أمام صهاريج المياه الخاصة، بعد كشف مخالفات متعلقة باستخدام أصحابها صهاريج مخصصة لنقل المحروقات لتوزيع المياه، وعدم تعقيم المياه، إلا أنه يؤكد عدم إمكانية المديرية حالياً على مراقبة جميع المداخل وأعداد الصهاريج الكبيرة التي تدخل يومياً منها إلى مركز المدينة.
وهو ما أكدت عليه بدورها، هدية عبد الله، نائبة هيئة الصحة في الإدارة الذاتية، مشيرةً الى عدم قدرة الهيئة راهناً على مراقبة هذه الأعداد الكبيرة من الصهاريج التي تدخل يومياً إلى المدينة، باستثناء حالات الطوارئ في حال انتشر داء الكوليرا أو غيره من الأمراض، فيتم حينها التشديد والمراقبة واستقبال الحالات المرضية في المراكز التابعة لهم.
أما مدير الصحة في الحسكة، عيسى خلف، فيلفت الى تعقيم المناهل التسعة التي تشرف عليها حكومة دمشق، من الصليب والهلال الأحمر السوري، والتي يُوزَّع بعضها مجاناً للسكان.
يؤكد خلف عدم قدرة مديرية الصحة على مراقبة جميع الصهاريج التي تدخل إلى المدينة، بسبب عدم سيطرتها على القسم الأكبر منها، بما في ذلك التحقّق من صلاحيتها للشرب وفحص جودتها، وكذلك ينفي قدرتها على السيطرة على بعض الصهاريج الخاصة التي تدخل إلى المدينة.
بالتوازي، توزّع منظمات غير حكومية عاملة في مدينة الحسكة، خزانات ضخمة بسعة تصل الى ما بين الـ10 والـ25 برميلاً للشرب تقريباً في كل حارة من أحياء الحسكة المختلفة، إلّا أنّها لا توفّر المياه للجميع ويبقى شراء المياه من الخزانات خياراً لا يمكن التخلّي عنه.
يقول مصدر في جمعية اليمامة الخيرية في مدينة الحسكة، “إن المنظمات الحكومية وغير الحكومية تشدد على تعقيم هذه الخزانات، وتأتي بالمياه من مصادر معروفة، وتتأكد من صلاحيتها للشرب قبل التعبئة، هذا ونوهت الى انتشار أمراض عدة في أحياء مختلفة من المدينة، غالبيتها في الأحياء الجنوبية، بسبب الاعتماد على مياه الصهاريج الخاصة التي يأتي بعضها من مصادر غير معروفة.
ابني أصيب بالكوليرا بسبب الصهاريج
أم محمود، 33 عاماً، من قرية “سبع سكور” في ريف الحسكة، تؤكد أن رحلة علاج ابنها الذي يبلغ عشر سنوات، من مرض الكوليرا لم تكن سهلة.
تضيف أم محمود أن المياه التي تأتي بالصهاريج إلى منزلها يكون لونها مختلفاً عن المياه العادية، كما أن طعمها مختلف عما اعتادت عليه قبل انقطاع مياه “علوك”.
يؤكّد طبيب الأمراض الداخلية محمد موصللي، من مدينة القامشلي، على تأثير مياه الصهاريج الملوثة على الأمعاء، سواء التهابات معدة وأمعاء أو داء الكوليرا، بخاصة في فصل الصيف.
وفي الوقت ذاته، يربط مدير صحة الحسكة الطبيب عيسى خلف، بين مياه صهاريج المياه الملوثة، بالإصابة بمرض الكوليرا، موضحاً أنّه ليس المسبّب الوحيد لكنه رئيسي، وقد تصل بعض الحالات المصابة إلى الموت في حال كانت في مرحلة متقدّمة.
وبحسب خلف، سُجِّلت حالتا وفاة من مرض الكوليرا، بسبب تقدّم الحالة كثيراً وعدم مراجعة الطبيب قبل اشتدادها.
تُشخَّص حالة الإصابة بمرض الكوليرا باستخدام جهاز كشف خاص بها، توزّعه وزارة الصحة على قطاع الصحة في المدينة، وإن كانت الحالات غير واضحة تُرسَل عينة إلى الوزارة لتشخيص الحالة، وتعتبر هذه الطريقة متبعة من غالبية المستشفيات في المدينة، حتى الخاصة منها، بحسب خلف.
من جانب آخر، سُجل ما يقارب من 2300 حالة إصابة بالكوليرا في الفترة الواقعة بين نهاية عام 2022 ومنتصف عام 2023 بحسب موظف في إحدى المنظمات غير الحكومية (رفض الكشف عن اسمه). وعملت هذه المنظمة على مشروع في مستشفى الشعب (الوطني سابقاً) الذي تديره الإدارة الذاتية.
يوضح الموظّف أن حالات الإصابة كانت غالبيتها بين الأطفال من عمر ست أشهر إلى السبع سنوات، وكانت حالات خفيفة تراوحت بين أ و ب، ولم تسجل المنظمة أو المستشفى طيلة فترة عمله، أي حالة وفاة، وكانت الإصابات تأتي بالعشرات إلى المستشفى من أحياء الحسكة المختلفة.
بين الكوليرا والتهاب الأمعاء
خلال زيارةٍ مركز اللؤلؤة الطبي الحكومي للحصول على الإحصاءات المتعلّقة بالأمراض المنتشرة في مدينة الحسكة، لاحظت معدة التحقيق عشرات حالات الإصابة بالإسهال الحاد بين الأطفال وبنسبة أقل بين البالغين، في الأشهر الستة الأخيرة من العام الماضي.
مدير صحة الحسكة يؤكد أن هذه الحالات شُخِّصت في ما بعد بالتهاب الأمعاء الحاد، وأن داء الكوليرا قد اختفى بشكل شبه كامل منذ نهاية عام 2022، ولم تشهد المدينة حالات وفاة من الكوليرا عام 2023 أو إصابات حادة بالمرض. لكن وبحسب خلف، فإن الحالات الخفيفة من الإصابة بمرض الكوليرا ما زالت موجودة، وتتفاقم في حال لم تُراقَب مياه الصهاريج بشكل دقيق وتُعقَّم من الأطراف المشرفة عليها كافة.
على رغم محاولات الحصول على أرقام الإصابات بمرض الكوليرا والتهاب الأمعاء الحاد في المدينة، إلا أنه تعذر الوصول الى الأرقام الدقيقة على مدار الأربع سنوات الفائتة، أي منذ قطع الجانب التركي المياه عن المدينة للمرة الأولى.
يتجنب أشخاص مصابون سابقاً بمرض الكوليرا نتيجة شرب مياه الصهاريج الملوثة، الحديث عن إصابتهم، ويفضلون تصنيفه كالتهاب أمعاء حاد، والذي لا يقل خطورة عن الأول، وهو ما أكدته إحدى المصابات بالكوليرا في صيف 2023 قائلة: “ثقافة العيب تمنعنا من التصريح بإصابتنا بالكوليرا، فهو مرض معدٍ وربما يتجنّب الناس معاملتنا، ناهيك بنظرة الشفقة منهم تجاهنا. نفضّل القول إننا أُصبنا بالتهاب الأمعاء”.
بحسب ممرض في مستشفى الشعب بمدينة الحسكة، فإن من أبرز الأعراض التي كانوا يلاحظونها على الأطفال تحت عمر العشر سنوات المصابين بمرض الكوليرا، والذين يُعتبرون النسبة الأكبر مقارنة بين الفئات العمرية الأخرى، كان الإسهال المائي حاد الذي يصل الى مرحلة الجفاف الشديد.
حصة النساء من الأمراض!
أصيبت أم إياد، 45 عاماً، تعيش في حي غويران في مدينة الحسكة، والتي تعتمد كسائر النساء بالمدينة بشكل شبه كامل على مياه الصهاريج الخاصة للشرب، بالالتهابات النسائية وظهور رمل في الكلية اليمين بجسدها، نتيجة شرب مياه هذه الصهاريج.
أم إياد لم تكن الوحيدة التي أصيبت بالتهابات نسائية وبظهور الرمل في الكلية، فختام التي تعيش في منطقة النشوة الغربية هي الأخرى تقول: “لم أكن أعاني من التهابات نسائية، سوى في آخر سنة، وارتفعت نسبة الرمل في جسدي، بعد اعتمادي وعائلتي على مياه الصهاريج الملوثة”.
ختام 23 عاماً، إلى لحظة كتابة هذا التحقيق، تعاني من آلام في الكلى، نتيجة حدوث نوبات ألم (كريزات) الرمل، وزيارتها للطبيب بشكل شبه دوري، و أكدت بدورها ما قالته طبيبة النسائية لها، على ارتباط المياه الملوثة بالأمراض النسائية بشكل كامل.
الطبيبة مروى، الاختصاصية في التوليد والأمراض النسائية التي تعمل في عيادتها بمدينة الحسكة، تؤكد ارتباط شرب المياه الملوثة ببعض الأمراض النسائية، منها الالتهابات النسائية المختلفة، وبعض النساء التي تزورها في العيادة بشكل يومي، يعانينَ من التهابات بولية أو رمل، موضحةً أن ذلك كله سببه الأساسي المياه الملوّثة وما تحتويه من بكتيريا وجراثيم.
لم تلحظ مدينة الحسكة قبل عام 2019، أي قبل انقطاع المياه المتكرر وشبه الكامل عن المدينة، من محطة “علوك”، انتشاراً للأمراض النسائية بشكل كبير، وكانت تقتصر الأمراض على الوضع الطبيعي وجسد كل امرأة، لكن عند لجوء النساء الى مياه الصهاريج الخاصة وغير معروفة المصدر في الغسيل والشرب، انتشرت هذه الأمراض.
قمنا باستطلاع مباشر مع 20 امرأة من مدينة الحسكة، عزباوات ومتزوجات، واللاتي أكدن على إصابتهنّ بالالتهابات النسائية، ويعود سبب ذلك الى اعتماد مياه الصهاريج الملوّثة في الاستحمام والشرب، مطالبات بإيجاد حل سريع لهذه المشكلة.
الصهاريج تنقل المازوت شتاءً ومياه الشرب صيفاً!
ينقل سائق الصهريج حسّان المياه يومياً من ريف الحسكة إلى منازل المدنيين، وهو واحدٌ من عشرات الصهاريج التي تعمل في مجال نقل مياه الشرب.
يقول حسّان: “مصدر المياه من قريتي الحمّة والنفّاشة، ويتم استجرارها هناك من آبار سطحية حفرها مدنيون واستثمروها، لذلك من المفترض أنّها صالحة للشرب، لأن آبار المياه لا يتم حفرها إلّا بموجب رخصة من الإدارة الذاتية، والرخصة لا تُمنح إلّا بعد فحص البئر والتأكّد من صلاحية المياه للشرب”.
لكنّه في المقابل، يوضح أنّه لاحظ أن المياه ليست صالحة للشرب تماماً، غير أنّها المصدر الوحيد للشرب، ويعمل هو في نقلها طالما أن الإدارة الذاتية أعطت هذه الآبار الموافقة، مشيراً إلى أن غالبية الصهاريج تعمل في نقل المازوت شتاءً ثم تنقل مياه الشرب صيفاً، بعدما يغسلون الصهريج في نهاية الشتاء. ولكن على رغم ذلك، تبقى آثار نكهة المازوت موجودة في الصهريج حتّى بعد غسله.
يضيغ حسّان أن سائقي الصهاريج لا يتلقّون أي مساعدة سواء من الحكومة أو الإدارة الذاتية أو المنظمات، باستثناء تزويدهم بالمازوت كل عشرة أيام مرّة، كما وضعت إحدى المنظّمات قبل ثمانية أشهر، نقاط كلور لتعقيم المياه، وكانت حينها خطوة جيدة.
أمّا عن الإجراءات ضد الصهاريج التي تنقل المياه والمازوت، فيقول: “في حال لم تكن نكهة المازوت واضحة بشكل كبير في المياه، ولم يتم تقديم شكوى، فلا أعتقد أن يُحاسب سائق الصهريج في هذه الحالة.
كما يلفت إلى أن تكلفة تعبئة صهريج مكوّن من 35 برميل مياه تقدّر بنحو 100 ألف ليرة، منها 60 ألفاً للمازوت و15 ألفاً للبنزين لتشغيل المولد و25 ألفاً لتكاليف منهل المياه.
هل المياه المعدنيّة بديل مناسب للصهاريج؟
تتوافر المياه المعدنية في مدينة الحسكة بشكل دائم وكميات كبيرة في أحياء المدينة كافة، وعلى رغم انتشار عبوات المياه المعدنية بأنواعها المختلفة، والتي ينصح بها الأطباء كمياه رئيسية للشرب، بخاصة لأولئك الذين أصيبوا بأمراض نتيجة شرب مياه غير معروفة المصدر، إلا أنها وبسبب ارتفاع أسعارها، يتجنب الكثير من سكان المدينة اعتمادها بشكل شبه كامل.
تقدّر العبوة الواحدة من المياه المعدنية بسعة لتر ونصف اللتر، بـ4500 ليرة سورية، أي ما يعادل الـ40 سنتاً من الدولار الأميركي، وهو يعتبر مبلغاً كبيراً جداً، بخاصة لغالبية سكان المدينة، الذين يعتمدون بدخلهم الشهري على الوظائف، أو الأعمال المياومة، والتي لا تتجاوز فيها يومية العامل/ة الـ10 آلاف ليرة سورية.
لا يقتصر تجنّب اعتماد المياه المعدنية على الطبقتين المتوسطة والفقيرة في المدينة، بل وبسبب استدامة أزمة المياه في المدينة وعدم معرفة موعد انتهائها، لا يفضّل أصحاب الدخل المرتفع أن تكون المياه المعدنية مصدراً رئيساً للشرب.
وعلى الجانب الآخر، يضطر بعض مرضى الكلى، أو ممن أصيبوا بأمراض كالكوليرا والتهاب الأمعاء، لشراء أكثر عبوة يومياً على الأقل للشخص الواحد، لتجنّب الإصابة مجدداً بأي نوع من الأمراض، وهو ما لاحظناه من خلال مقابلة المصابات بمرض الكوليرا سابقاً.
تقول ختام: “لا قدرة لي وزوجي على شراء المياه المعدنية، على رغم معرفتنا بضرورتها، ووصفها من جميع الأطباء لي، لكن أضطر للتوفير من لقمة عيش أطفالي لشراء مياه معدنية لي ولهم، الخبز لن يسبب لنا الكوليرا، المياه تفعل”.
وسط ارتفاع أسعار المياه المعدنية، يلجأ كثر من سكان المدينة الى غلي مياه الصهاريج قبل شربها، للتأكد من القضاء على أشكال الجراثيم كافة فيها، والحصول على مياه نظيفة وصالحة للشرب مئة بالمئة. كما وتتجنب بعض النساء مثل أم إياد، وبعد إصابتها بالالتهابات النسائية والرمل، الاستحمام بمياه الصهاريج أيضاً، إذ توصل المياه إلى درجة الغليان لتجنب تفاقم وضعها الصحي، أو إصابتها بأمراض أخرى.
ما الحل؟
بالتزامن مع عدم التزام بعض أصحاب الصهاريج الخاصة بتعقيم المياه المباعة لسكان مدينة الحسكة، تجنباً لاهتراء صهاريج المياه مع مرور الوقت، ودخول الكثير منهم من الشوارع الفرعية للمدينة لتجنّب الرقابة، وفي ظل اعتماد بعضهم على مصادر غير معروفة للمياه، وعدم الالتزام بالمعايير الصحية لتوفير مياه غير ملوّثة، وفحص جودة الصهريج من الصدأ، وفي ظل عدم وجود رقابة مشددة لصهاريج المياه و المناهل المستجرة منها بشكل مشدد من السلطات الموجودة في المنطقة، ومع استمرار أزمة المياه في مدينة الحسكة وعدم وجود بدائل مستدامة لها، إلى وقتنا هذا، ومعاناة الكثير من سكان المدينة من الأمراض المختلفة، أو هاجس الإصابة ببعضها، قاصدين المراكز والمستشفيات العامة والخاصة… انطلاقاً من ذلك كله، يقول الناشط الحقوقي والمدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد: “يجب على السلطات المحلية، والتي تعتبر صاحبة الدور الأساسي، تشديد المراقبة على مياه الصهاريج، ومعاقبة المخالفين والإشراف على توزيع المياه المأمونة لسكان المدينة كافة، وهو حق طبيعي من حقوق الإنسان”.
يشدد الأحمد على دور المنظمات العاملة في المنطقة في عملية التعقيم والمراقبة أيضاً، وتوفير المياه النقية لسكان مدينة الحسكة، كما يوضح أهمية دور الأمم المتحدة في محاولة تحييد مشكلة المياه الأساسية من محطة “علوك” عن السياسة.
وبالنسبة الى بيان وأمها، وعلى رغم شفائهما من مرض الكوليرا، أصبح خطر الإصابة مجدداً بالمرض هاجساً يرافقهما دائماً. تقول بيان: “كانت أسوأ أيام حياتي، وما زلت بين حين وحين أشعر بألم في المعدة، وأسارع الى الفحص خشية الإصابة بالكوليرا مرة أخرى، أتمنى أن يجدوا حلاً لمشكلة المياه في أسرع وقت”.
أُنجز هذا التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج.