محمد عبد المجيد – طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين – أوسلو
وضع جمال عبد الناصر والسيسي في ميزان ميري واحد فيه ظلم شديد.
خصوم الريّس يتهمونه بالعسكرة كلما أرادوا تصويب سهامهم للجيش، والحقيقة أن هناك مغالطة شديدة؛ فعبد الناصر لم يكن عسكريا كان أستاذا في الأكاديمية، وصاحب رؤية سياسية، وعلى نفس المستوي الفكري مع ديجول وإيزنهاور وكاسترو وبن جوريون ونهرو وتيتو وكينياتا وكينيدي يناقش، ويتباحث، ويكتب، ويقرأ، ويضع نظريات فلسفية منها فلسفة الثورة.
رغم كراهية الوفد والاخوان واسرائيل وأمريكا له، فقد كانت له وجهة نظر في المسرحية والرواية والعمل الأدبي ودول عدم الانحياز والقمم العالمية التي إذا حضرها توجهت عدسات الكاميرا نحوه حتى وهو يعاني مُرّ نكسه في مؤتمر الخرطوم بعد يونيو.
عبد الناصر كان ملاذ الأحرار والثوار ومقاومي الاستعمار من كوبا إلى جنوب أفريقيا ومن اليمن إلى الجزائر ومن العراق إلى بوليفيا، أما السيسي فحضوره أو غيابه يتساويان.
هبوط طائرة الريّس مطار نيودلهي أو دمشق أو عمّان أو أديس أبابا أو نيويورك أو أنقرة أو بلجراد أو نيقوسيا أو أثينا أو الخرطوم … كان يعني حدثا سياسيا واجتماعيا وشعبيا يحتل صفحات الصحف المحلية في البلد المضيف حتى يغادر، أما السيسي فتفتخر صحافة مصر الهشّة به إذا وقف خلف الرئيس الأمريكي أو استقبله موظف كبير رغم أنه جاء ومعه صحافته ومطبلوه والسحرة والراقصون على وقع تروس المطابع لنفخه كأنه بالونة.
عبد الناصر رغم نكسة 67 كان زعيما يسبقه اسم مصر في حلّه وترحاله، وتنتظره الملايين في البلد المضيف كالذين رفعوا سيارته في دمشق، وكان كما قال الرئيس الراحل حافظ الأسد: كنا كالأطفال، نتشاجر، ونتخاصم، ويضرب بعضنا بعضا، ثم نأتيه إلى القاهرة ليصلح بيننا فنجلس كالتلاميذ في حضرة مُعلمهم، ألم يكن أبو عمار والملك حسين على وشك رفع السلاح على بعضهما؛ فإذا بهما يقعدان كصبيين ينصتان للريّس بعد أن استدعاهما إلى القاهرة ليشُدّ أذنيهما: بلاش لعب عيال إنتَ وهو!
عبد الناصر كان يملك الجرأة لتقزيم التطرف الديني ويناقش قضايا الحجاب والاختلاط والفنون، ويرفض رفع دعاة الجهل الديني فوق مُنيري النهضة حتى في أحلك أوقات هزيمتها، والسيسي جعل المتطرفين والدواعش والطائفيين يتنفسون في عهده، وحارب الاخوان ليس لأنهم طائفيون؛ إنما لأنهم كانوا منافسين له رغم أنهم يمثلون قاعدة قام عليها تمزيق الوطن إلى دينيين ووطنيين، عبيد المرشد و.. المشتركين في وطن واحد من ناحية أخرى.
عبد الناصر كان يحمل في صدره عزة النفس المصرية، والسيسي كان مُعلــّـما للتسول؛ ففي عهده الأغبر لا يزور وفد مصري أو إعلامي أو ديني بلدًا ثريا إلا وطلب دعما لتثبيت فكرة المصري المتسوّل.
عبد الناصر كان يؤسس لأي مشروع من منظور قومي ووطني وشعبي، السد العالي مثلا، والسيسي كان يبني لنفسه، أكبر مسجد وأكبر كاتدرائية وأعلى برج وقناة سويس جديدة لا تضيف شيئا للبلاد.
عبد الناصر لم يكن يرفع مرتبات الأثرياء، قضاة ومستشارين وبرلمانيين ودبلوماسيين على حساب الفقراء، والسيسي يأخذ من الجيب المثقوب للفقير لتزداد ثروة اللصوص.
عبد الناصر لم يكن يفرط في شبر واحد من أرض مصر إلا بهزيمة عسكرية، والسيسي كتب مصر كلها باسمه ، أرضا وجوا وبحرا وجُزرا وحدودًا مع الجيران!
عبد الناصر كان إذا تحدث أسمع الدنيا كلها صوت مصر، والسيسي إذا تحدث خجل المصري منه!
عبد الناصر كان رغم فقر بلده ينجد الملهوف، ويقف بجانب الصديق، ويرسل جيشه ليحرر العمق الاستراتيجي لمصر ولو في أقصى الأرض، الكونغو، الجزائر، اليمن، بوليفيا..
والسيسي يشترط المال لينفقه على اللصوص، ويصنع به إعلام الجهلاء، ويبني به بيوتا لله، مع أنه عز وجل ليس في حاجة إليها، ويرفض أن ينفق على الفقير والمحتاج والمريض فلا مستشفيات جديدة ولا تثبيت أسعار الدواء، ويصم أذنيه عن صرخات المفجوعين من الغلاء، ولا يكترث لعلاج الأطفال مجانا.
عبد الناصر ليس كما يروجون عسكريا بيونيفورم، لكنه مفكر ومثقف وكان لا ينام قبل وصول الصحف اللبنانية المعارضة ليتابع أخبار الدنيا من سويسرا الشرق، والسيسي أجهل من علي عبد العال.
منذ رحيله والاخوان المسلمون والوفديون ودور النشر المظلمة والطائفية تحاربه؛ لكنها لم تستطع أن تشوه صورته في أذهان الفقراء والمساكين، أما السيسي فقد فتح الأبواب على مصراعيها ليدخل منها ممزقو الوطن من أحقر وأقذر وأعفن وأنتن دعاة دراكيوليين وجبناء يحلمون بأنهار جارفة من دماء غير المسلمين في شوارع أرض السلام.
الكاذبون من الإعلاميين يمسكون في خناق عبد الناصر لأي مصيبة، ويتركون مبارك وطنطاوي ومرسي وعدلي منصور والسيسي، فكلهم يحلمون بيوم إحصاء حساباتهم في مصارف تتبنى سرقة أموال الشعوب، لذا فلا يستطيع القضاء المتواطيء والفاسد أن يمس قرشا واحدًا من لصوص العصر.
عبد الناصر كان كبيرًا وفقيرا، والسيسي يكاد يُقسم أن يجعل المصريين شحاذين في عهده، فهو قزم مقارنة بــ( الريّس)، فيغض الطرف عن كل السرقات، وينفق من أموال المعوزين حتى أنه جعل سيارته تسير عدة كيلومترات فوق سجاد أحمر سخرت منه الصحف العالمية، فالرجل يشعر بنقص شديد.
كتبت في إحدىَ المرات عن عبد الناصر وقلتُ” المصريون يقتلون أبا خالد الذي لم يعرفوه:
مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي ما يزال بعض من أبنائها يتهكمون على ثورتها التي أنهت حكم أسرة محمد علي، ورحـَّــلـَـتْ بسلام ملك الخمر والنساء والأسلحة الفاسدة.
البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون والأمريكيون حاربوا عبد الناصر، فجاء بعض من أبناء شعبه يسخرون من هزيمته العسكرية أمام قوى الاستعمار الثلاثية
منعوا عنه السلاح، فلجأ إلى تشيكوسلوفاكيا عام 1955.
منعوا عنه تمويل السد العالي أملا في أن يغرق فيضانٌ مصرَ أو يموت المصريون من العطش، فلجأ إلى خروتشوف، وانتصب السد العالي، فغضب بعض من أبناء شعبه.
غدر بنا الإسرائيليون صباح الخامس من يونيو 1967 فأطلقوا عليها هزيمة رغم أن مصر لم تدخل الحرب.
تصادم مع حُكم المرشد وطمعِ الاخوان في السلطة، فصدرت عشرات المطبوعات تتحدث عن معتقلات ناصر.
أنقذ شعب اليمن من حُكم الإمامة المتخلف في 26 سبتمبر 1962 فقالوا بأنه مغامر متهور.
الغريب أن معظم الذين يهاجمونه تعلــَّــموا مجانا في مدارس بناها لهم، وحصل آباؤهم على عدة فدادين لئلا يقعوا تحت سوط الاقطاع.
فنون وآداب وموسيقى وجامعات ومعاهد عليا ومدارس …
كل هذا .. كل هذا.. كل هذا في أقل من ثمانية عشر عاماً وهو يحارب الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، في الجزائر وتونس والكونغو واليمن، فكل دولة يحتلها الاستعمار هي العمق الاستراتيجي لمصر المستقلة.
طعنوه في سبتمبر الأردني، وحاربوه في لبنان، وشدّوا من أزر الانفصاليين في سوريا، وفي كل شبر كانت الحرب قائمة ضد الريّس، ومع ذلك فبعض من أبنائه يتحدثون عن ( النكسة، والخيبة، والديكتاتور، وصديق صديقه، حتى طمي النيل جعلوه من سلبياته)
عبد الناصر أيها الراحل الكبير،
دعني أقدم لك الاعتذار، فبعض أبنائك الجاحدين لم يعرّفهم أحد عليك!
لم يشاهدوا السودانيين بملايينهم يخرجون لاستقبالك بعد هزيمتنا في يونيو ويقولون بأن ناصر رئيس لنا جميعا.
لم يشرح لهم أحد معنىَ الكرامة فعندما عندما علم أبو خالد أن السفير البريطاني جاء إلى القصر بدون موعد مسبق، غضب الريــّــس وقال لسكرتيره: إلطـعه(!) لمدة ساعة ثم اطلب منه أن يعود بعد أن يستأذن قبل اللقاء .. فهذه مصر.
وعندما علم أن ألمانيا ( الغربية ) تعامل المصريين معاملة سيئة طلب تفتيش كل ألماني غربي في المطار بطريقة مهينة، ووصل الأمر إلى وزارة الخارجية الألمانية ففهمت أن كرامة المصري من كرامة عبد الناصر، فاعتذرت وعادت المعاملة الطبيعية!
كان الكبار يفتخرون بالوقوف بجواره فقط ويحتفلون بمصافحته إياهم، نكروما، نهرو، لومومبا، جيفارا، كاسترو، أبو عمار، جومو كينياتا ومحمد علي كلاي ومئات من زعماء الدنيا..
كان يحب الفلاح الفقير ، ويحتضنه، ويمنحه عدة أفدنة، ويقسو على الإقطاع بسببه.
أغرقنا المدمرة إيلات في حرب الاستنزاف بعد هزيمة يونيو، وأعاد بناء جيشه في أقل من ثلاث سنوات ثم جاء قدر الله بعدما إنكسر قلبه في مذابح الأردن ضد الفلسطينين.
كان أهل بغداد على استعداد للاطاحة بأي نظام حُكم إذا طلب منه ناصر الخروج فورًا.
كان الرقيب يمنع رواية، فيأتي عبد الناصر ويقرأها ثم يأمر بنشرها.
كان موجوعا بسنوات الإستعمار، وعندما كان يطلب دعما ماليـًـا، فالبداية من كرامة مصر والمصريين.
كان محمد نجيب( الذي أحببته كثيرًا) هو الباب الذي سيؤدي إلى سيطرة الاخوان المسلمين على الحُكم، وكانت رتبته العسكرية هي التي أوصلت الضباط الأحرار إلى القصر، لكن دوره في التخطيط لقلب نظام الحُكم الملكي لم يكن رئيسيــًــا.
ينسى المصريون أنها ثمانية عشر عاما فقط، وأحداث جسام تثقل كاهل أي أمة لمئة عام، وصمد أبو خالد ولكن قلبه توقف.
أيها المصريون،
تخلصوا من آثار إعلام الاستعمار وتل أبيب والاخوان والوفديين والتيارات الدينية والأمريكيين وقاتلي آبائكم في 1956 وكراهية السادات لرئيسه.
نعم، سلبيات كثيرة، وقسوة في سجونه ضد الاخوان، لكنها فترة زمنية ستظل قطعة ثمينة وذهبية في تاريخ بلدنا فلا تقوموا بتشويهها؛ فالزمن الجميل، رغم تشوهات فيه، لا يعود مرة أخرى”
أعود إلى المقارنة التي تحتاج إلى آلاف الصفحات فعبد الناصر انهزم مرة واحدة على أرض يعشقها، والسيسي ما يزال يحكم أرضا يكرهها و.. يبغض أهلها.
كان المصري الذي يكره عبد الناصر يفتخر به أمام العالم، والآن يخجل المصري إذا شاهد السيسي يتحدث أو يشرح أو يسافر أو يُسْتــَـقْبــَـل أو يبيع أو يشتري أو يفلسف آراءَه العقيمة.
كثيرون يتناقلون إكليشهات عن عبد الناصر العسكري، وينسون أنه كان ضابطا في جيش وطني حارب الاستعمار فحمل عصاه ورحل، أما السيسي فيستجدي اسرائيل أن تحارب على أرضه ألفا أو ألفين من الإرهابيين!
نفخ المال والجبناء والكوهينيون واللصوص والسجّانون وكلاب مبارك وطنطاوي الرئيسَ المصري فجعلوه زعيما، ثم فيلسوفا، ثم حامل رسالة نبوية، والآن وصلت الغطرسة الفرعونية إلى مداها فأوحىَ الأوغادُ له أن يكون ندّا لله ،عز وجل، فيطلقون على مسجد ضرار ( الفتاح العليم) فيختلط الأمرعلى البسطاء، ويتساوى في أذهانهم المتواضعة الله، جل جلاله، مع المغرور المنتفخ فراغا.. السيسي.
عندما يقرأ أحفادنا التاريخ الحديث سنضطر للخروج من القبور، والبكاء والاعتذار على أننا كنا نشاهد مصر تُباع، وتتسول، وتنحدر، وتتراجع، وتتقزم ثم نحتفل بانتصار الكرباج على الوردة، ولقمة العيش الملوثة على الكرامة.
مئة عام وواحد منذ مولد الريّس ولم يتمكن السادات ومبارك وطنطاوي ومرسي والسيسي من محو صورة أبي خالد!