محمد يوسف – الجزيرة نت
9/6/2024|آخر تحديث: 11/6/2024
قاذفة استراتيجية أميركية من طراز بي-1 بي
يعلم الإسرائيليون تمام العلم أنهم ليسوا وحدهم،
إذ تُعَد دولتهم أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
ظُهر الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هبطت طائرة الرئيس الأميركي جو بايدن في مطار بن غوريون ليجد في انتظاره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. احتضن بايدن صديقه القديم نتنياهو حالما لمست قدماه أرض المطار. وفي وقت لاحق من هذه الزيارة التي استغرقت يومًا واحدًا، وبعد قصف الاحتلال للمستشفى المعمداني مباشرة، قال بايدن في خطاب للإسرائيليين: “لستم وحدكم”!
أمس السبت، تأكد الإسرائيليون والعالم بأسره أن دولة الاحتلال ليست وحدها بالفعل، رُغم أسابيع من الحديث عن التوترات بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وبين بايدن ونتنياهو. فما إن انتهى العمل على الجسر العائم لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة من جانب الولايات المتحدة وبدأ يباشر مهامه، حتى أعلن جيش الاحتلال تحرير أربعة أسرى في عملية عسكرية تمَّت بمساعدة استخبارية أميركية، وباستخدام غطاء مدني أميركي، حيث استُخدِمَت شاحنات مساعدات في العملية، كما شارك فريق من خبراء الاستخبارات الأميركية داخل دولة الاحتلال في توجيه وتنفيذ العملية. وقد أشارت مصادر عِدة، منها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، إلى احتمالية استخدام الجسر العائم في العملية، في خطوة يُمكن أن تنسف جهود الهُدنة الأميركية، وتُسقِط ورقة التوت الأخيرة عمَّا تبقى من مصداقية أميركية في تلك الحرب.
الإسرائيليون ليسوا وحدهم، وهُم يعلمون ذلك تمام العِلم منذ عقود، وإلا ما استطاعوا الاستمرار في معركتهم مع فصائل المقاومة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بل ومن قبلها مع شتى أشكال المقاومة الفلسطينية والتحركات العسكرية العربية منذ زمن الحرب الباردة. تُعَد دولة الاحتلال أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ووفقا للمؤشرات الرسمية الأميركية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدّمة من الولايات المتحدة لإسرائيل نحو 158.6 مليار دولار بين عامي 1946-2023. معظم المساعدات الأميركية لإسرائيل تصب في القطاع العسكري، التي بلغ حجمها في الفترة نفسها نحو 114.4 مليار دولار، إضافة إلى نحو 9.9 مليارات دولار للدفاع الصاروخي. أما عقِب عملية طوفان الأقصى، أخذ الدعم منحنى تصاعديا، ففي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وافق مجلس النواب الأميركي على طلب إدارة الرئيس جو بايدن بتخصيص “حزمة مساعدات غير مسبوقة” لإسرائيل بقيمة 14.3 مليار دولار.
لكن الدعم الأميركي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يشمل تدخلا مباشرا في مجريات الحرب على الأرض عبر دعم لا يلقى الاهتمام الإعلامي ذاته رغم تأثيره، ذلك أنه أحد أهم ركائز استمرار أي عملية عسكرية إسرائيلية، تمامًا كما أثبتت عملية تحرير الأسرى الإسرائيليين الأربعة بالأمس.
أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لطالما سوَّقت نفسها على أنها بمثابة عين وأذن الاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط (الأوروبية)
ماذا يحدث في الغرف المظلمة؟
من المعروف أن التنسيقات تجري في الكواليس بعيدا عن الأضواء في أجواء ترشح بالغموض، مع تغييب متعمد لأي توثيق معلوماتي، لكن الحرب على قطاع غزة أزاحت كثيرًا من الأستار، فنطق رجال الظل، ودُفع بالتعاون إلى أقصى مدى. وصلت مدَيات التنسيق بين الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية لتتجاوز العتبة الاستراتيجية، وتمتد نحو أرض التكتيكات والتفصيلات الميدانية التي عبَّدت الطريق أمام عمليات القصف والاغتيال المستمرة على مدار أكثر من 5 أشهر.
من أبرز مظاهر هذا التعاون كان استخدام ثقل سمعة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية من أجل تقديم غطاء لأفعال الجيش الإسرائيلي الإجرامية وتبريرها؛ تم ذلك على إثر تقديم تلك الجهات الأميركية معلومات تبيَّن أنها مضللة، في سبيل استباحة مستشفيات القطاع. أشهرها عملية اقتحام مستشفى الشفاء بدعوى “وجود نقطة قيادة ومراقبة للمقاومة الفلسطينية داخل المستشفى”، وفقا لمعلومات استخباراتية أعلنها البنتاغون رسميًا وكشفت إدارة الاستخبارات الأميركية السرية عنها. وهذا ما أشار إليه “مارك بوليميروبولوس”، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، حيث قال إن “الولايات المتحدة رفعت السرية عن هذه النتائج لأن الهدف الواضح منها هو منح متنفَّس لإسرائيل”، خاصة بعد الغضب العالمي بسبب حصار جيش الاحتلال للمستشفى.
بالطبع ثمة أسس عميقة قديمة سبقت هذا التطور التنسيقي الحالي، فأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لطالما سوَّقت نفسها على أنها بمثابة عين وأذن الاستخبارات الأميركية في الشرق الأوسط. قبل مجيء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كان التبادل المعلوماتي بين جهازي الاستخبارات الأميركي والإسرائيلي مقتصرا في الأغلب على الجانب الإستراتيجي لا التكتيكي التفصيلي، وهذا ما أكده مسؤولون أميركيون لصحيفة “وول ستريت جورنال”، حيث أوضحوا أن وكالات الاستخبارات الأميركية توقفت عن التجسس على حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية في السنوات التالية لهجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، وأنها وجَّهت مواردها لملاحقة قادة تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة الإسلامية لاحقا.
لكن السنوات القليلة الماضية، وخاصة في ظل إدارة ترامب، شهدت تزايدًا في مستوى التنسيق والاتصال بين أجهزة الاستخبارات، وتعمَّقًا في التعاون الأمني الأميركي الإسرائيلي، لا سيَّما مع توجه اهتمام الإدارة الأميركية السابقة نحو مواجهة إيران وشبكاتها في المنطقة، وهو ما توِّج بتنسيق عالي المستوى على صعيد بعض العمليات الأمنية المحدودة بين واشنطن وتل أبيب داخل إيران، والتي لعب فيها التبادل المعلوماتي دورا بارزا. لذلك، عندما وقع الهجوم على غزة كان المسرح مُهيَّئا للدعم والتنسيق بين مؤسستي الاستخبارات في واشنطن وتل أبيب، وبات الجهازان بمثابة جهاز واحد فيما يتعلَّق بمجابهة المقاومة الفلسطينية وحلفائها.
واشنطن تُرقِّي حماس للمستوى الثاني!
تحدَّث “مايك تِرنر”، عضو الحزب الجمهوري ورئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأميركي، في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي عن ملامح المرحلة الجديدة من التعاون الاستخباراتي الأميركي الإسرائيلي في حوار مع برنامج (Face the Nation)، وسرد بعضًا من التفاصيل فيما يتعلق بمشاركة المخابرات الأميركية في العمليات الإسرائيلية أثناء الحرب الحالية على قطاع غزة، مؤكدا أن “الولايات المتحدة تساعد في تحديد مواقع قيادات حركة حماس”، وأن وكالة الاستخبارات الأميركية تعمل عن قرب مع دولة الاحتلال لسد بعض الفجوات الواضحة لديهم.
في يناير/كانون الثاني الماضي، أكد مسؤولون أميركيون لصحيفة نيويورك تايمز، أن وكالة الاستخبارات المركزية أنشأت فرقة عمل خاصة جديدة بعد عملية طوفان الأقصى لجمع معلومات عن كبار قادة حماس، ومواقع الرهائن في قطاع غزة، ثم أخذت تقدم تلك المعلومات الاستخباراتية مباشرة لدولة الاحتلال. وقد أوضح المسؤولون للصحيفة أن الولايات المتحدة رفعت من درجة أولوية حركة حماس إلى المستوى الثاني، ورفع مستوى الأولوية معناه توفير تمويل إضافي لجمع المعلومات الاستخباراتية، مع أن حركة المقاومة الفلسطينية لا تشكل أي تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة أو مصالحها المباشرة في الشرق الأوسط.
قبل عملية طوفان الأقصى، كانت حماس أولوية من المستوى الرابع، ما يعني تخصيص موارد أقل لجمع المعلومات الاستخباراتية حولها، ولكن منذ بداية الحرب رُفِعت درجة الأولوية إلى المستوى الثاني. أما المستوى الأول، الذي يستحوذ على أغلب الموارد الاستخباراتية، فهو مُخصص للأعداء المباشرين ممن يُمكن أن يُشكلوا تهديدًا مباشرًا أكبر للولايات المتحدة ومصالحها، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران.
يعني هذا أن الولايات المتحدة تشارك بكل ما تملك من عتاد ومعلومات استخباراتية لدعم دولة الاحتلال في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، ويعني أيضًا أن أحداث طوفان الأقصى أجبرت أجهزة الاستخبارات الأميركية على التدخل بنفسها، بعد الفشل الاستخباراتي للأجهزة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بحركة حماس، التي كانت مسؤولية جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”، ولذا تسعى أميركا الآن لتقديم عمليات دعم استخباراتي تكتيكي واسعة لصالح إسرائيل.
فمثلًا، سارع الجيش الأميركي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بإضافة المزيد من محللي الاستخبارات في مقر القيادة المركزية الأميركية لمتابعة الوضع في فلسطين المحتلة، عبر إعادة تكليف المحللين المسؤولين عن متابعة التنظيمات المسلحة، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، إلى بدء مراقبة التطورات وجمع المعلومات عن الحرب في قطاع غزة، وذلك وفقا لما ذكرته صحيفة “تايم” عن مصادر على دراية بتلك التغييرات، وهي مصادر اشترطت عدم الإفصاح عنها. ووفقا لأحد تلك المصادر، كان المسؤولون في القيادة المركزية، التي تشرف على آلة الحرب الأميركية في الشرق الأوسط، قد خفَّضوا عدد محللي الاستخبارات المدنية المُكلفين بمراقبة مجريات الصراع بين الاحتلال والمقاومة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وأن مَن بقي من المحللين وجَّه تركيزه أكثر على الضفة الغربية، وفهم سياسة حكومة دولة الاحتلال، مقارنة بمتابعة الأوضاع في قطاع غزة.
إسرائيل عاجزة عن خوض معركة المعلومات وحيدة
من أمثلة المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأخيرة كانت سلسلة من التقارير التحليلية التي أجرتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وحذَّرت إسرائيل من ارتفاع ملحوظ في مصداقية وتأثير حركة المقاومة الإسلامية حماس داخل وخارج الشرق الأوسط على مدار الأشهر الماضية، وتحديدًا منذ عملية طوفان الأقصى، ثم مع بداية العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة. وقد ذكرت التقارير أن “حماس نجحت في تقديم نفسها بوصفها حركة المقاومة المسلحة الوحيدة التي تقود حربًا على الطاغية المتوحش الذي يقتل الأطفال والنساء”، وربما ما يمكن استنتاجه أن هذه المعلومة مهمة ومؤثرة على السردية الإسرائيلية، وقد تعني خسارة دولة الاحتلال للمعركة المعلوماتية الأهم في الحرب الجارية وفي المستقبل على المدى البعيد.
لكن ماذا يعني أن تكون المساعدات الاستخباراتية الأميركية المقدمة لإسرائيل في حرب غزة ذات توجه استخباراتي تكتيكي؟ يعني أن الدعم المقدم هو من النوع الذي ينبني عليه أعمالا قتالية، وتُسمَّى تلك الاستخبارات بالتنفيذية أو الفعَّالة (Actionable Intelligence)، وهو مصطلح يشير إلى المعلومات المفيدة والمهمة التي تساهم مباشرة في العمليات العسكرية على الأرض، مثل تحديد أهداف الاغتيالات وأهداف القصف بالضربات الجوية، والمساعدة في البحث عن الرهائن، واستخبارات الإشارات. كل هذا بجانب عمليات الاستطلاع المختلفة، التي تنفذها طائرات أميركية، لجمع المعلومات ومساعدة أجهزة المخابرات الإسرائيلية. هذا النوع من المعلومات محدد أكثر ويملك تأثيرًا فوريًا عند مقارنته بالمعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأوسع التي ترتبط أكثر بصُنَّاع القرار على المدى الطويل.
تشمل المعلومات الاستخباراتية التكتيكية معلومات لتحديد أهداف القصف على سبيل المثال، حيث يستخدم جيش الاحتلال أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل نظام “غوسبِل”، لتحديد أهداف القصف داخل قطاع غزة، كما يستخدم المدفعية الثقيلة في عمليات القصف بعيدة المدى. ويحتاج القصف الإسرائيلي إلى معلومات استخباراتية مُسبَقة تشاركها القوات الجوية الأميركية، بعدما أرسلت ضباطًا متخصصين في هذا النوع الدقيق من الاستخبارات إلى إسرائيل في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وذلك وفقًا لوثيقة خاصة بقانون حرية تداول المعلومات أشار إليها موقع “ذي إنترسِبت” (The Intercept). ويذكر الخبراء أن فريقًا من الضباط بهذا التخصص سيوفر معلومات استخباراتية عبر الأقمار الاصطناعية للاستهداف داخل غزة.
مثال آخر هو عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات ومشاركتها مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية. ففي بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، نقلًا عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية، أن الجيش الأميركي كان يحلق بطائرات استطلاع مُسيَّرة فوق قطاع غزة، وأن الهدف كان البحث عن الرهائن المُحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، وكما أشارت الصحيفة فإنها “خطوة غير مسبوقة، ما يشير إلى انخراط أجهزة المخابرات الأميركية أكثر مما كان معروفا في السابق”.
ألفُ عين في سماء غزة
لا يمكن معرفة تفاصيل الدعم الاستخباراتي التكتيكي الذي تقدمه واشنطن بالكامل، لكن يمكننا البحث ومحاولة استنتاج أنواعه المختلفة ومدى ضخامته في الحرب الحالية على قطاع غزة. وهنا أمدّتنا وكالة “سند” للتحقق والرصد الإخباري بشبكة الجزيرة، بمجموعة من التحليلات والمعطيات الهامة، إذ وبعد تحليل بيانات ملاحية لما يزيد عن 2600 رحلة عسكرية، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى 15 يناير/كانون الثاني الماضي، حصلت عليها وكالة سند من موقع “رادار بوكس” (Radarbox.com)، أظهرت البيانات أن نحو 230 رحلة نقل عسكري توجهت إلى إسرائيل بالإضافة إلى 360 رحلة إلى القواعد العسكرية في قبرص واليونان وإيطاليا بإجمالي يتجاوز 600 رحلة شحن عسكري.
أما الدعم الاستخباراتي الجوي فتمثل في رحلات الاستطلاع، التي توفر المعلومات الاستخباراتية لأجهزة المخابرات، وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أشارت إلى أن جهاز الاستخبارات الأميركي كثَّف جهوده لجمع المعلومات عن حركة حماس عبر زيادة وتيرة رحلات الاستطلاع بالطائرات المُسيَّرة في سماء القطاع. وقد حلَّلت وكالة سند نحو 1100 رحلة استطلاع، نفذت معظمَها القوات الجوية الإسرائيلية بنحو 800 رحلة، في حين نفذت القوات الملكية البريطانية 150 رحلة، والقوات الجوية الأميركية نحو 110 رحلة، وهي بالطبع الرحلات التي ظهرت على الرادار، إذ يمكن أن يكون الرقم أكبر لأن هناك رحلات استطلاع كثيفة للقوات الأميركية لا تظهر على الرادار.
وهذه مجرد أمثلة بسيطة عن المعلومات المتاحة حول تلك الرحلات، لأن تتبُّعها معقّد ويحتاج إلى مجهودات وخطوات مختلفة. سنحاول أن نفهم الكيفية التي تتبعنا خلالها مسار رحلات طائرات الاستطلاع فوق قطاع غزة. الخطوة الأولى في هذه العملية تتضمن تحديد منطقة الاهتمام والفترة الزمنية لرصد تلك رحلات فوقها، مثل اختيار القواعد العسكرية القريبة من قطاع غزة، التي تنطلق منها رحلات الدعم العسكري. فمثلًا يظهر عدد كبير من تلك الرحلات في القواعد العسكرية في قبرص واليونان وإيطاليا، وفي مقدمتها القاعدة البريطانية الأشهر “أكروتيري” (Akrotiri) في جزيرة قبرص، بجانب مطار “خانيا” الدولي بجزيرة كريت اليونانية. وفي الخطوة التالية، يعمل الفريق على جمع البيانات الخاصة بتلك الرحلات الجوية عبر التعاون مع مواقع متخصصة، مثل موقع “رادار بوكس” الذي يوفر قائمة بكل الطائرات التي أقلعت أو هبطت بتلك المنطقة في الفترة الزمنية المحددة.
ثم يفرز الفريق ويُصنِّف تلك البيانات للتأكد من صلتها وارتباطها بالملف الذي نحاول دراسته وفهمه، وفي حالتنا هو التركيز على رحلات الدعم العسكري ورحلات الاستطلاع. وبعد جمع البيانات، يأتي دور أدوات تحليلها، التي تساهم في استخراج رؤى ومعلومات قيمة حول هذه الرحلات. إذ تساعد عملية تحليل البيانات في وصول الفريق لمعلومات تفصيلية مثل عدد الرحلات والجهات المشغلة لها، بجانب أنواع الطائرات، وغيرها من التفاصيل المهمة التي تساعدنا في فهم طبيعة تلك الأنشطة الجوية في سماء قطاع غزة. ثم تأتي الخطوة الأخيرة بالتحليل الجغرافي لمسارات الرحلات باستخدام برامج نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، الذي يساعد في تحديد الأماكن التي مرت بها الطائرات، بالإضافة لتمثيل تلك الرحلات بصريًا على الخرائط، كما يظهر في الصور السابقة.
هل طائرات واشنطن في خدمة الإبادة؟
كما ذكرنا، توفر لنا البيانات معرفة أنواع الطائرات التي تستخدمها القوات الأميركية في رحلات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية، ومنها يظهر اعتماد القوات الأميركية على عدد من الطائرات بقدرات ومواصفات مختلفة، وأهمها طائرة الدوريات البحرية متعددة المهام “بوينغ بي 8 بوسيدون” (Boeing P-8 Poseidon)، التي تتميز في العمليات المضادة للغواصات، وتستخدم بالأساس في مهام جمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاع والبحث والإنقاذ. وبإمكان الطائرة التحليق على ارتفاع يصل إلى حوالي 12 ألف متر وبسرعة 907 كيلومتر في الساعة، ما يسمح لها بالاستجابة السريعة والتغطية الفعالة أثناء تنفيذ العمليات العسكرية.
يوجد أكثر من 166 طائرة من هذا الطراز في الخدمة، وبعدد ساعات طيران تخطى 560 ألف ساعة عالميًا قدمت الدعم للقوات البحرية لعدة دول. وتأتي طائرة “بوينغ بي-8” بنموذجين مختلفين، وهما النموذج المتخصص “بي-8 آي” التابع للبحرية الهندية، والنموذج “بي-8 بوسيدون” الذي تستخدمه البحرية الأميركية وسلاح الجو الملكي البريطاني والأسترالي والنرويجي والقوات الجوية الملكية النيوزيلندية. وقد صُمِّمت الطائرة لتعمل في الخدمة على مدار 25 عامًا أو 25 ألف ساعة طيران في البيئات والظروف البحرية القاسية.
تستخدم القوات الأميركية أيضًا طائرة أخرى من شركة بوينغ في عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية وهي طائرة “بوينغ آر سي 135” (Boeing RC-135)، وهي ضمن عائلة طائرات الاستطلاع الكبيرة لدى القوات الجوية الأميركية، إذ يبلغ طولها نحو 41 مترا، ويبلغ طول جناحيها 40 مترا، ويصل ارتفاعها إلى 12.7 مترا. وتعمل الطائرة بأربع محركات، ويمكن أن يصل عدد أفراد طاقمها إلى 27 فردًا، وتصل سرعتها القصوى إلى 933 كيلومتر في الساعة، ويمكنها التحليق على ارتفاع يصل إلى 15 ألف متر.
بدأ استخدام “بوينغ آر سي 135” عام 1964، وتطورت على مدار السنوات التالية لتعزيز قدراتها، وقد أُنتِج منها عدد من النماذج المتخصصة، المجهزة بأنظمة استشعار متطورة لجمع وإرسال المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي. على سبيل المثال، يوفر النموذج (RC-135V/W Rivet Joint) استخبارات الإشارات، ويقدم نموذج (RC-135U Combat Sent) جمع المعلومات الاستخباراتية الإلكترونية.
وتستخدم القوات الأميركية كذلك الطائرة المُسيَّرة “آر كيو 4 غلوبال هوك” (RQ-4 Global Hawk)، وهي من أهم طائرات الاستطلاع لدى الجيش الأميركي. وقد بدأ تطوير المُسيَّرة عام 2001، مع تطوير نُسَخ أحدث على مدار السنوات التالية، وتتولى شركة “نورثروب غرومَّان” (Northrop Grumman) إنتاجها، ويدير المشروع وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة “داربا” DARPA. ويمكن للمُسيَّرة الطيران بسرعة 574 كيلومترا في الساعة، على ارتفاع 18 ألف متر ولمدة تصل إلى 34 ساعة، وبهذا تغطي مساحات جغرافية واسعة، وهي مزودة بمستشعرات مختلفة للاستطلاع والمراقبة في مختلف الأجواء بما يشمل التغطية المستمرة بالتصوير في الوقت الفعلي، واستخبارات الإشارات، وإمكانية تحديد الأهداف المتحركة.
أما المُسيَّرة الأشهر والأقوى لدى القوات الأميركية فهي “إم كيو-9 ريبر” (MQ-9 Reaper)، التي تتميز بقدرتها على حمل أسلحة منها صاروخ AGM-114، والقنبلة الموجهة بالليزر GBU-12 Paveway II، وذخائر من طراز GBU-38. وتوصف “ريبر” بأنها من أهم المُسيَّرات في الأسطول الأميركي وإحدى مقومات قوته، ويمكنها الطيران لمسافة 1850 كيلومترا، دون التزود بوقود إضافي، ويمكنها أيضًا تنفيذ مهام متعددة على ارتفاعات متوسطة، وهي مجهزة بنظام رادار ينقل البيانات لعدد من الطائرات أو المواقع الأرضية. كما تستطيع “ريبر” اعتراض الاتصالات الإلكترونية المنبعثة من أجهزة اللاسلكي والهواتف الخلوية، وتلعب دورا محوريا في عمليات الاغتيال والاعتقال. وقد استخدمها الجيش الأميركي في المهام الاستخباراتية وجمع المعلومات، قبل أن يطورها ويستعملها في ضرب الأهداف وقصفها، بعدما بدأ يستخدم طائرة “آر كيو-4 غلوبال هوك” للمراقبة وجمع المعلومات.
الدعم الأميركي غير المشروط مستمر لإسرائيل، لأن الأصوات الأقوى في الحكومة الأميركية لا تزال تُصِر على استمرار هذا الدعم (رويترز)
دعم غير مشروط، رغم أنف الجميع
أثار كل هذا الدعم الأميركي غير المشروط حفيظة عدد من المسؤولين الأميركيين أنفسهم، وتصاعدت أصوات تطالب بأن يخضع هذا الدعم للرقابة. وقد أشار “براين فونيكين”، المستشار في البرنامج الأميركي التابع لمجموعة الأزمات الدولية ICG، إلى أن الدعم الاستخباراتي “قد يثير من المخاوف والقلق أكثر مما قد يفعل الدعم العسكري التقليدي، خاصة المعلومات التكتيكية التي تشاركها المخابرات الأميركية مع نظيرتها الإسرائيلية، مثل تحديد أهداف القصف وعمليات الاستطلاع المختلفة”. ويرى كذلك بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي أن المساعدات العسكرية لا يجب أن تستمر دون شروط، بعدما اقترح أكثر من عشرة أعضاء بالمجلس من الحزب الديمقراطي تعديلاً على مشروع قانون لفرض شروط على المساعدات العسكرية الأميركية للكيان الصهيوني.
تمتلك الولايات المتحدة الأدوات اللازمة للضغط على إسرائيل بما يتجاوز مجرد التصريحات التي يُدلي بها المسؤولون، ولعل أدوات الضغط تمكنها من إنهاء الحرب في قطاع غزة إذا توفرت الإرادة. فيمكن لواشنطن مثلا فرض رقابة على المساعدات العسكرية، أو التوقف عن الدفاع عن دولة الاحتلال في الأمم المتحدة، أو إيقاف المساعدات الاستخباراتية التي تقدمها أثناء الحرب، حتى أن بعض نواب الكونجرس الديمقراطيين اقترحوا مشروع قانون للحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل، لكن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفضت بشدة كل هذه التحركات.
ولذا، فإن الدعم الأميركي غير المشروط مستمر لإسرائيل، لأن الأصوات الأقوى في الحكومة الأميركية لا تزال تُصِر على استمرار هذا الدعم. لعل إسرائيل لم تصبح بَعْد العبء الذي يُثقِل كاهل الولايات المتحدة كقوة كُبرى إقليميا ودوليا، غير أن وصولها إلى هذه المرحلة يقترب يوما بعد يوم أكثر من أي وقت مضى.
المصدر : الجزيرة