رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي
مايو 7, 2023
نظرة تحليلية … مأزق الأيدولوجيا وامتحان السلطة 1/8
مدخل عام
منذ الاستقلال، وحتى اليوم، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي ظاهرة من أضخم وأعقد الظاهر في الحياة العربية عموما، وفي حياة المشرق العربي على وجه الخصوص، وأيا ما كان الموقف الختامي من تاريخ هذا الحزب فإن التعرض له يجب ان يتسم بالكثير من الحذر، والدقة، وبما يتناسب مع الدور الذي لعبه وما زال يلعبه في حياتنا، وبما يتناسب أيضا مع الدروس الغنية التي لابد من استخلاصها من هذا التاريخ.
وإذا كان مهما أن ننظر في المآل الذي وصل إليه هذا الحزب، وأن نصل إلى حكم قيمي عليه، فإن الأهم من ذلك أن نعي ما جسده هذا الحزب في كل مرحلة من المراحل التي مر بها، وأن نضع أيدينا على المفاصل الحقيقية في حياته، هذه المفاصل التي حولته من مشروع أداة قومية تنظيمية تتطلع إلى الوطن العربي كله، وتنظر إلى بعث هذه الأمة لتعاود حركتها الحضارية، موحدة قوية، متميزة، على جزء من النظام العربي القائم، بما في هذا النظام من أمراض على مستوى التطلع، وعلى مستوى البنية الداخلية، والقوى التي يمثلها ويستند إليها، وعلى مستوى التعامل مع الجماهير وقطاعاتها.
قبل فترة من مقتل الأستاذ صلاح البيطار غيلة في باريس كان قد أدلى برأيه في تاريخ الحزب حينما قال: إن الحزب قد افتقد وحدته بعد قرار حله، وما عادت لقيادته القومية سيطرة فعلية على أجهزته، وبالتالي فإن الحزب لا يتحمل مسؤولية التاريخ اللاحق لهذا الحدث، وكان يقصد بذلك التعقيدات التي رافقت مسار الحزب وسلوكه منذ التحضيرات لانقلاب 8 آذار / مارس 1963، والتطورات التي جاءت بعد ذلك حتى 23 شباط / فبراير 1966، حين اقصيت” القيادة القومية” عن السلطة في سوريا، وعن حزب البعث فيها، وتم أول انقلاب ناجز على قيادة الحزب التاريخية، وعلى جزء مهم من تاريخه، من داخل الحزب نفسه.
وقبول هذا الرأي يعني أن تاريخ الزب الموحد لا يتجاوز السنوات العشر، وبعد ذلك فإن الطرق تتشعب، والآراء تختلف وتتباين، ولكننا نعتقد أن هذا الراي فيه الكثير من الذاتية، وهو قاصر عن الإمساك بالأسباب الحقيقية للأحداث التي اختتمت بإقصاء القيادة المؤسسة، وفي إطار رؤية تاريخ هذا الحزب نحن مدعوون إلى مناقشة هذا الرأي وتمحيصه لنرى مقدار الموضوعية والذاتية فيه.
في مقابل هذا الرأي فإن القيادات الجديدة للحزب بدءا بانقلاب 23 شباط / فبراير 1966 نعتت القيادة المؤسسة ومن يقف معها باليمينية، وبالمواقف الانتهازية، وبالتخلي عن أخلاقيات الحزب، وقامت تنتقد محطات معينة في تاريخ الحزب، وأيضا فإن هذا التوصيف لمؤسسي الحزب وواضعي خطه السياسي والايديولوجي، ولطبيعة هذا انقلاب شباط / فبراير وهدفه يحتاج إلى وقفة نقدية جادة، وقفة تحاول أن ترصد حقيقة ما كان يجري داخل الحزب، وصلته ببنية الحزب، وتطوره، ومكانته من تعبيرات اليمين واليسار التي درج الحزبيون على استخدامها في صراعاتهم.
إننا ونحن نحاول أن نتملك رؤية عامة لحزب البعث العربي الاشتراكي لا نستطيع أن نقف على كل جزئيات تاريخه وأفكاره، فضلا عن كون ذلك يخرجنا عن هدفنا في تلك رؤية واضحة لهذا الحزب لا تضيع معالمها بتراكم التفاصيل والجزئيات، يحتاج إلى بحث أوسع مدى مما يحتمله هذا العرض الإجمالي، لذلك سوف نعمد إلى الوقوف على ما نراه قضايا أساسية، إشكاليات، في تاريخ هذا الحزب، وفكره. ووفق هذا الأسلوب فنحن ولا شك نختار من وقائع كثيرة، وأحاديث كثيرة ما نعتقده مساعدا لنا في تملك هذه الرؤية.
وإذا كان الاختيار يعكس موقف الباحث والقارئ على السواء ـ وهذا طبيعي وإنساني ـ فإننا في عملنا هذا ننطلق من افتراضات عامة نعتقد أن هناك استقرارا حولها لدى كل المهتمين بتاريخ هذا الحزب ومساره، هذه الافتراضات هي:
1 ـ منذ زمن طويل وجدت داخل حزب البعث أزمة عامة تجاه ” القيادة التاريخية”، أزمة تجعلها في موضع الشك، قدرة، وأهلية على المستويين السياسي والعقائدي.
2 ـ فشل حزب البعث كحركة قومية في إقامة بنيان لنظريته القومية على أرض الواقع العربي، سواء تجسد هذا البنيان في نظام سياسي عربي موحد ” وحدة جزئية أو كلية”، أو كان تجسده في تنظيم قومي واحد.
3 ـ إن استلام حزب البعث للسلطة في أي من البلدين: سوريا أو العراق، كان امتحانا عسيرا للحزب على كافة المستويات، لم يخرج منه بحصيلة إيجابية حتى اليوم، وقد يرى بعثيو العراق أن هذا التوصيف يصدق فقط على بعثيي سوريا، وقد بعثيو سوريا الأمر عكس ذلك، لكن ما يهمنا نحن أن هذه الفرضية قائمة بغض النظر عن الاحالات الحزبية لها.
وإذا كانت هذه الافتراضات صحيحة، فإن ما نحاول القيام به هو الكشف عن دواعيها في تاريخ الحزب، وفي فكره، ووفق هذه الافتراضات ستأتي وقفتنا على تاريخ الحزب وفكره.
أولا: حقائق في التاريخ الموحد للحزب
حتى قرار حل حزب البعث العربي الاشتراكي، القرار الذي ترافق وإعلان الوحدة السورية ـ المصرية، أو حتى إعادة بناء فرعه في سوريا عقب الانفصال، فإن حزب البعث كان حزبا واحدا، ومن هنا نستطيع أن نقول إنه يملك تاريخا موحدا، ورغم أن هذه الفرضية فيها الكثير من التجاوز، فإننا سوف نعتمدها.
في هذا التاريخ الموحد للحزب تبرز أمنا عدة حقائق:
الحقيقة الأولى: التي يستطيع أن يركن إليها الباحث أن القيادة التاريخية للحزب قد انتهى وضعها المميز داخله على مستوى سوريا، وعلى المستوى القومي، في اليوم الذي قررت فيه الصدام مع دولة الوحدة، ومع جمال عبد الناصر، وغذا كان البعض يعتقد أن هذه الحقيقة قد ظهرت على السطح في سوريا من خلال حركة شباط / فبراير 1966، فإن الحقيقة ظهرت قبل ذلك بكثير، فعلى مستوى سوريا والعراق والأردن ولبنان، فإن هذه القيادة دفعت لتأخذ موقعا هامشيا وشكليا في حياة الحزب منذ بداية الستينات، واستمرت في هذا الموقع ، وسوف تلاحظ هذه الحقيقة ونحن نتابع البحث في فرضياتنا.
الحقيقة الثانية: التي لا خلاف عليها أن هذه القيادة التاريخية سواء تمثلت بالسادة: ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، أو أضيف لهما أكرم الحوراني، قد وقف أعضاؤها كل بمفرده مواقف تتنافى وشعارات الحزب، وما كان يعلن من أخلاقية، ونضالية، لا يستثنى منهم أحد.
ـ في عهد ديكتاتورية حسني الزعيم*، ودونما مبرر فعلي ـ غير الاعتقال ت وجه مؤسس الحزب وقائده ، وأبوه الروحي، ميشيل عفلق رسالة إلى هذا الديكتاتور يعلن فيها ولاءه لهذا الحكم، وخطأ السياسة التي دفع الحزب الى السير فيها وأدت الى الصدام مع السلطة، ويوصيه خيرا بأبنائه ـ أعضاء الحزب ـ ويتعهد بترك العمل السياسي ، والاعتزال بعد أن اثبتت الأحداث أن أسلوبه لن يعد صالحا ولا نافعا لا للحزب ولا للوطن، وبعبارات مؤسس الحزب**: ” إنني قانع كل القناعة بأن هذا العهد الذي ترعونه ، وتنشئونه، يمثل أعظم الآمال، وإمكانات التقدم والمجد لبلادنا، فإذا شئتم فنكون في عداد الجنود البنائين، وإذا رغبتم أن نلتزم الحياد والصمت فنحن مستعدون لذلك….
سيدي دولة الزعيم، إن هذه المجموعة من الشباب الذي يضمها البعث العربي قد عملت كثيرا في الماضي لتكون قدوة في النزاهة والوطنية الصادقة، وإن ماضيها يشفع لها عندكم يا سيدي، لكي تعذروا ما ظهر منها من تسرع بريء، وإن وراء
* قاد أول انقلاب عسكري في سوريا، واستمر حكمه من 30 أذار / مارس 1949، حتى 14 آب / أغسطس 1949، وعقب الإطاحة به بانقلاب قاده سامي الحناوي أعدم الزعيم في هذا التاريخ.
** مصطفى الدندشلي: حزب البعث العربي الاشتراكي، 1940 ـ 1963 الأيديولوجيا والتاريخ السياسي، ص 130، ترجمه عن الفرنسية يوسف جباعي، طبعة أولى 1979
مظهرها النزق نفوسا صافية، ومؤهلات ثمينة للخدمة العامة، وما أجدر عهدكم أن يفسح لها مجال التفتح والإنتاج.
وأما أنا يا سيدي الزعيم فقد اخترت أن أنسحب نهائيا من كل عمل سياسي بعد أن انتبهت بمناسبة سجني إلى أخطاء فيً أورثتني إياها سنين طويلة من النضال القومي ضد الاستعمار، والعهد السابق، واعتقد أن مهمتي قد انتهت، وأن اسلوبي لم يعد صالحا لعهد جديد، وأن بلادي لن تجد من عملية السياسي أي نفع بعد اليوم”.
ـ وفي يوم 2 / 10 / 1961، وقع كل من صلاح البيطار، وأكرم الحوراني، على بيان عام يؤيد الانفصال الرجعي الذي وقع في 28 / 9 / 1961، وفصم سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وجاء توقيعهما جنبا إلى جنب مع قادة الرجعية السورية، وممثلي مصالح الاقطاع ورأس المال الذين دعوا في بيانهم الشعب العربي في مصر إلى الاقتداء بهم، والتخلص من حكم جمال عبد الناصر، وإسقاط ثورة 23 تموز / يوليو، وجاء في البيان*:
” عقد في دمشق اجتماع ضم عددا كبيرا من العاملين في القضايا القومية، واستعرض المجتمعون الوضع العربي العام، والوضع السوري الخاص، والحالة الدولية بعد قيام الجيش العربي الأبي في سريا بعمله المجيد، فأجمع الراي على تأييد القوات المسلحة السورية في ثورتها المباركة، وعلى توجيه الشكر ‘ليهم ضباطا وضباط صف، وجنودا.. إن الشعب العربي في سوريا، الذي دفعت عنه ثورة الجيش القومية التسلط والطغيان يمد يده إلى الشعب العربي الشقيق في مصر، الراسف في الأغلال، ليتخلص من الحكم الديكتاتوري الذي أوجد الفرقة بين مصر وسوريا”.
وقد أحدث الموقفان: موقف المؤسس، وموقف القادة السياسيين هزة عميقة داخل الحزب، وفي وجدان الحزبيين، وإذ حمل صلاح البيطار مسؤولية التوقيع على بيان الانفصال، وتم التبرؤ من سلوك أكرم الحوراني باعتباره قد انفصل عن الحزب بعد ذلك التاريخ، فإن بعض كتاب الحزب حاولا أن يتناسوا موقف المؤسس حينما يتحدثون عن تاريخ حزبهم**
الحقيقة الثالثة: أنه من الصعب أن نجد في تاريخ الحزب الموحد مرحلة استقرار يمكن أن يشار إليها باعتبارها تجسيدا لطبيعة الحزب، وتوجهاته، ففيما عدا السنوات القليلة الأولى من عمره التي تحمل طابع الحلم، واندفاعة الشباب، والتي انتهت قبل الاندماج مع الحزب العربي الاشتراكي الذي يقف على راسه أكرم الحوراني، فإن العقل القيادي في الحزب كان دائما عقلا متضاربا، وكانت مستويات التنظيم وشعبه تفور وتغلي، انتقادا ومعارضة لهذا السلوك أو ذاك، وكان الحزب ذاته يتمتع بخط سياسي وعقائدي غير واضح وغير مستقر.
* محمد عبد المولى. الانهيار الكبير: أسباب قيام وسقوط وحدة مصر وسوريا ـ دار المسيرة ط2 1979
** مثال ذلك كتاب الأستاذ شبلي العيسمي ” حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي قفز عن هذه الواقعة كلية.
بشكل مبكر اصطدم البعث: الفكرة، بالحياة السياسية، وعلى قدر ما في هذه الفكرة من عمومية، ومثالية، وعلى قدر افتقادها للمنهج والبرنامج جاء تقلق الحزب ومواقفه وخطواته:
- فقد أيد الحزب انقلاب حسني الزعيم بداية، واعتبر أداة الانقلاب ” الجيش”، ” الأداة الأمينة التي نفذت رغبة قومية، وإرادة عامة”، ووقف ميشيل عفلق مؤسس الحزب يخطب في تظاهرة حاشدة يوم 7 نيسان / ابريل 1949 قائلا:” أيها الأخوان ليس ما حدث في سوريا انقلابا، هو في الواقع خطوة نحو الانقلاب، إننا نستبشر بهذا الحدث، ونعلق عليه الآمال، ولكن علينا أن نوسع أفقنا، وننظم صفوفنا، وأن ننظر دائما إلى الأمام، إلى العلياء، فالانقلاب الذي يطمح إليه الشعب العربي انقلاب شامل، الانقلاب الذي يحقق للشعب العربي في جميع أقطاره الاشتراكية العربية، والوحدة العربية”1.
واحتاج الحزب إلى فترة من الزمن حتى تتكشف له الطبيعة الديكتاتورية لحكم العسكر، وحتى تتكشف أمام الناس كلهم الأيدي الأجنبية التي جاءت بهذا الانقلاب حتى يمرر السياسات المشبوهة، وحين وقف فقال كلمته الصحيحة في هذا الحكم، زج بقيادته في السجن، وخرجت من أمينه العام تلك الرسالة المشؤومة في التاريخ المبكر للحزب.
- واندفع الحزب إلى الاندماج مع الحزب الاشتراكي العربي، يحدوه هاجس الامتداد الشعبي، والدخول في لعبة الحياة السياسية السورية، ولم تمض غير فترة وجيزة حتى تبين للحزبين معا أن هذا الاندماج كان وهما أكثر منه حقيقة، وأنه جر الحزب إلى مواقف لا تنسجم مع ” مثاليته، وأخلاقياته”. ومع ذلك فقد استمر متدثرا بهذا الوهم، قانعا بخديعة النفس حتى قام الانفصال، وأعيد بناء الحزب، فإذا بالحزب حزبان، واحد يقف خلف القيادة المؤسسة للبعث العربي، والآخر خلف القيادة المؤسسة للعربي الاشتراكي. نفس الوجوه، ونفس الكوادر، حتة كأن السنوات الثماني التي مضت على عملية الاندماج لم تكن أكثر من زواج غير مشروع ليس في مخلفاته أي أثر إيجابي.
وخلف نفس الهواجس، وتسابقا مع القوى السياسية السورية فقد مد يده إلى الجيش، وساهم مساهمة فعالة في إدخاله لعبة السلطة، ووقف وراء كل الانقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا، حتى اق العسكريون طعم الحكم، فلم يعد بالإمكان كبح جماحهم، وأصبحت سيطرة الحزب عليهم معادلة مستحيلة التحقق.
1ـ مصطفى الدندشلي: مرجع سابق ص 127، وكذلك سامي الجندي: البعث، ص 52، دار النهار 1969
الحقيقة الرابعة: أن الحزب لعب دورا إيجابيا في الدفع بعملية الوحدة مع مصر، وفي ولادة الجمهورية العربية المتحدة، وغذ دأبت أدبيات الحزب، وتصريحات قادته على تصوير حدث الوحدة وكأنه” صناعة بعثية”، فإن هذا التصوير ينحو منحى الدعاية الحزبية، ويفارق حقائق الأمور إلى درجة كبيرة، وقد أوقعته هذه الدعاية في وهمين خطيرين:
* فهو حين صور نفسه بأنه صانع الوحدة، جعل لنفسه الحق في المطالبة بأن يكون حكم سوريا ـ على الأقل سوريا ـ بين يديه، وبدأت تصرفاته وممارساته تأخذ هذا الاتجاه، وتضخم هذا الوهم لديه إلى درجة جعلته يتصور بأن جمال عبد الناصر بدوره ـ كقيادة تاريخية ـ ما هو إلا إضافة إلى دور الحزب ووزنه.
* ثم أعطى لنفسه الحق في أن يقف ضد الوحدة، وينتكس عليها، ويعمل على هدمها، ويشارك أعتى القوى الرجعية في سوريا في ضربها، لأن دولة الوحدة خرجت من بين يديه، وابعد عنها المناضلون الحقيقيون” البعثيون”.
ومن مراجعة الفترة السابقة على الوحدة يتضح أن حدث الوحدة إذ عبر عن الاتجاه الأصيل في هذه الأمة، فإنه “بالتوقيت والظرف” كان حاجة سورية مباشرة، يحسها ويعيشها الشارع الوطني كله، وكانت القوى التي تدفع في اتجاه الوحدة أكبر بكثير من قدرة الحزب وإمكاناته.
كانت الوحدة هي الرد المتفق عليه شعبيا للخروج من الأزمة التي تعيشها سوريا، ومن التوازنات الدقيقة التي يهدد اختلالها الوضع السوري كله، وقد أوجز الأستاذ جلال السيد ـ وهو من مؤسسي الحزب ـ هذا الوضع بقوله*:
” ولقد وصل الوضع الرسمي في سوريا خلال تلك المرحلة إلى درجة من التمزق يدفع المسؤولين من حكام وأحزاب وضباط، إلى الموافقة على أي شيء لإنقاذ الوضع من الاحتمالات التي سوف يتعرض لها القطر السوري”.
ولعل اتجاهات الحوار بين عبد الناصر، والمندوبين العسكريين السوريين** الذين حضروا الى القاهرة في تلك الفترة ليطلبوا الوحدة تكشف صحة هذا التوصيف.
أما حالة الحزب فام تكن تتيح له أكثر من المساهمة في الدفع نحو الحل المنشود “الوحدة”، فكان بذلك جزءا من الحالة العامة، وليس صانعا لها، ولا قائدا فيها. وقد جاءت فاعليته من توافق اتجاهات هذا الظرف مع شعاراته واتجاهاته.
* جلال السيد: حزب البعث العربي الاشتراكي ص 157 دار النهار للنشر 1973
** يورد محمد عبد المولى في كتابه الانهيار الكبير جزءا من هذا الحوار يعكس تخوف العسكريين السوريين من اتجاهات الوضع الداخلي في سوريا، ورؤيتهم بأن الوحدة هي المخرج الوحيد لهذا الوضع، ويعكس أيضا تباين النظرة بينهم وبين جمال عبد الناصر في موجبات الوحدة، للتفاصيل يمكن العودة للصفحات 171 ـ 173.
لقد أنهكت الحزب ـ في تلك المرحلة ـ صراعاته الداخلية، وأصبح واضحا بشكل جلي كدة هشاشة العملية التوحيدية التي اصطنعها مع الحزب العربي الاشتراكي، وبرز دور العسكريين بأكثر مما كان معتمدا ومخططا له من قبل الحزب، ويقدم لنا جلال السيد وصفا للوضع الداخلي في الحزب عشية الوحدة جديرا بالتسجيل والتذكر الدائم، يقول السيد*: ” عندما اشترط الرئيس عبد الناصر حل الحزب للموافقة على الوحدة، قبل حزب البعث ذلك، لأن قيادات الحزب كانت تشعر بثقل وطأة الحزب عليها، وبالتشرذم، والانقسام الذي حل بالحزب، وهذه فرصة قل نظيرها، فيكن حل الحزب في سبيل قضية مقدسة هي الوحدة، وإلا فإن الحل قد يأتي بلا ثمن، إذا استمرت أوضاع الحزب على ما هي عليه، أو سار في دربه الذي ينتهجه.
ولم يكن حل الحزب لدى بعض قيادات الحزب مأسوفا عليه، لأن هناك تعويضا منتظرا للحزبيين الكبار وهو احتمال تسلمهم زمام السلطة في سوريا نظرا لمساهمتهم في قيام الوحدة، ومنهجهم الوحدوي، وعلاقتهم بالسفير، وبالسلطة المصرية عبر السفير”.
ويبدو في الوصف الذي يقدمه السيد بعضاً من ” الموقف المسبق”، باعتباره وإن كان من مؤسسي الحزب، إلا أنه قد انفصل عنه، واتخذ موقفا النقد من الحزب حاليا، لذلك يصبح من المفيد أن نسمع رأي واحد من أبرز قيادات الحزب حاليا، وقد لعب دورا مهما في حياة الحزب.
في كتابه عن حزب البعث العربي الاشتراكي يعدد الأستاذ شبلي العيسمي الظروف والتقديرات التي دفعت إلى حل الحزب في النقاط التالية2:
1ـ على الصعيد السياسي (كانت الظروف) صعبة ودقيقة، حيث اشتد التآمر الامبريالي والرجعي على النظام التقدمي في القطر السوري، والذي كان الحزب يدعمه من خلال مشاركته في حكومة التجمع القومي، لذلك كان التوجه نحو الاتحاد مع مصر قويا وشديدا.
2ـ وكانت على الصعيد الحزبي حافلة بالفوضى والاضطراب والتسيب، ولم تستطع القيادة العليا أن تسيطر على التنظيم، وتعيد بناؤه، بالشكل الذي يحقق مطالب القواعد الحزبية وطموحها، فضلا عما كان بين أعضاء القيادة من حساسية وخلافات في الراي حول كثير من القضايا السياسية والحزبية.
* السيد، المرجع السابق ص 158
**ـ شبلي العيسمي: حزب البعث العربي الاشتراكي، ج2 ص 293 ـ 294، دار الطليعة ط2 1978
3ـ تصاعد التقدير لمواقف عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس، وانفتاحه على القومية العربية، وعلى شعارات الحزب، وتنامي الإعجاب بجرأته وشعبيته، إلى الحد الذي بولغ بامتداحه، وبويع ضمنا بالقيادة….
4ـ انطلقت من اعتبار أن وحدة مصر وسوريا خطوة ثورية تاريخية لا يجب أن تفوت مهما بلغت التضحيات.
5ـ ستتحقق في ظلها الحرية السياسية، وما يطمح إليه الحزب من أهدافه، وأنها قفزة نوعية للنضال العربي.
6ـ القناعة التامة بأن رجال الثورة سائرون على نفس الطريق التي رسمها الحزب سلوكا وهدفا، فضلا عن إمكانية التأثير بهم، وتوجيههم من الحزب والجماهير.
7ـ إن الاتحاد الاشتراكي سيكون مجرد إطار لأفكار الحزب ونشاطات أعضائه بملء الحرية التي كانوا يمارسونها قبل الوحدة.
ولعل منظمة الحزب في لبنان كانت أكثر صراحة في التعبير عن الجانب الخاص بتصور الحزب لدوره في دولة الوحدة، حينما تحدث في نشرة داخلية لها في أوائل شباط / فبراير سنة 1958 كانت ” حول الجمهورية العربية المتحدة وماذا يعني حل الأحزاب في سوريا”، وجاء فيها” والاتحاد القومي الذي سيكون الهيئة الوحيدة المعترف بشرعيتها، سيكون بالنسبة الينا بمثابة الصيغة الجديدة لنشاطنا الحزبي والفكري والسياسي في الجمهورية العربية المتحدة، وبيدنا زمامها، وتوجيهها، وإمكاناتها الفكرية والمعنوية”*
هذه أراء فردية، ومنظمات فرعية للحزب، أما القيادة القومية للحزب فقد سجلت رؤيتها لهذه المرحلة بعد أن أعيد تشكيل الحزب عقب الانفصال، وإذ تستخدم أكثر العبارات مراعاة للحزب، ولوضعها، فإنها تعترف بالحقائق التي جاء على ذكرها من استشهدنا بهم، تقول النشرة**: ” هناك نقطة هامة وأساسية كان الحزب يعرفها، ولا يصرح بها، يعرفها ويغالط نفسه أحيانا، ساهمت في فشل هذه الخطوة التاريخية، وهذه النقطة هي أن الحزب في أوائل 1958، قبيل الوحدة، لم يكن موجودا الوجود الحقيقي، السليم، المتين، وأنه بالتالي لم يكن مستعدا أن يأخذ هذه العملية الضخمة بكفالته، وعلى مسؤوليته، وبحمايته، إذ أنه كان يعاني من الضعف والميوعة… فبدلا من أن يعمل على حماية هذه العملية التاريخية، ـ وكان الحزب أو بالأحرى عناصر قيادية كثيرة، وفي سوريا بالدرجة الأولى … ترى في تحقيق الوحدة إجازة لها، ونهاية وخاتمة، ومفترجا للمشاكل المستعصية في الحزب”.
* العيسمي، المرجع السابق ج2 ـ ص 293
** مصطفى الدندشلي، مرجع سابق ص 319
وبغض النظر عن الفوارق اللفظية والنفسية بين الرؤى السابقة ، وتباين مسؤولية أصحابها ، فإنها تتحد في الجوهر، حيث تهلهل الحزب قبل الوحدة، والتطلع إلى السيطرة على دولة الوحدة، وأجهزتها، واعتبار ذلك حقا طبيعيا، ورغم أن موقف جمال عبد الناصر كان واضحا، ولا يترك مجالا لأي تفسير أو شك، فهو يحن وافق على الوحدة ربط موافقته هذه بموافقة أصحاب القرار في سوريا، وكان الجيش هو صاحب القرار في الحياة السياسية السورية منذ الانقلاب الأول عام 1949، وحينما أصر على حل الأحزاب، وإبعاد الجيش عن الحياة السياسية الداخلية، وحينما تمت الإجراءات التنفيذية الأولى، وتشكيل الأطر السياسية في سوريا ، كان واضحا أنه لا يفكر على الاطلاق في إفراد حزب معين ، او قوة معينة بالقرار والقيادة في الإقليم الشمالي.
إن اندفاع قيادة الحزب وراء أوهامها الذاتية هو الذي صور لها الأمور على النحو الذي يرضيها، ولو أن الأمر اقتصر على مجرد ” أوهام قيادة” لجاءت آثارها السلبية محدودة وبسيطة، وممكنة التلافي، لكن هذه الأوهام كانت مادة تثقيف لعناصرها، وأداة دعاية حزبية، لذلك فإن جو الوهم هذا سيطر على القسم الأعظم من الحزب، ودفع به أن يتحول تدريجيا إلى عقبة على طريق العمل الوحدوي، وهو الذي لم يكن لوجوده من مبرر إلا مسألة الوحدة، وسوف يتضح هذا التحول ونحن نرقب ردود الفعل الحزبية على قرار الحل.
الحقيقة الخامسة: أن هذا الحزب إذ حل نفسه، ودخل دولة الوحدة، وسلطتها، فإنه سريعا ما تبين أنه لم يكن موحدا في سلوكه، ومواقفه، وحتى لم يكن يحمل الحد الأدنى اللازم في التعامل الإيجابي فيما بين قواعده وقياداته:
ـ على مستوى القواعد من المهم أن نستمع الى تقدير الأستاذ العيسمي لنتائج حل الحزب حيث يوجزها بنقاط محددة فيقول*:
1ـ حدثت أزمة ثقة بين القواعد والقيادات ساعدت على مزيد من البلبلة والاضطراب في جهاز الحزب كله، وأدت في القطر السوري إلى نوع من التشرذم، وأخذ بعد الانفصال طابع الشلل، والتكتلات المتعددة والمتباينة في نظرتها وتقويمها للقضايا الحزبية والسياسية.
2ـ تخلى عدد غير قليل من الحزبيين وخاصة في دولة الوحدة عن ممارسة النشاط الحزبي بدوافع اليأس أو الشعور بعدم جدوى النضال بعد الحل.
3ـ استمر عدد آخر من الحزبيين بالتعاون مع عبد الناصر وأجهزته، واشترك في الاتحاد القومي بفعل التضليل أو التغرير، وإغراءات النفوذ والمادة، … ثم شكل فريق من هؤلاء مع آخرين ما عرف باسم ” الاتحاد الاشتراكي”، بينما شكل فريق آخر تنظيما عرف باسم ” الوحدويين الاشتراكيين”.
4 ـ تكونت ردود فعل عنيفة لدى بعض الحزبيين ضد قيادة الحزب، وراحوا يحملونها مسؤولية الأخطاء التي وقعت، ويطالبون بتبديلها أو تجاوزها، بينما توجهت ردود الفعل العنيفة هذه عند بعضهم الآخر ضد عبد الناصر ونظامه، إلى الحد الذي أوقعهم في مهاوي السلوك القطري، أو حملهم على تأييد الانفصال، أو على الانشقاق عن الحزب.
وفي هامش الصفحة 300 من كتابه يوضح العيسمي هذه الأنواع الثلاثة التي أشار إليها فيقول:” هؤلاء ثلاثة أنواع: القطريون، وهم الذين رفضوا بناء الحزب في سوريا وفق ما قرره المؤتمر الخامس، وكانوا قد أيدوا الانفصال من دون الاشتراك معه في الحكم، ومعظمهم من دير الزور واللاذقية، والنوع الثاني يمثله الأستاذ أكرم الحوراني ومن معه، حيث أيدوا الانفصال، واشتركوا مع قادته في الحكم، وشنوا حملة عنيفة على عبد الناصر، أما النوع الثالث فتمثله مجموعة عبد الوهاب الشميطلي التي انشقت عن الحزب بعد المؤتمر الخامس، لرفضها شعار تجديد الوحدة مع مصر حتى لو كانت وفق أسس وضمانات جديدة”*
وعلى مستوى القيادة التاريخية الممثلة بميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وأكرم الحوراني، فإن العلاقة فيما بينهم كانت في الحضيض، لقد تقدم الثلاثة إلى عبد الناصر باعتبارهم قادة حزب البعث العربي الاشتراكي، وحينما حمل اثنين منهم ” البيطار، والحوراني” مسؤولية قيادية في دولة الوحدة، تبين بعد ذلك أن كلا منهما كان يغني على ليلاه، وأنهما لا يمثلان حزبا واحدا، ولا عقلية واحدة، ولا يكنان لبعضهما أي قدر من الاحترام. ورغم هذه الحقيقة التي سطعت في مباحثات الوحدة الثلاثية بين الجمهورية العربية المتحدة، وسوريا، والعراق، عام 1963، فإنهم اتخذوا موقفا واحدا من دولة الوحدة، حيث استقال جميع وزراء البعث الثلاثة عام 1959، واتخذوا موقفا واحدا من الانفصال تأييدا له حينما جاء توقيع أكرم الحوراني، وصلاح البيطار، جنبا إلى جنب على بيان تأييد الانفصال.
* هذا التحديد الذي يطرحه المؤلف يثير عددا من الالتباسات:
ـ فهو لا يوضح الزمن الذي جاءت فيه ردات الفعل هذه وعلاقته بمسلك قيادة الحزب في دولة الوحدة.
ـ كذلك لا يوضح حجم هذه التيارات ووزنها في الحزب.
ـ ويأخذ على بعضها الحزبيين اشتراكهم في الاتحاد القومي، رغم أن هذا كان خط الحزب الأصلي،
ـ يخلط كثيرا في مسألة تشكيل الاتحاد الاشتراكي، وتشكيل الوحدويين الاشتراكيين، ويمكن مراجعة هذا الأمر في القسم الخاص بالحركة الناصرية في سوريا.
والغريب أن قيادة البعث في مباحثات الوحدة الثلاثية تبقى مصرة على منهجها في التعامل مع قيادة الوحدة، وفي تقييم تلك المرحلة، فمن المآخذ التي طرحتها هذه القيادة على تجرية الوحدة السابقة أنها سبقت وطالبت بتشكيل قيادة سداسية سرية لدولة الوحدة ” ثلاثة من البعث، وثلاثة من مصر”، وحينما يذكرهم كل من كمال الدين حسين، وجمال عبد الناصر، أن مثل هذه التشكيل كان سيضم أكرم الحوراني باعتباره أحد الثلاثة المقترحين، فإن ميشيل عفلق يعلق قائلا: “لو تشكلت اللجنة وأكرم موجود، ما كانت العملية مشيت لمدة أسبوع من أجل هذه القضية”*.
في هذه المحادثات ومن خلال الحوار بين ميشيل عفلق وجمال عبد الناصر، يكشف الأمين العام لحزب البعث عن نظرته لأكرم الحوراني ـ المقترح عضوا في اللجنة السداسية ـ ورؤيته لدوره، ولنتابع بعض هذا الحوار**:
” السيد ميشيل عفلق: هم مجموعة أكرم حاولوا تنظيم الحزب تقريبا بعد الاستقالة لحد الانفصال… ويعلم أنه بالرغم من أنه مش ممكن هذا، وواقعين تحت اضطهاد طبعا.
الرئيس جمال عبد الناصر: تحت إيه؟
السيد ميشيل عفلق: إضطهاد يعني..
الرئيس جمال عبد الناصر: ليه، كام واحد اعتقل؟ كام واحد اعتقل؟.. ولا أحد.
السيد ميشيل عفلق: ولكن معروف أكرم الحوراني واتجاهه لأنه يعد انفصالي، ونرفض أي إعادة لتنظيم الحزب.. وكانوا بيضغطوا من أجل أن نعيد تنظيم الحزب.. لأنه عارفين أنه إذا بنعيد تنظيم الحزب مع هؤلاء رح يتخذ اتجاه المعارضة اللي بتوصل للانفصال … اتجاه انفصالي”. أما على صعيد علاقة القيادة بالحزب، فيكفي أن نشير إلى أن قرار حل الحزب قد اتخذ من قبل قيادته دون العودة لا إلى مؤتمر قومي، ولا حتى لمؤتمر قطري خاص بسوريا، وقد كشف هذا القرار مقدار ما تحمله قيادة الحزب من احترام لقوانين التنظيم وقواعد التعامل فيه.
إننا حين قمنا بالوقوف على بعض الحقائق في تاريخ هذا الحزب، ومسارهن تخيرنا تلك التي تصيب العامل الذاتي فقط، ونحن نعلم أنها لوحدها غير كافية، ولا يجوز الركون إليها في فهم وتفسير مسار هذا الحزب، لكنها مفيدة إفادة بالغة في كشف الجو الحيوي الذي تحرك فيها الحزب كبنية داخلية، وكعلاقات، وبدون الكشف عن هذا الجو فإن كل حديث سيبقى حديثا جافا مفتقدا لحرارة المناخ الداخلي للحزب.
*، ** محاضر محادثات الوحدة الثلاثية، ج1، ص272 ـ 273 دار المسيرة، 1979
كذلك فإننا اكتفينا حتى الآن بالفترة التي اختتمت بالوحدة، وحدث الانفصال، باعتبارها فترة للتاريخ الموحد للحزب، أما بعد ذلك فإن المسار لم يعد ينقطع، ولسوف نشهد هذه الحقائق متعاضدة مع غيرها من الحقائق الموضوعية تعطي أكلها كاملة في المرحلة التالية، حيث الحزب يتهيأ للسلطة، أو حيث هي في يده، ويمارس من خلالها قناعاته: “الوحدوية والديموقراطية والاشتراكية”، ويبني نموذجه الذي من المفترض فيه أن يتجاوز ما اعتبره الحزب ثغرات في نظام جمال عبد الناصر.