24 / 2 / 2023
د. مخلص الصيادي
تابعت على مدى عدة أيام كتابات بمناسبة ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة، وهي في معظمها تنتمي إلى المسار الوحدوي، وتسلط الضوء على أهمية هذه التجربة ومكانتها في تاريخ أمتنا المعاصر، وفي إطار تقويم التجربة الوحدوية يتم التوقف عند ملاحظات أو مآخذ سجلت على تلك التجربة، وهي كلها كتابات مهمة ومفيدة، ورأيت أن أطل على هذه الذكرى من زاوية أخرى، لا تتوقف عند التجربة ذاتها باعتبارها تجربة وانجازا وإجراءات ونظاما، وإنما باعتبارها حركة تاريخ، ومسار أمة، ومشهد من مشاهد إبداعاتها، مشهد يتجاوز الحدث ولو كان بحجم حدث ولادة الدولة الجديدة” الجمهورية العربية المتحدة، ويتجاوز الأشخاص والقادة ولو كانوا بحجم جمال عبد الناصر. فالقضية عندي هي الوحدة نفسها، هي حركة الأمة نحو بناء وحدتها السياسية والاجتماعية والثقافية ………
في ذكرى قيام الجمهورية العربية المتحدة يسطع أمامنا مفهوم واحد، أو تبرز أمامنا قاعدة واحدة تؤكد، أنه في الحركة العامة لوحدة الأمة، ليس هناك منطقة وسطى، يمكن لأحد ما أن يقف فيها، فلا يكون هنا، ولا يكون هناك، لا يكون مع حركة الأمة واتجاهها الى الوحدة، ولا يكون مع حركة أعدائها واتجاههم لمنع هذه الوحدة أو إفشالها.
نعم لا توجد منطقة وسطى، فإما يكون الاتجاه إلى الوحدة. وإما إلى التفتت. لا توجد منطقة وسطى بينهما، وفي الاتجاه إلى الوحدة فأنت تتجه إلى التقدم والنمو، وفي الاتجاه الآخر فأنت تتجه إلى الشرذمة والتخلف.
الحديث هنا لا يتناول طبيعة نظام الحكم، أي لا يتناول البرامج السياسية والاجتماعية التي تتصارع حولها القوى السياسية في المجتمع. وإنما الحديث يذهب مباشرة الى الوعاء، إلى المجتمع بكل مؤسساته، ونظمه، وخططه، وقيمه، إلى الأمة باعتبارها مادة الحركة الوحدوية. وإلى الوطن باعتباره وعاء هذه الحركة.
وفي هذا السياق لا نتحدث عن المصاعب، ولا عن الأثمان التي يجب دفعها لإنجاز العمل الوحدوي، ولا عن توزيع هذه الأثمان بين القوى والأقاليم السائرة في العملية الوحدوية، فهذه قضية جزئية جدا وآنية، وكلما تقدمت عملية الوحدة، تضاءلت أهميتها حتى تكاد لا ترى.
لو نسأل كم تكلفت المانيا الغربية. كم تحملت من عبء مادي لإنجاز الوحدة مع الشطر الشرقي من ألمانيا، لهالنا الرقم، فقد ذكرت المصادر الألمانية ان هذه التكلفة وصلت الى 2000 مليار يورو صافية حولت الى الشرق في السنوات ال 25 الأولى من الوحدة، وذلك بهدف ان يصبح القطاع الشرقي من المانيا في مستوى القطاع الغربي فيها، ولأن كل شيء في المجتمعات الصناعية الغربية يقاس بالعبء الذي يخلفه على الدخل الفردي / الضرائب، فلا بد أن نتصور مدى تأثر الفرد الألماني الغربي بهذا العبء، ومدى شعور الفرد بثقل هذه العملية عليه شخصيا.
لكن يوما بعد يوم يصبح السؤال غير ذي معنى، ويصبح أي عبء وثمن تم تحمله ودفعه غير ذي شأن أمام استعادة الأمة لوحدتها، وأمام منافع هذه الوحدة المادية، والثقافية، والنفسية، والحضارية.
كثيرون ممن وقفوا مع حركة 28 ايلول / سبتمبر الانفصالية عام 1961، تحدثوا عن “افتقاد” دولة الوحدة للديموقراطية السياسية، وعن “استعلاء” المصريين على السوريين، وأثر ذلك في الجيش، وفي التعليم، وعن افتقاد الاقتصادين السوري والمصري لدرجة من التوازن قبل الوحدة، يتيح تحقيق هذه الوحدة، وعن دور أجهزة الأمن التي كان يقودها عبد الحميد السراج، وعن.. وعن.. الخ.
وذهب البعض إلى القول بخطأ “استعجال” قيام “الوحدة الاندماجية”، وضرورة أن تكون متدرجة ومسبوقة بدراسات وخطوات، وأن هذا التعجل كان من أسباب وقوع الانفصال، لم يكن في جوهره حديثا عن حقيقة، وإنما عن أوهام، مثلها في ذلك مثل الحديث عن أثر اجراءات النظام الاقتصادي – التأميم – في وقوع الانفصال.
ذلك أن أهم العناصر الاندماجية في العمل الوحدوي وهي ” وحدة النقد، ووحدة الجيش وأجهزة الأمن”، لم تكن، حينما وقع الانفصال، قد تحققت بعد في عهد الوحدة، كما أن خطوات التأميم لم تتخذ إلا قبيل الحركة الانفصالية بشهرين وسبعة أيام، فقد صدرت أول قرارات التأميم في 20 / 7 / 1961.
وبأحسن الظنون فإن الذين ذهبوا إلى القول “بخطأ التعجل” لم يدركوا أن صناعة الوحدة في حينها كانت حركة في الاتجاه المعاكس للحركة التي صنعها لنا ولمنطقتنا أعداء أمتنا، وبالتالي فإن ذلك “الظرف الاستثنائي” الذي تمت فيه الوحدة، هو المناسبة التي لا يجوز تفويتها، وهو اللحظة والفرصة التاريخية التي إن فاتت فإنها فاتت، ولا يجدي بعدها أي شيء، فالإنجازات التاريخية تقوم دائما على حسن استغلال اللحظات والفرص التاريخية، وهذه القاعدة نراها في الحركة التاريخية كلها، ويمكن لكل أحد أن يختبر ذلك بقراءة هذه الحركة في مختلف الأمم.
وصول الاتحاد السوفياتي لمرحلة التحلل مطلع العام 1990 مثل اللحظة والفرصة التاريخية لتوحيد الألمانيتين، لو لم يتم استغلال هذا الظرف، ولو تم انتظار هدوء الأوضاع وتجاوز تلك المرحلة، والنظر والبحث في التكاليف والانسجام والتغييرات الهيكلية في الاقتصاد والعادات والثقافة، لكانت الوحدة الألمانية في خبر كان.
في هذا السياق فإن الحركة في اتجاه الوحدة، مثلها كمثل الحركة في اتجاه الاستقلال، لا يسأل فيها عن التكلفة، وإنما عن الاتجاه، وعن الاتساق مع الضمير الشعبي والاستحقاق التاريخي، هل سأل أحد الفيتناميين عن استعداد الشعب الفيتنامي في دفع هذه التكلفة العالية في التصدي للعدوانية الأمريكية لتحقيق الاستقلال والوحدة لبلدهم، وهل يسأل أحد من المخلصين القائد الشهيد عمر المختار لماذا اختار سبيل المقاومة، وحمل الشعب الليبي ما حمله من أثمان في مسار هذه المقاومة، هل تسأل المقاومة الفلسطينية عن خيارها في المقاومة وما يدفعه الشعب الفلسطيني من ثمن في هذا المسار.
قضية الوحدة، وفرصتها التاريخية، وتكاليفها، هي تماما مثل قضية الاستقلال والمقاومة، يوزن فيها الأثمان والتكاليف بموازين المستقبل، وموازين الاتساق مع المسار التاريخي، وبموازين القدرة على اقتناص اللحظة التاريخية المناسبة.
الآن وقد مضى على ذلك الحدث التاريخي عقود عدة، وبات السؤال الذي من حقنا أن نطرحه، ومن حق كل باحث أن يتصدى للإجابة عليه: هل تحقق لأحد خارج مسار الوحدة، أي خارج مسار دولة الجمهورية العربية المتحدة، هل تحقق لأحد ديموقراطية، أو حريات، أو تقدما اقتصاديا، أو نظما اجتماعية، أو تماسكا وطنيا، خير مما كان في عهد الوحدة، وقد مضى على ذلك العهد ما مضى من عقود، السؤال مطروح في وجه الأنظمة والأحزاب ” التقدمية”، وفي وجه الأنظمة والأحزاب اليمينية المحافظة. هل بات الوطن العربي ككل، والبلاد العربية، كل على حدة أكثر أمنا، واستقرارا، وتقدما، ومكانة دولية وإقليمية مما كان في عهد الوحدة، أو مما عاشت المنطقة في ظله إبان عهد الوحدة.
ليس مهما الآن وفي ذكرى مرور 65 عاما على قيام الجمهورية العربية المتحدة، أن نقف للتدقيق في كل قول من الأقوال تحاول أن تبرر الانفصال، وفي كل ملمح من هذه الملامح التي يحاول أصحابها أن يتخذوها سبيلا للتبرير، وإعذار الانفصال وأهله، وتصويرهم الأمر وكأنه كان موقفا من النظام القائم وليس من العملية الوحدوية، ذلك أن كل ما جرى على صعيد العمل الوحدوي منذ ذلك التاريخ لم يكن في إطار بناء وحدة مختلفة، أو كيان وحدوي مختلف.
لم تتحرك أي قوة سياسية في سوريا “وفي غير سوريا” أي خطوة على هذا الطريق، طريق الوحدة، لا خلف شعارات قومية، أو أممية، أو إسلامية، أو محافظة، بل إن كل ما مر به وطننا هو اتجاه واضح مثابر نحو التفتت، تفتت الأوطان، وتفتت المجتمعات، والتخلف والتبعية.
ومنذ ذلك التاريخ تمكنت أنظمة ديكتاتورية جمهورية أو ملكية في كل بلادنا العربية، وقادت حركة هذه البلاد سياسيا واجتماعيا، وحملت ممارستها أشكالا من القمع لم تكن تخطر على بال. وتحولنا إلى حالة من التبعية للخارج كان الظن أننا مع الاستقلال قد تجاوزناها.
كانت وحدة 1958 خرقا وتجاوزا لتقسيمات “سايكس – بيكو”، فإذا بنا الآن نحاول أن نتمسك بتلك التقسيمات، ليقيننا أن الوضع يتجه إلى تقسيمات طائفية وعرقية ومناطقية أشد وطأة وأخطر أثرا.
إن الذين صنعوا الانفصال متذرعين “بأخطاء” عهد الوحدة. ارتكبوا جريمة بحق الأمة، منهم من كان مرتبطا بالخارج، وقد “تسلم حصته وأجره” جزاء ما أنجزه، ومنهم من أعمته مصالحه، وقصر نظره، فلم يفرق بين الموقف من نظام عبد الناصر وبرنامجه، وثورته، وبين الموقف من الحركة الوحدوية للأمة، فدفعه عداؤه لعبد الناصر ونظامه وبرنامجه إلى خانة العداء للأمة.
ولعل هذا البعض حاول تدارك الأمر بالتواصل مجددا مع عبد الناصر عقب ذلك اليوم المشؤوم، لإعادة الوحدة بالقوة العسكرية “بانقلاب عسكري”، لكنه لم يجد تجاوبا من عبد الناصر. فقد “سبق السيف العزل”. والذي يراجع تاريخ الانفصال الرجعي الذي امتد حتى الثامن من آذار 1963 سيتعرف على تلك المحاولات بالأسماء والتواريخ.
ولعل الوجدان الشعبي في سوريا – وفي غير سوريا – كان حاسما في إدراك حقيقة من نفذ الانفصال وعمل له، لذلك وبدءا من ذلك اليوم الأسود غابت كل التقسيمات والمصطلحات التي كانت متداولة في الحياة السياسية، من تقدمية، ويسارية، وإسلامية، وتحررية، ووطنية.. الخ، وصرنا أمام مصطلح واحد جديد طغى على ما سواه، وهو مصطلح “وحدوي وانفصالي”. فالوحدوي هو التقدمي والقومي والإسلامي والاشتراكي والتحرري وهو الملتزم بفلسطين والعامل على تحريرها، وما عدا ذلك فالكل رجعي، معاد للأمة مهما كانت برامجه، ومضيع لحقوقها الوطنية والقومية وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية مهما كانت شعاراته وراياته.
هذا الميزان الشعبي الذي ساد في تلك الفترة كان هو المعبر عن حقيقة الوحدة وحقيقة الانفصال. وإذا حكم أعداء الوحدة وخصومها النظام العربي وهم يرفعون شعارات عديدة يناقض بعضها بعضا، فإن المحصلة الوحيدة الحقيقية التي ظهرت أن الجميع يتجه إلى الضعف والتبعية والانكسار والتخلف والهامشية في ميزان النظام الدولي والإقليمي، وفي ميزان الاستقلالية الحقيقية.