بقلم الزميل المحامي محمد علي صايغ
عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق الوطنية وعضو اللجنة الدستورية في هيئة التفاوض.
١٧ حزيران ٢٠٢٤
الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تفتتح ممثلية لها في سويسرا (من الأرشيف)
عندما تضعف الأمم أو الدول، تزداد أطماع الدول الأخرى الأقوى في فرض الهيمنة عليها واستغلالها، ويزداد التنافس في فرض النفوذ على هذه الدول وتقسيمها وتمزيقها وإغراقها في صراعات اثنية ودينية لا حدود لها.
ومن هذا المنطلق فلا زالت الإدارة الأمريكية / الغربية تعمل في منطقتنا وبلدنا على الدفع بتلك الصراعات نحو تحقيق مخططاتها في إثارة تلك النعرات الطائفية والإثنية، والدفع بها نحو مزيد من التناحر وبلورة الاصطفافات المناطقية تمهيداً لعمليات تقسيم الدولة السورية، وتجزئتها وفرض واقع جديد، أو سلطات الأمر الواقع المرتبطة بأجنداتها ومصالحها.
وتحت اعتبارات مزاعم المظلومية التاريخية للأكراد، واستغلالاً للحرب السورية الداخلية التي دخلت عامها الرابع عشر منذ انطلاق الثورة السورية السلمية، و بتاريخ ٢١ / ١ / ٢٠١٤ أصدرت الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا “عقدها الاجتماعي” الذي ٱثار الكثير من الاعتراض من قوى وتشكيلات المجتمع السوري في حينه، وقد أجرت الإدارة الذاتية العديد من المراجعات والتعديلات “للعقد الاجتماعي” الأول خلال السنوات التالية لصدوره، ثم وإصراراً من الإدارة الذاتية على التمسك باستقلالها الذاتي، وليس بإدارتها الذاتية أصدرت “العقد الاجتماعي الجديد” الذي أعلن رسمياً بتاريخ ٢٩ / ١٢ / ٢٠٢٣ عن مجلس سوريا الديمقراطية، وجناحها العسكري قوات سورية الديمقراطية (مسد / قسد)، وما تضمنه هذا العقد الاجتماعي من مفاهيم ومواد تصب في اتجاه فرض أمر واقع على الدولة السورية والشعب السوري…
وحتى لا يكون الموقف من العقد الاجتماعي عاماً ويستند إلى استنتاجات تحليلية غير واقعية، فلا بد من التوقف عند مفاهيم ونصوص المواد الواردة في نص وثيقة العقد الاجتماعي المعدل؛ وصولاً إلى تفنيد هذه النصوص، والمآلات التي يراد تحقيقها من وراء تطبيقه، وتنفيذه ..
١- مفهوم العقد الاجتماعي العام يتلخص في إيجاد معادلة موضوعية بين الحاكم والمحكوم، ووضع إطار لتنظيم العلاقة بينهما وصولاً إلى إقامة مجتمع منظم وفق قواعد ثابتة، أي هو العقد الذي التف حوله المجتمع بكافة قواه السياسية والمدنية لتأسيس كيانهم السياسي، وهذا العقد الاجتماعي يصلح لدولة عندما تعيد التأسيس لأركان الدولة كلها، لكنه لايصلح لجزء، أو أجزاء من الدولة إلا إذا انفصل هذا الجزء انفصالاً تاماً، ونال المشروعية المحلية والدولية.
في حين أن دستور الدولة مجموعة القواعد الأساسية التي تنظم العلاقة بين مختلف سلطات الدولة، وتحدد اختصاصاتها، وطرق ممارستها للصلاحيات المخولة إياها، وتحديد آليات عملها، وتحديد الحقوق والواجبات للمواطنين، وكيفية الوصول إليها وتنفيذها؛ مع ضمانات حماية هذه الحقوق والحريات. وتبعاً لذلك فإن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية يختلف تماماً عن العقد الاجتماعي كاصطلاح ومضمون، إذ هو دستور بكافة أركانه وقواعده، ويتضمن خصائص دستور أية دولة مستقلة، له مقدمة (الديباجة)، ومبادئ أساسية، وفصل حقوق وحريات، وفصل للمؤسسات المختلفة بما فيها مجالس شعوب، ومقاطعات، ومجلس مدينة وحي وبلدات، ومؤسسات أخرى عديدة، ثم أحكام انتقالية.
ويبدو أنه قد لجأت هذه القوى الكردية إلى طرحه باسم العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية لعدم نضج الظروف لطرحه كدستور، لما قد يثير حالياً من إشكالات محلية وإقليمية ودولية. ولكن مجمل نصوص العقد الاجتماعي المعدل تشير بوضوح إلى مشروع تأسيس دولة بكافة أركانها وشروطها.
٢- تعتبر السيادة من أهم صفات السلطة، ووجود الإقليم والشعب ليس كافياً لسيادة الدولة ووجودها، فلا بد من سلطة سياسية كهيئة حاكمة تضمن سلامة الدولة واستقلالها واستقرارها، وأمنها وأمانها، وقدرتها على سن القوانين التي تحترم المواطنين بما يحقق العدالة والمساواة. في حين أن العقد الاجتماعي ( المعدل ) وإن قرر أن مقاطعات الإدارة الذاتية جزء من سوريا الديمقراطية تقوم على نظام ديمقراطي في شمال وشرق سوريا، واتفاق مكونات مجتمع الإدارة الذاتية الديمقراطية مع إرادة بقية المكونات السورية لتكون ضمن سورية الديمقراطية. فإن هذا العقد الاجتماعي لم يتطرق إلى شكل العلاقة التي تربط الحكم الذاتي بالدولة السورية، أو آليات وحدود العلاقة مع الحكومة السورية.
٣- في العقد الاجتماعي الجديد تم تحديد التسمية للإدارة الذاتية بإسم “إقليم شمال وشرق سوريا” بإدارة الإدارة الذاتية الديمقراطية، وأن شكل نظام الحكم هو النظام الكونفدرالي.
وهنا لا بد من التوقف عند مفاهيم اللامركزية الإدارية، والاتحاد الفدرالي، والاتحاد الكونفدرالي .
اللامركزية الإدارية: تقوم على اعتراف السلطة المركزية بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح العامة للدولة يجب مراعاتها، ووجود سلطة مركزية تقوم بالإشراف على الإدارات المحلية، مما يستدعي اكساب السلطات المحلية شخصية معنوية خاصة تقوم على الانتخاب الشعبي، وتمتعها بالاستقلال المالي والإداري.
الاتحاد الفيدرالي: هو اندماج مجموعة من الدول أو الولايات في دولة واحدة بحيث تفقد هذه الدولة أو الولايات شخصيتها، ولا يصبح لها سيادة مستقلة. وتصبح دولة الاتحاد السلطة الأعلى على الولايات المكونة لها، وتكون مسؤولة عن كافة الشؤون الخارجية، والجيش والدفاع في السلم والحرب، وبعضاً مهماً من الشؤون الداخلية التي تديرها حكومات محلية تعمل تحت إشراف حكومة مركزية واحدة لدولة الاتحاد.
الاتحاد الكونفدرالي: وهو اتفاق يتم بين دولتين أو أكثر في مجالات متعددة مع احتفاظ كل دولة بسيادتها واستقلالها. فالدول المنضوية تحت الاتحاد لا تفقد شخصيتها ولا يترتب على الكونفدرالية قيام شخصية دولية جديدة في الساحة الدولية. ويعتبر مواطني كل دولة من دول الاتحاد أجانب بالنسبة للدولة الأخرى. ولكل دولة سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويمكن لكل دولة الانسحاب من الاتحاد.
ومن مقارنة المفاهيم السابقة نجد أن العقد الاجتماعي السابق يتطابق مع الاتحاد الفيدرالي، في حين أن العقد الاجتماعي الحالي ( المعدل ) يعتمد الاتحاد الكونفدرالي الذي يعطي إقليم شمال وشرق سورية كل أركان الدولة المستقلة، وبما يوضح بشكل جلي أن الإدارة الذاتية الديمقراطية جسم انفصالي عن الدولة السورية.
٤- العقد الاجتماعي السابق كان يحتوي على ثلاثة أقاليم: عفرين، الجزيرة، والقامشلي بينما في العقد الحالي يتكون الإقليم من سبعة مقاطعات: الجزيرة، دير الزور، الرقة، الفرات، منبج، عفرين و الشهباء، والطبقة.
وأغلب هذه المقاطعات ذات أغلبية عربية،
وهم يصرون على أنهم (شعوب) شمال وشرق سورية، ويزعمون أنهم متفقون أو متوافقون مع بقية الأقليات الأخرى ضمن الإقليم، ثم يؤكدون على : ” نحن شعوب شمال وشرق سوريا” ويصرون على علم وشعار وقَسَمْ خاص بهم.
علاوة على ذلك فإن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية يعتبر انضمام كل المكونات التي حددوها في عقدهم / دستورهم أمر محسوم ضمن إطار الإدارة الذاتية الديمقراطية بدون أخذ رأي أيّ من تلك المكونات، بما يفرض على تلك المقاطعات القبول بعملية قسرية لا ديمقراطية، وتتجاوز حقوق الإنسان، والمواثيق الدولية لتلك الحقوق، وقائم على ترسيخ أمر واقع تم تحديده بناء على أوهام تاريخية أو تمدد جغرافي، واستغلال للوضع الهش في الدولة السورية ضمن ظروف الأزمة الراهنة.
٥- يعتمد العقد الاجتماعي الحالي على مبدأ ( التوافق ) في القرارات التي تمس المكونات .. وبالتالي لا يصدر أي قرار أو حتى قانون داخل الإقليم إلا بالتوافق، بما يعني بالمحصلة عدم الوصول إلى قانون أو قرار (أي كما يجري بلبنان بما يعرف الثلث المعطل).
وهم بالمقابل داخل الإقليم (شمال شرق) فإن المكونات (غير الكردية) يكون تمثيلها حسب ديمغرافية المقاطعات (أي حسب التشكيل السكاني لمكون ما وثقله وحجمه) أي ضمن العقلية الإثنية، وليس على أساس الحقوق المتساوية والمواطنة المتساوية.
٦- يعتبرون الدفاع عن الإدارة الذاتية حق وواجب تجاه أي خطر داخلي أو خارجي استناداً إلى نظامهم الكونفدرالي ( بينما في الاتحاد الفيدرالي مثلا يكون رد الأخطار الخارجية والداخلية المحدقة بالاتحاد من صلاحيات المركز وليس لأي إقليم من الأقاليم). كما ينص العقد الاجتماعي على أن تحرير الأراضي المحتلة وعودة أهلها إلى مناطقها مسؤولية الإدارة الذاتية بالذات (طبعا المقصود هنا عفرين). أي ليس من مسؤولية الدولة السورية في حال قيام الكونفدرالية.
٧- الغريب حقاً أنه في العقد الاجتماعي الحالي وجود نص خاص بالديانة الأيزيدية وحمايتها والحفاظ عليها دون بقية الديانات؟؟ وكأن باقي الديانات درجة ثانية بما يتناقض مع المساواة الكاملة لكل مكونات الشعب السوري، ويتجاوز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبروتوكولاته، كما أن التركيز على الديانة الأيزيدية يثير الكثير من التساؤلات.
٨- هناك مؤسسات متعددة وكثيرة في العقد الاجتماعي الحالي ومحدد لكل منها صلاحياته، ومن ضمن المؤسسات: قوات حماية المجتمع، وقوات سورية الديمقراطية (الجيش)، ووحدات حماية المرأة، وجهاز المخابرات الوطني، وقوات الأمن الداخلي، وهناك أيضاً مكتب خاص للنقد، والمدفوعات المركزي وغيرها.
والجيش والمخابرات الوطنية والنقد الوطني لا تكون إلا من اختصاص مركز الاتحاد في الاتحاد الفيدرالي، أو في اللامركزية الإدارية السياسية، بينما عقدهم الاجتماعي يثبت مشروع دولة بكل خصائصها بما ينسجم مع تبنيهم شكل حكم الاتحاد الكونفدرالي.
وتأكيداً لاستقلالية سلطات الإدارة الذاتية فقد منحها العقد الاجتماعي / الدستور صلاحيات واسعة تنفيذية وتشريعية وقضائية كإصدار العفو العام، وإعلان حالة السلم والحرب، والقيام بأعمال الدبلوماسية بين الدول (سفارة)، وإعلان حالة الطوارئ….الخ
٩- لا يتحدث العقد الاجتماعي المعدل عن العلاقة التي تربط الإدارة الذاتية، أو إقليم شمال وشرق سوريا مع بقية الأقاليم، أو مع مركز الاتحاد الكونفدرالي، ولكنه أشار بنص عام واحد وهو: يحدَّد شكل العلاقة في جمهورية سوريا الديمقراطية فيما بين الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا مع المركز والمناطق الأخرى على جميع المستويات وفق دستور ديمقراطي توافقي.
وكما أشرنا سابقا فإن أي قرار أو قانون يحتاج لموافقة الثلث المعطل الذي يمثله إقليم شمال وشرق سوريا.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: من فوّض تلك القوى الكردية على إدخال كافة الإثنيات، والقوميات الأخرى ضمن الحدود التي فرضوها فرضاً، وعلى أي أساس افترضوا أن تلك المقاطعات قابلة وموافقة على الإدارة الذاتية الديمقراطية عبر دستور (عقد اجتماعي) تم إنشاؤه بشكل منفرد.
١٠- ثم يطرحون بالعقد الاجتماعي تبنيهم لنظام ديمقراطي بيئي، بدون توضيح ماهو هذا النظام الديمقراطي البيئي، وعلى أي مرتكزات، أو محددات يقوم هذا النظام..؟
١١- ينص العقد الاجتماعي الحالي في المادة 133 على أن هذا العقد الاجتماعي قابل للتعديل في حال تم التوافق على دستور ديمقراطي في سوريا.
أي أن تعديل العقد الاجتماعي له حالة تعديل واحدة فقط وهي إذا تم (التوافق ) على الدستور السوري العام. وإذا لم يتم التوافق على دستور توافقي يتجاوز إرادة الأغلبية التصويتية للشعب السوري .. هل سوف يعملون على إعلان الانفصال عن الوطن السوري وإعلان دولتهم المستقلة؟؟؟
١٢- وأخيراً .. وكما يبدو فإن هذا العقد الاجتماعي جاءت صياغته من قبل مجلس سورية الديمقراطية، ومن ورائها قوات سورية الديمقراطية بدون وجود أو إشراك لبقية القوى الكردية، ولا حتى إشراك المكونات الأخرى العربية، أو السريانية، أو الآشورية وغيرها..، وهم يعملون على فرضه بالقوة وبسلطة الأمر الواقع المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف الغربي.
كما إن إصدار عقدهم الاجتماعي المنفرد يتجاوز القرار الدولي الذي يؤسس لحل سياسي، وانتقال سياسي عبر حكم انتقالي، ودستور جديد، وانتخابات برلمانية ورئاسية.. بل إن هذا العقد / الدستور يستبق أو يقطع الطريق على القرار ٢٢٥٤ ومخرجاته عند تطبيقه.
١٣- وختاماً .. يمكن القول: إن حق تقرير مصير الأكراد في سورية مرتبط بحق تقرير مصير مشروع الأغلبية في سورية، وبأنه عندما تنجز الأغلبية مشروعها في الدولة / الأمة، فإن من حق الأكراد أن يقرروا مصيرهم إما بالبقاء في الدولة / الأمة متمتعين بكافة الحقوق والواجبات كمواطنين وفق دستور عام يتأسس على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والاتفاقات الدولية الناظمة لحقوق البشر التي تكفل حريتهم وكرامتهم ومساواتهم، أو تقرير مصيرهم بإرادتهم الحرة، وإلا فإن كل مكون يبقى مفتوحاً أمامه طريق إنشاء دولته الخاصة به، وتحويل سوريا إلى دول وكانتونات لا حصر لها.
ونعود إلى المقدمة لنقول: إن طرح العقد الاجتماعي لإقليم شمال وشرق سوريا، ورفع السقف إلى ما يتطابق مع تأسيس دولة مستقلة قد يكون لأحد اعتبارين:
١- إما أن هذا المشروع قد تم بإيعاز واضح من الإدارة الأمريكية انسجاماً مع المخططات الأمريكية في تقسيم المنطقة ومنها تقسيم سورية إلى دول متعددة بعد أن تم إيصالها إلى وضعية الدولة الفاشلة.
٢- وإما أن رفع السقف كثيراً (بالكونفيدرالية) من أجل التفاوض على عدم إنزال سقف مطالباتهم – تحت أي اعتبار – عن نظام الاتحاد الفدرالي تمهيداً للانتقال لاحقا إلى تأسيس دولتهم المستقلة وفق حلمهم الذي جسدوه في عقدهم الاجتماعي الاخير.