ريبورتاج إعداد: طاهر هاني
فرانس24
نشرت في: 15/01/2025
موفد فرانس 24 إلى سوريا – لم تكتمل فرحة السوريين الذين يعيشون في قرية الحرية بهضبة الجولان بسقوط بشار الأسد. فبينما كانوا يحتفلون برحيل النظام السابق، فوجئوا بتوغل الجيش الإسرائيلي في أراضيهم باستخدام الدبابات والجرافات. هذا التوغل دفع العديد منهم إلى ترك منازلهم لأكثر من أسبوع. وهي المرة الأولى التي تشهد فيها هذه المنطقة مثل هذا الانتهاك، ما أثار ذعر السكان الذين يخشون أن تقوم إسرائيل بضم منازلهم وأراضيهم بشكل نهائي… ريبورتاج
بعض منازل قرية الحرية وهي القرية الأخيرة قبل الوصول إلى الأراضي الذي ضمتها إسرائيل بعد سقوط نظام بشار الأسد. ولا تبعد البلدة عن مراكز الجيش الإسرائيلي سوى 200 مترا. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
“إسرائيل أفسدت احتفالاتنا بسقوط الطاغية بشار الأسد”. بهذه العبارة وصف أحمد علي طه، رئيس بلدية بلدة الحرية الواقعة على بعد 200 متر فقط من الموقع العسكري الإسرائيلي الأول، شعوره. وتوغل الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي السورية في 10 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد يومين فقط من سقوط النظام السابق.
وقال طه: “دخلوا (يقصد الجنود الإسرائيليون) بالجرافات والدبابات والشاحنات إلى القرية، وطلبوا منا المغادرة قبل الساعة الثالثة ظهرا. كما طلبوا أيضا من إمام مسجد إذاعة الخبر بمكبرات الصوت ليسمعه الجميع (حوالي 1000 شخص) وبالتالي يخلون منازلهم”.
وأضاف: “رفضت المغادرة. لكن عندما عادوا في اليوم التالي، وجدوني بمفردي في المنزل وهددني جندي شاب بمسدسه ووضعه على رأسي قائلا: إذا لم تغادر سنقتلك. ثم فتشوا كل أركان المنزل بحثا عن أسلحة محتملة، لكنني لا أملك أي سلاح”.
إحدى منازل قرية الحرية التي لا تبعد عن المواقع الإسرائيلية إلا بحوالي 500 مترا. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
قرية الحرية ليست الوحيدة التي دخل إليها الجيش الإسرائيلي بالدبابات والجرافات، مطلقا الرصاص في جميع الاتجاهات. “الهلع” و”الخوف” كانا أيضا من نصيب قرى مجاورة أخرى، على غرار “الحميدية” و “جباتا الخشب” وغيرها من القرى الواقعة في الجولان السوري بمحافظة القنيطرة المتاخمة لإسرائيل، والتي تبعد عن العاصمة دمشق بحوالي 70 كيلومترا جنوبا.
وجدير بالذكر أن إسرائيل تحتل منذ حرب الأيام الستة سنة 1967 ثلثي مساحة هضبة الجولان السوري. وقامت بضم هذه المساحات بقرار أحادي وبمباركة أمريكية. لكن هذا الإجراء لم تعترف به الأمم المتحدة التي استمرت في اعتبار الجولان أرضا سورية محتلة. وهضبة الجولان منطقة استراتيجية بامتياز وزراعية خصبة ومعروفة بمواردها المائية، استولت تل أبيب على مناطق جديدة منها في 2024 في أعقاب سقوط نظام الأسد.
” في منطقة الجولان، بشار الأسد كان يحمي مصالح وأمن إسرائيل بشكل غير مباشر”
في العام 1973، بعد معارك ضارية استطاع الجيش السوري أن يسترجع بعض أراضي هضبة الجولان (البعض يقدر المساحة المسترجعة بـ 684 مترا مربعا) لكن سرعان ما عاد الجيش الإسرائيلي ليحتلها من جديد. وفي 1974 أعادت تل أبيب لدمشق بعض المساحات، بما فيها مدينة القنيطرة التي فرض على سكانها منذ 10 ديسمبر/كانون الأول 2024 إجراءات أمنية مشددة ونقاط تفتيش متعددة، نصبها الجيش الإسرائيلي لرصد كل من يدخل ويخرج منها.
إسرائيل بعدما تقدمت بأكثر من 2 كيلومتر في الآراضي السورية قامت بحفر خندق عرضه 6 أمتار وعمقه 3 أمتار على طول الشريط مع سوريا لتعزيز أمنها وفرض الأمر الواقع على السوريين. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
ولم يقتصر التوغل الإسرائيلي الأخيرعلى السيطرة على جبل الشيخ وشريط فض الاشتباك في منطقة الجولان فحسب، بل تقدمت بحوالي12 كيلومتر في العمق السوري لتصبح المسافة الجديدة التي تفصلها عن أول منزل بالقرية السورية الأولى، 200 مترا فقط.
الجيش الإسرائيلي اغتنم نشوة الشعب السوري الذي كان يحتفل بسقوط بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الثاني 2024 ليتقدم أكثر باتجاه دمشق، ويبني خندقا جديدا على طول الشريط الحدودي عرضه 6 أمتار وعمقه 3 في قلب الأراضي السورية، وليكون الخط الفاصل الجديد بينه وبين سوريا ما بعد الأسد.
وفي ظل نظام بشار الأسد، لم يكن مسموحا لأي سوري الوصول إلى هذه المنطقة بسهولة. إلا إذا كان يسكن في إحدى قراها أو يملك تصريحا خاصا للدخول إليها. ما جعل أحمد علي طه يستنتج أن بشار الأسد كان “يحمي مصالح وأمن إسرائيل بشكل غير مباشر”.
جرف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون
وصرح في هذا الشأن: “بشار الأسد كان يرفض بناء المصانع والشركات لتطوير المنطقة وخلق فرص عمل جديدة. لأن ذلك سيجلب عددا كبيرا من السوريين الذين سيأتون من جميع المحافظات للعمل هنا. مما سيخلق مشكلة بالنسبة لأمن إسرائيل التي تفضل أن تبقى المنطقة زراعية ودون سكان”.

مسجد قرية الحرية. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
لكن منذ سقوط النظام السوري السابق، أصبح الوصول إلى قرى محافظة القنيطرة سهلا وذلك عبر الطريق السريع الذي يربطها بالعاصمة دمشق. ما جعل إسرائيل تحتل أراض سورية جديدة وتحفر خندقا طويلا لحماية حدودها، حسب أحد سكان قرية الحرية.
وتجولت فرانس24 في قرية الحرية وعاينت بنى تحتية لحقتها عدة أضرار، إذ تم تدمير بعض الطرقات بالجرافات ما جعلها غير قابلة للاستعمال، وجرف أراض زراعية خصبة واقتلاع أشجار الزيتون.
شارع دمرته الجرافة الإسرائلية بعدما غادر الجيش قرية الحرية مخلفا وراءه الدمار. فيما أغلق جميع الطرقات المؤدية إلى بحيرة صغيرة يصطاد فيها القرويون السمك. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
فيما تسمع وترى عن بعد الجرافات التي تحفر ليلا ونهارا الخندق الجديد، إضافة إلى أزيز الطائرات المسيرة التي تحلق في السماء دون توقف، ما يتسبب في إزعاج سكان المنطقة كلها. وحسب أحمد علي طه شرع الإسرائيليون في بناء الخندق منذ حوالي 4 أشهر كأنهم “كانوا يدركون بأن نظام بشار الأسد سيسقط”.
وأضاف: “في السابق، كانوا يوقفون الرعاة السوريين ويسلمونهم للهلال الأحمر السوري الذي بدوره يسلمهم للفروع الأمنية السابقة التي كانت تحتجزهم قي بعض الأحيان ثلاثة أشهر وتقوم بتعذيبهم دون أي سبب. من هذا المنظور الجيش الإسرائيلي أرحم من الأمن السوري”.
بنيامين نتانياهو: “هضبة الجولان ستبقى إسرائيلية إلى الأبد”
علاء سليمان (اسم مستعار) (62 عاما) يسكن في قرية “جباتا الخشب” التي تبعد حوالي 500 متر عن المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل بعد توغل جيشها في 10 ديسمبر/كانون الأول 2024. منذ ذلك الوقت، أصبح يخشى أن يعود الجيش ويستولي على “المنزل المتواضع الوحيد الذي أملكه”.
التقينا به في قرية أخرى تدعى “خان أرنبا” حيث يعمل كمساعد تقني، وقال لفرانس24: “الإسرائيليون يدخلون ويخرجون من قريتنا بدباباتهم وجرافاتهم بكل حرية. سمعت في الأخبار أنهم يريدون التقدم بـ15 كيلومترا داخل الأراضي السورية. ما يعني بأن القرية التي أسكن فيها ستكون تحت سيطرتهم. نحن نرفض هذا ونطلب من المجتمع الدولي إرغام إسرائيل على احترام الحدود المتفق عليها في إطار اتفاقية فض الاشتباك التي وقعت بينها وبين سوريا في 1974”.
دروز الجولان السوري المحتل… ضحايا الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
وأُنشئ بموجب هذه الاتفاقية خط عازل بين الجانبين (السوري والإسرائيلي) تحت إشراف الأمم المتحدة. لكن بعد سقوط نظام بشار الأسد، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بأن الاتفاقية انهارت، وأن “هضبة الجولان ستبقى إسرائيلية إلى الأبد”.
تبعد بلدة القنيطرة حوالي 70 كيومترا من دمشق. لكن الجيش الإسرائيلي دخل إليها في 10 ديسمير/كانون الأول 2024 في أعقاب سقوط نظام بشار وفرض حصارا عليها بالرغم من تواجدها على الأراضي السورية. سكان هذه المدينة فروا عند دخول الإسرائيليين لكنهم عادوا قبل أسبوع إليها. 12 يناير/كانون الثاني 2025
تبعد بلدة القنيطرة حوالي 70 كيومترا من دمشق. لكن الجيش الإسرائيلي دخل إليها في 10 ديسمير/كانون الأول 2024 في أعقاب سقوط نظام بشار وفرض حصارا عليها بالرغم من تواجدها على الأراضي السورية. سكان هذه المدينة فروا عند دخول الإسرائيليين لكنهم عادوا قبل أسبوع إليها. 12 يناير/كانون الثاني 2025 © طاهر هاني فرانس24
نفس القصة تقريبا روتها عبلة العبيدي (اسم مستعار) التي تسكن قرية الحرية التي “لم تتجرأ للخروج لمشاهدة الجنود الإسرائيليين عندما دخلوا إلى قريتها”، كما أكدت لفرانس24.
تعيش عبلة في هذه القرية منذ 25 عاما. وهذه هي المرة الأولى التي أجبرت على تركها لمدة 6 أيام بطلب من الجيش الإسرائيلي. “ذهبنا إلى قرية خان أرنبا لدى بعض الأقارب وبقينا هناك 6 أيام. لكن الرجال استطاعوا أن يبقوا في المنازل بعدما تفاوضوا مع الجيش الإسرائيلي الذي قبل في نهاية المطاف”.
وتتذكر هذه المرأة الجو المشحون الذي ساد عندما دخل الإسرائيليون بـ”الدبابات والجرافات”. “أمهلونا ساعة واحدة من الزمن لكي نغادر منازلنا. أخذت معي فقط ثيابي الخاصة وتركت كل شيء”.
“قوات الأمم المتحدة لا تصلح لأي شيء”
وتابعت: “في السابق، كنا نشعر بالأمن بسبب انتشار قوات الأمم المتحدة على خط الشريط الحدودي، لكنها انسحبت اليوم بعد تقدم الجيش الإسرائيلي على أراضينا”، مشيرة إلى “أنها المرة الأولى التي تشعر فيها بالخوف بعد 25 سنة من العيش في قرية الحرية”، متمنية أن يبقى الجيش الإسرائيلي “بعيدا عن المنزل لأنه قادر أن يطلب منا الرحيل من قريتنا في أية لحظة”. ولن تنسى هذه المرأة اليوم الذي دخل فيه الجيش الإسرائيلي إلى قريتها ليلا بدبابتين مطلقا النار في الهواء قبل أن يعود إلى مواقعه.
وتعول عبلة العبيدي كثيرا على السطات الجديدة في دمشق، لكي “توقع على اتفاقية مع الجيش الإسرائيلي حتى لا يعتدي علينا مرة أخرى”، منوهة في الوقت نفسه بأنها قادرة على العيش في ظل الحكم الإسرائيلي “إذا تركونا في منازلنا وفي أمان”.
لا يتفق رئيس بلدة الحرية مع هذه المرأة، بل يريد “إما أن يبقى الجيش الإسرائيلي على الحدود أو يغادر كليا هذه الأرض لأنها أرض سورية”، مضيفا أنه لا “يخاف منهم، بل أخاف فقط أن يرغموني على مغادرة المنزل الذي نسكن فيه، نحن لا نملك مسكنا آخر. وعندما سألناه عن دور الأمم المتحدة في استتباب الأمن في المنطقة، أجاب ضاحكا: ” عندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى القرى، القوات الأممية قامت بالفرار. في الحقيقة لا يصلحون لأي شيء”.
ويعول أحمد علي طه كثيرا على السلطات الجديدة لتحسين وضعهم اليومي وإيجاد حل للصراع مع إسرائيل، منتقدا بشار الأسد الذي “لم يطلق ولو رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل طيلة 24 سنة من الحكم”، ومستعملا العبارة التي كان يستخدمها دائما والتي مفادها “نحتفظ بحق الرد”.