محمود الريماوي – العربي الجديد
12 , أكتوبر , 2024
بعد مضي عام على حرب الإبادة المستمرة ضدّ قطاع غزّة وأهله، تجنح المواكبة السياسية العربية لها إلى مزيد من الضعف، فقد خفت الحديث عن مقترحات وقف إطلاق النار، وتكاد هذه المقترحات تتطاير أوراقاً في مهبّ الريح، وأجدّ تحرّك في هذا الشأن كان للوزير الأميركي أنتوني بلينكن نحو القاهرة (17 سبتمبر/ أيلول الماضي)، فدعا القيادة السياسية فيها إلى قبول الفِكَر الإسرائيلية بأن يكون الوجود الإسرائيلي في محور صلاح الدين (فيلادلفي) بأقل حجم ممكن، وهو ما رفضته القاهرة متمسّكةً بانسحاب القوات الغازية من معبر رفح ومحور صلاح الدين في مرحلة أولى. وقد عاد بلينكن على أعقابه، مسجّلاً أنّ دوره في التوسط، نحو عام، هدف إلى تبديد الوقت، ومحاولة تمرير الشروط الإسرائيلية، والاستغراق في عملية وقف إطلاق النار، وليس فرضه.
بدلاً من الضغط على حكومة نتنياهو، عمدت إدارة جو بايدن في الشهرَين الأخيرَين لولايتها إلى منح ضوءٍ أخضرَ لتلّ أبيب لإطلاق حرب إضافية على لبنان وحزب الله. ويستغلّ البيت الأبيض هذا التطوّر الجديد لإلحاق الدمار بالبنية الاجتماعية والديمغرافية لحزب الله، بما يعنيه ذلك من حرب على مناطقَ واسعةٍ مكتظّة بالسكّان في الجنوب وفي العاصمة بيروت وفي منطقة البقاع شرقي البلاد. ولا يتوانى مسؤولون أميركيون عن القول إنّ مقترحهم بمشاركة فرنسا لوقف إطلاق النار بين الجانبَين قد سُحِب من التداول. ومعنى ذلك أنّه في ضوء تزايد حجم المخاطر بتوسّع الحرب، فإنّ واشنطن عِوضَاً عن التشديد على وقف إطلاق النار، تسحب هذا الطلب عن الطاولة إكراماً لمجرم الحرب نتنياهو ووزرائه المتطرّفين، فيا له من منطق سياسي سديد! وخلال ذلك، تسمح إدامة الحرب على لبنان وتوسّعها، للسياسيين المتنفّذين في واشنطن، من ذوي النظر للأمور بعين واحدة، بصرف أنظار العالم عمّا يجري يومياً في غزّة من فصولٍ دمويةٍ، وفصلها الأخير استهداف ما تبقّى من مستشفيات وتنفيذ خطّة الجنرالات بجعل شمال غزّة منطقةً عسكريةً مغلقة، مع دفع السكّان (400 ألف نسمة) للنزوح عنه، ومن يتبقّى فإنّه سوف يُحرَم من المساعدات الغذائية. وتهدف الخطّة إلى تثبيت احتلالٍ تدريجي للقطاع يبدأ من الشمال، وتبشير غلاة المستوطنين بأنّ إعادة الغزو الاستيطاني في غزّة لم يعد أمراً بعيد المنال. هذا هو مآل مقترحات بايدن لوقف إطلاق النار، من دون أن يشعر الرجل بالمساس بمكانته رئيساً للدولة العظمى، الدولة التي لا يعنيها مصير مقترحات رئيسها، وقد تعزَّزت بصدور قرار دولي بهذا الشأن. وواقع الحال أنّ التخلّي الأميركي العملي عن جهود وقف إطلاق النار، يضع نهايةً لمساعي الوساطة بهذا الخصوص، وبعد أن أشاع الجانب الأميركي أنّه ماضٍ في وضع فِكَرٍ للتجسير بين مطالب حركة حماس ومطالب إسرائيل، إلّا أنّ الهجوم الاسرائيلي على لبنان قد نحّى هذا الأمر جانباً، بل إنّ الجانب الأميركي، وقبل نحو شهر من انتهاء ولاية بايدن، قد وضع نهايةً لهذا الأمر من طرف واحد بمعزل عن الوسطاء العرب الذين نشطوا معه بصورة حثيثة في عشرة أشهر، لكنّ الطرف الأميركي تخلّى عنهم، بما يكشف مستويي “الجدّية” و”المصداقية” اللتين بلغتهما إدارة بايدن في التعامل مع ملفّ شديد الخطورة، كما في التعامل مع الأصدقاء والشركاء العرب، مع منح نتنياهو مزيداً من الفرص لمواصلة حربه الدموية على أبناء غزّة المنكوبين. فيما يجري، بثّ تسريبات إعلامية بأنّ مواصلة نتنياهو ارتكاب مجازره في غزّة، وإضافة لبنان (وسورية جزئياً) إلى مخطّط نشر الدمار، إنما يهدف إلى الضغط على يحيى السنوار للقبول بما يسمًّى إسرائيلياً “صفقة الأسرى”، والصفقة هي مقترحات بايدن، يضاف إليها وجودٌ عسكريٌّ في محور صلاح الدين وفي معبر رفح، وتقييد تحركّات الناس داخل القطاع.
اقتراف المجازر بدم باردٍ وبطريقة استعراضيةٍ، يُشكّل وسيلةَ ضغطٍ سياسيةٍ أو حتّى نشاطاً سياسياً، في نظر نتنياهو، وهو ما تمالئه فيه واشنطن بغير خجل
وهكذا من غزّة إلى لبنان، فإنّ اقتراف المجازر بدم باردٍ وبطريقة استعراضيةٍ، يُشكّل وسيلةَ ضغطٍ سياسيةٍ أو حتّى نشاطاً سياسياً، في نظر نتنياهو، وهو ما تمالئه فيه واشنطن بغير خجل، التي لا يعنيها سوى بقاء مطار بيروت مفتوحاً بعض الوقت لتمكين الرعايا الأميركيين والغربيين من المغادرة، مع غضّ الطرف عما يتعرّض له اللبنانيون والفلسطينيون، فأنظار بايدن تتجّه إلى استهداف إيران على نحو لا يفتح الباب أمام حرب شاملة قد تتدخّل فيها واشنطن، وقد يسقط فيها جنود أميركيون، وقد تتأثّر بذلك حظوظ كامالا هاريس في الفوز بانتخابات الرئاسة. أمّا الدمار والمذابح، من غزّة إلى الضفة الغربية، إلى لبنان وسورية، فهي مُجرَّد نتائج عرضية لحرب العالم الحرّ على الإرهاب.
والآن، ثمّة حَراك داخل المؤسّسات الأمنية الإسرائيلية، وباتجاه نظيرتها الأميركية، يهدف إلى ربط وقف الحرب على لبنان بإنجاز صفقة الأسرى، وفق ما تحدّث به موقع والاه الإسرائيلي يوم الخميس الماضي، ويستبعد المرء أن يستجيب نتنياهو لهذا الطرح، إلّا إذا وافقت “حماس” على الصيغة الإسرائيلية للصفقة، وهو أمر مُستبعَد أيضاً.
لن تنتهب ولاية بايدن بما يسرّه، لخضوعه لصهيونيته، بدلاً من الاحتكام إلى المصالح الأميركية ومصلحة إحلال الأمن في العالَم
في وسع الوسطاء العرب، قبل نفاد الوقت على ولاية بايدن وأركان إدارته، الخروج بتقييم نزيه لما آلت إليه جهودهم في عشرة أشهر، وإعادة التذكير بتنصّل نتنياهو من أيّ التزام تجاه هذه الجهود، والتذكير بأنّ الطرف الأميركي رغم انتقاداته لنتنياهو وتبرّمه من سلوكه الفجّ، قد تلكّأ لأسباب مختلفة وغير وجيهة عن توجيه ضغوط كافية على المعتدي الإسرائيلي، وهو ما شجّع نتنياهو على المماطلة والمراوغة، وأسوأ من ذلك أنّه شجّعه على ارتكاب مزيد من الفظائع. ذلك أنّه، وسط هذا الجمود الدموي، تزداد الحاجة لكسر هذه الموجة المقيتة من إرهاب الدولة، ولو ببيان سياسي يسمِّي الأشياء بأسمائها، ويشدّد على أنّ وقف الحرب على غزّة يفتح الباب لوقف الحرب على لبنان، ويُبعد شبح حرب شاملة.
لقد بدأ الجموح الحربي المُقترِن بالتطهير العرقي مع غزّة، وضدّ كلّ مَنْ فيها، وما زال هذا الهوس المحموم على حاله، غير أنّ الأحاديث العلنية، وتلك التي في الكواليس، تدور هذه الأيام بشأن مخاطرَ داهمةٍ لحرب إيرانية إسرائيلية قد تُلحق السوء بدول خليجية وبمصادر الطاقة، وقد تفتح الأبواب لسلسلة من المواجهات لا أحد يعلم إلى أين وكيف تنتهي. وبهذا، فإنّ إدارة بايدن لا تجد ما تفعله سوى اللهاث وراء مغامرات نتنياهو، من غزّة إلى الضفّة الغربية، إلى لبنان، إلى سورية والعراق، وصولاً إلى إيران، فيما نحن نلهث وراء بايدن. والراجح أنّ الأسابيع المتبقّية له في البيت الأبيض لن تسعفه في اختتام ولايته بما يسرّه، وذلك نتيجة خضوعه لنازعه الأيديولوجي (صهيونيته)، بدلاً من الاحتكام إلى المصالح الأميركية ومصلحة إحلال الأمن في العالم وفي منطقتنا، علماً أنّ الشروع في إطفاء حريق غزّة من شأنه تبريد الأجواء الإقليمية هنا وهناك، غير أنّ الوقت ينفد أمام الرئيس ونائبته.