المصدر موقع المفكر – هيئة التحرير
الدكتور برهان غليون
هذا المقال نشر في العام 2018، ويعاد نشره مجددا للأهمية
سبتمبر 24, 2024
على الرغم من مرور نحو ثلاثين عاما على تطبيقها، لم تنجح سياسات طهران في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية. لم تفكّ العزلة التي فرضت عليها من الغرب، وإزالة قرار العقوبات التي لا تزال تخضع لها من دون أفق واضح للخروج منها، ولم تحدّ من تغول إسرائيل ورفضها الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. كما أنها لم تجعل من إيران الدولة الإسلامية المركز، ولا كرّست هيمنتها الإقليمية، وإنما زادت من عزلتها، وألبت عليها أكثر الدول العربية والإقليمية الخائفة من عملياتها التخريبية، ولم يساهم برنامجها العسكري الكبير واستراتيجيتها التوسعية في تعزيز أمنها القومي، ووقايتها من الانتفاضات الشعبية، ولكنه أطلق عنان أزمة إقليمية وحروب أهلية طويلة وعنيدة، لن يتأخر انتقالها إلى داخل إيران نفسها، ولم تفض سياسة تصدير الثورة “الإسلامية” إلى القضاء على نظم الطاغوت، وتحرّر شعوب المشرق العربية والإسلامية من الاستبداد العميم، لكنها أجهضت الجهود الهائلة التي قدمتها هذه الشعوب، من أجل التخلص من طغاتها، وأولهم حاكم سورية الحليف، وأدخلت المنطقة بأكملها في أزمةٍ تاريخيةٍ متعدّدة الأبعاد والمصادر، ليس هناك في الأفق بعد أمل بانحسار لهيبها، واقتراب نهايتها.
(1)
سواء جاء ذلك عن وعي أو من دون وعي، كانت الحصيلة النهائية لسياسات إيران الخمينية الموجهة نحو الخارج الإجهاز على توازنات المنطقة جميعا، الدينية والثقافية والسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وتحقيق أوسع عملية تدمير شهدتها المنطقة: تدمير نسيج مجتمعاتها الوطني أولا، وتدمير دولها وتقويض بنياتها المدنية والقانونية ثانيا، وتدمير العلاقات التاريخية بين شعوبها ثالثا، وتدمير صورتها ورصيدها الثقافي والديني والسياسي لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي، وتعريضها لجميع الشكوك والاتهامات الفاسدة رابعا، وتدمير حضارتها ومدنها وقراها وتشريد شعوبها، بالمعنيين المادي والمعنوي، للكلمة خامسا، وهي العملية التي كان لطهران ومليشياتها الطائفية الدور المباشر والأكبر فيها.
حصل ذلك ببساطة، لأن نظام ولاية الفقيه ذو البنية البابوية القيصرية، بدلا من العمل على امتصاص التوترات والانقسامات وتهدئة المخاوف من عواقب ثورة إيران الشعبية الكبرى، وتطوير التعاون الإقليمي، والسعي إلى بناء تفاهم عربي إسلامي في وجه سياسات الهيمنة الاستعمارية الغربية والروسية، ومحاصرة سياسة التسلط والعربدة التي تمارسها إسرائيل على المنطقة، أراد أن ينافس الغرب وتل أبيب على موقع الهيمنة والسيادة، ووضع نفسه ندّا للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وقرر الركض المجنون وراء سراب بناء دولة خلافة إمبرطورية إيرانية على أشلاء البلدان والشعوب العربية الضعيفة.
واعتقدت إيران أنها لن تتمكّن من ذلك إلا بتركيز كل جهودها وموارد شعبها على تطوير
صناعة الأسلحة الاستراتيجية الأكثر كلفةً وخطورة وتهديدا، وتمويل المليشيات التخريبية في كل بلد تجد فيه موطئ قدم لها، واختراق النظم السياسية والاجتماعية العربية وتضييق الخناق عليها، على أمل أن يمكّنها ذلك من السيطرة عليها، وتوجيه مواردها البشرية والمادية لتحقيق أهدافها التوسعية. ولم تتردّد من أجل الوصول إلى مبتغاها في إضرام نار حربٍ طائفيةٍ، سنية شيعية إقليمية، بذلت الأجيال المشرقية الماضية جهودا مضنية لإخمادها.
لكنها لم تنجح في أن تتحوّل، كما طمحت، إلى القوة الرئيسية المهابة في إقليمها، ولا أصبحت بفضل نفوذها العسكري وتهديداتها المحاور المفضل للغرب والمجتمع الدولي عن المنطقة كلها. فلأنها استخدمت قوتها ومواردها لأهدافٍ سلبيةٍ أصبحت بالعكس البعبع الذي يبث الذعر في قلوب شعوب المشرق ودوله، ويفجر مخاوف الغرب على مصالحه، وعلى الاستقرار والسلام في أكثر المناطق تفجرا في العالم، بعدما صار تسعير النزاعات وإشعال الحروب وتصديرها بضاعة طهران الرئيسية في التعامل مع بلدان المنطقة والعالم. وهي الآن مقدمة عاجلا أم آجلا على دفع فواتير الكوارث التي تسببت بها في أكثر من دولة ومكان.
(2)
أول هذه الكوارث تعنى بالقضية الفلسطينية التي جعلت طهران من الدفاع عنها، بل من تبنّيها، عنوانا لسياستها التوسعية ومصدر شرعيةٍ لغزواتها المتكرّرة والمتعاقبة في أراضي من كان ينبغي أن تقف مدافعةً عن حقوقهم واستقلالهم. لم تساعد سياسة إيران في هذا الميدان على تعزيز موقف الشعب الفلسطيني، ولكنها تحولت إلى تواطؤ موضوعي مع تل أبيب على تقسيم الحركة الوطنية الفلسطينية، وشقّ صفوفها، ومسخ سلطتها بين “شبه دولتين” في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحويل القطاع إلى أكبر معزل وساحة بؤس وموت سياسي ومعنوي، وأحيانا مادي، لمليوني فلسطيني يقطنونه.
وقدّم تحطيم الوحدة الوطنية الفلسطينية، والأزمة والصراعات الداخلية التي رافقتها ولا تزال، أكبر ذريعة لإسرائيل للتهرّب من أجندة المفاوضات الدولية المفترضة لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة. وسمحت لتل أبيب بالاستمرار، من دون أن تخشى أي ضغط سياسي أو عسكري، إقليمي أو دولي، في تطوير مشاريع الاستيطان، وتوسيع رقعة الاحتلال، على الرغم من ارتفاع نبرة المقاومة في طهران وبيروت والمليشيات الرديفة.
أما عن تأثير سياسة هذه المقاومة على وضع القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، فليس من المبالغة القول إن إسرائيل لم تكن تحظى برعاية شاملة وعمياء لدى الغرب مثلما تحظى بها اليوم، ولم يكن العالم أكثر احتضانا لها، وتسامحا مع مشاريعها الاستيطانية وممارساتها العنصرية كما صار عليه في السنوات الاخيرة. هكذا لم يلق اعتراف واشنطن مؤخرا بالقدس عاصمة “أبدية” لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها، مخالفة لجميع القرارات الدولية حول الاحتلال، أي رد فعل عربي أو إسلامي أو دولي ذي معنى، ولم يثر حتى غضب الشارع العربي الشعبي، ولا حرّك أحزابه ومنظماته، فما بالك بموقف العواصم الغربية. لقد حوّلت الحروب والنزاعات والمخاوف، وطوفانات الدماء التي أسالتها مليشيات طهران ومناوراتها في عموم بلدان المشرق أنظار العالم بأجمعه عن قضايا المجتمعات وحقوقها، وفي مقدمها قضية فلسطين، حتى لم تبق هناك نافذة للإطلال على أزمات المنطقة ومآسيها، إلا من الزواية الإنسانية التي أصبح همها البحث عن حلول ومعالجات للآثار المأساوية لحروب الوكالة الإيرانية.
لم يساهم “خيار المقاومة”، ولا المحور الذي تبلور من حوله، والذي وضع نظام الأسد، قاتل شعبه، في صلبه، في ردع إسرائيل أو إضعاف موقفها الاستراتيجي ذرة واحدة. لقد ساعدها
بالعكس على فك عزلتها السياسية، وقدّم لها شروط صعودها وطفورها إلى قوة إقليمية رئيسية قاهرة ومعترف بها. وهي تستطيع اليوم التنزه بطائراتها في فضاءات السيادة العربية والإيرانية كما تشاء، وتستعرض عضلاتها، وتخوض حربها الخاصة مع إيران نفسها على الأراضي السورية، ضد القواعد والمليشيات الإيرانية، من دون أن تخشى أي مضاداتٍ أو صواريخ باليستية إيرانية من أي نوع، ولا من يجرؤ، وخصوصا طهران، على تحدّيها، بل حتى الاعتراف بما تتكبده نتيجة غاراتها من خسائر وانهيارات.
ولا تقل كارثة سورية أهميةً عن كارثة تدمير القضية الفلسطينية وتخريبها، إن لم تفقها أضعافا مضاعفة. وهي حالة واحدة من بين حالاتٍ كارثية عديدة أخرى، لا تزال آثارها متواترة في العراق واليمن وغيرهما. فلا يغيب عن أحدٍ أن تدخل طهران في سورية جاء للحفاظ على نظام الأسد من السقوط أمام ثورةٍ شعبيةٍ سلميةٍ ومدنيةٍ أكثر من عادلة، وهو النظام الذي لا يكفّ الإيرانيون في الجلسات الخاصة عن الحديث عن عمق فساده وضلاله السياسي وحمقه واستهتاره بكل المصالح والقيم والمبادئ والقوانين. وهو كذلك بالفعل، كما هو الحال لدى أي عصابة إجرامية أخرى، مع فارق أننا هنا أمام عصابة تتحكم بجهاز دولة كاملة.
ولا أحد ينكر أيضا أن هذا التدخل الإيراني المتعدد الأشكال للحفاظ على نظام الإبادة الجماعية كان السبب الرئيسي للوضع الذي وصلت إليه سورية، من انحلال الدولة، وتغول المليشيات الطائفية، وتدخل الجيوش الأجنبية، وتناسل المنظمات الإرهابية، في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تراهن إيران على قوة سورية، وتطوير قدراتها العسكرية والشعبية في الإعداد لأي مواجهة محتملة مع إسرائيل. كما لم يخف القادة الإيرانيون ولا يخفون أن الهدف من هذا التدخل هو بناء هلال إمبرطوري شيعي، يمتد من قم في شرق إيران إلى شاطئ المتوسط، وأنهم مستعدون للقتال حتى آخر سوري وعراقي وأفغاني، وإيراني عندما يضطر الأمر، لتحقيق هذا الحلم التاريخي الكبير.
(3)
نتيجة ذلك تفقأ العين اليوم: التدمير شبه الكامل لسورية، دولة وشعبا وحضارة، وتشريد شعبها، في الداخل والخارج، والسعي المحموم إلى إعادة هندستها الديمغرافية لصالح المستوطنين الجدد، من أبناء المليشيات الأجنبية والمشردين غير السوريين، بحيث يضمن الفاتح الجديد استحالة عودة سكانها الأصليين، وبالتالي السيطرة النهائية عليها، والاستفراد بتقرير مصيرها. وفي سبيل ذلك، لم تتوقف طهران عن دسّ خبرائها ومستشاريها وعملائها في أجهزة الدولة السورية والتحكّم بها من الداخل، مدعمةً وجودها السياسي ببناء عشرات القواعد العسكرية في مناطق استراتيجية حساسة، تضمن سيطرتها على البلاد والإمساك القوي بها، وتعطيل أي مخرج سياسي للحرب، أو أي احتمال لعودة الحياة الطبيعية، اليوم وفي المستقبل، ما لم تنسجم مع أجندة هيمنتها الإقليمية والدينية، وتراعي مصالحها التوسعية.
لكن طهران وصلت اليوم إلى ساعة الحقيقة. وهي تواجه الانهيار الكامل لمشروعها، وتدرك أنها وقعت في الفخ الذي صنعته بيدها ونصبته لغيرها، وتجد نفسها في موقف السارق الذي ألقي القبض عليه بالجرم المشهود، في اللحظة التي همّ فيها بالخروج بغنيمته الكاملة تحت جنح الظلام، معتقدا أن لن يراه أحد. الدول الرئيسية المعنية بتقاسم الفريسة السورية التي أجهز عليها الإيراني تتفق في ما بينها على إخراج طهران وحدها من دون غنيمةٍ، وترى في طردها خارج سورية الطريق الوحيد إلى إنهاء الحرب الوحشية التي كانت طهران الموقد الرئيسي فيها منذ البداية إلى اليوم، والتي لا ترى لها حلا يرضي أطماعها من دون استمرارها.
من سخرية القدر المرّة أن يقع الاختيار، من أجل تدمير القواعد العسكرية، وتصفية النفوذ الايراني في سورية اليوم، على إسرائيل نفسها التي جعلت طهران من مقاومة غطرستها وسياستها في المنطقة فرس سباقها، لكسب عطف الجماهير الإيرانية والعربية وتأييدها، كما بنت على التحدي الظاهري لغرورها والاستهزاء بها عقيدة توسعها ومصدر شرعية حروبها في الأرض العربية.
لا تختلف نتائج سياسة ولاية الفقيه تجاه منطقة الخليج العربي التي طمحت طهران دائما أن تلعب دور الشرطي فيها، قبل الخمينية وبعدها، في كارثيتها عن نتائجها في الأمثلة السابقة، فبدل أن تحث ضغوط طهران المكثفة والمتواصلة، العسكرية والأمنية والطائفية والسياسية، حكومات الخليج على التسليم لها والتعاون معها، أو أن تشجع الغرب، كما كان الحال في عهد الشاه البائد، إلى تليين موقفه من طهران، أو التفاهم معها كما أملت لتأمين مصالحه الإقليمية فيها، بدل ذلك زرعت الرعب في أوساطها، ودفعت بها إلى النقيض تماما مما سعت طهران لتحقيقه. لقد شجعتها على الذهاب حيث لم يكن يخطر لعربي حصوله، أو حتى التفكير فيه: الرهان على إسرائيل لموازنة القوة الإيرانية ومواجهة تغول دولة الحرس الثوري ومخاطر عدوانها. وفي اعتقادي، لا يحول دون دخول بعض دول الخليج العلني في هذا الحلف ضد إيران سوى خشيتها من ردود الفعل الشعبية، واستفزاز الرأي العام الذي لا يثق بالنوايا الإسرائيلية أكثر مما وثق بنوايا طهران الخمينية، ويدرك بالسليقة ما تكنّه إسرائيل ومشروعها الاستيطاني والاستعماري من عداء مستدام وأصيل لحقوق الشعوب العربية، وفي مقدمها حقهم في الحرية والتخلص من طغاتهم.
هكذا فتحت إيران الخمينية بيدها الباب أمام صعود حقبة الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية التي تعد نفسها للحلول محل الحقبة الإيرانية التي لن يتذكّر العرب والإيرانيون وجميع شعوب المنطقة منها، بعد سنوات أفولها، صورة أخرى غير تفجير الحروب بالوكالة وإدارتها، وتدمير الدول، واستنزاف المجتمعات، واستسهال القتل وسفك الدماء.
لا يخطئ الرأي العام العربي عندما يربط بين إسرائيل واستمرار نظم القمع وإرهاب الدولة القائمة في بلدانه. وهو مدرك أنه لا يوجد أي احتمال في أن يغير أفول الحقبة الإيرانية لصالح حقبة الهيمنة الإسرائيلية شيئا من الأوضاع القاسية الراهنة، أو يقدم مخرجا من الكوارث القائمة ويشهد ولادة مزيد من الأمن والسلام في هذه المنطقة المدانة. ستتابع إسرائيل الخارجة منتصرة على أنقاض أحلام الإمبرطورية الإيرانية الإسلاموية، بعدما خرجت منتصرة على أنقاض دول جامعة الدول العربية ورابطتها “القومية”، لكن بحماسة وقوة أكبر، سياسة الاستيطان وقطع الطريق نهائيا على أي تجسيدٍ للسلطة الفلسطينية في دولةٍ مهما كانت ناقصة. وسوف تستمر على الرغم من تفوقها العسكري الساحق، وسيطرتها الشاملة مع حلفائها الغربيين، في سياسة إضعاف الدول العربية وتفكيك مجتمعاتها وتفجيرها من الداخل، استكمالا لما قامت به طهران، وليس بالضرورة بوسائل أقل بدائية وفجاجة. ومنذ الآن، تسعى تل أبيب إلى انتزاع اعتراف واشنطن بضم الجولان والاشتراك معها في بسط السيطرة على جنوب سورية، والتحكم بمستقبله: منطقة محايدة وفاصلة محرمة على أي وجود عسكري لا يخضع لموافقتها.
لن يقلل مشهد الانهيار الاستراتيجي والسياسي والأخلاقي معا للعالمين العربي والإسلامي، وتبخر الحلم الإمبرطوري الإيراني آخر حلقاته، من شعور إسرائيل بالتفوق والحق في السيطرة والتحكم بجدول أعمال المنطقة والاستبداد بتقرير مصيرها، ولكنه سوف يدفعها علنا إلى وراثة الحلم الإيراني الإقليمي ذاته، والبناء عليه. ولن تجد العقلية العنصرية السائدة عند نخبتها الحاكمة اليوم، ومنطق الغيتو الذي يتحكّم بنفسية وثقافة القسم الأكبر من نخبها الاجتماعية، السياسية والثقافية، فائدة من استغلال الفرصة التي تقدمها هزيمة طهران، وفشلها في معركة السباق الإقليمي على السيادة والهيمنة، للتقرّب من شعوب المنطقة، والتفاهم معها لإيجاد حلول للمشكلات والنزاعات القائمة، على سبيل السعي إلى دمج نفسها في المنطقة. سوف تنظر، على الأغلب، إلى خراب عالم العرب والمسلمين، باعتباره فرصتها التاريخية لتحقيق كل ما لم تنجح في تحقيقه حتى الآن. وسوف يضيف التفوق الاستراتيجي الذي جرّبته بمناسبة سحقها الوجود العسكري الإيراني في سورية عنجهية جديدة إلى عنجهيتها الطبيعية والمعتادة، ويفاقم من غطرسة القوة التي تدفعها إلى الاعتقاد بأنها قادرة اليوم، أكثر من أي وقت سابق، على استغلال النفوذ الذي كسبته لبسط سيطرتها الكاملة على المشرق، واستعادة التقاليد السياسية للنظم الاستبدادية في تقسيم المجتمعات، وتوسيع دائرة نزاعاتها واستخدامها لحسابها، ما يهدّد بجعل المشرق العربي، سنوات طويلة قادمة، حاضنة لمشاريع المعازل العنصرية المتعادية والمتوازية، ومسرحا للصراعات الدائمة بين القوميات والطوائف والمناطق المتناحرة، وتربة خصبة لاستنبات وتكريس نظم الطغيان القرقوشية التي تضمن الأمن لإسرائيل على حدودها، والتي أصبح لديها نموذج حي تستطيع أن تستلهمه في إرث نظام الإبادة الجماعية الذي فهم بشار الأسد بالغريزة الحيوانية أن التمسك به هو الضمانة الأكبر للتوافق مع أهداف إسرائيل، وتعظيم حظوظ بقائه في السلطة إلى أقصى ما تسمح به تجارة الإرهاب وسفك الدماء.
لا يقدّم أفول القوة الإيرانية أي عزاء، على الرغم من كل الكوارث التي تسببت بها للعرب وغيرهم. إنه يثير بالعكس الشعور بالسخط والأسى للفرص الضائعة لجمع الجهود العربية والإيرانية، ليس في سبيل مواجهة تسلط القوى الخارجية وتغول القوة الإسرائيلية فحسب ولكن بدرجة أكبر لشق طريق التنمية والنهوض والتقدم لشعوب المنطقة، وفي مقدمها الشعب الإيراني نفسه الذي عليه أن يواجه في المقبل من السنوات كارثةً لا تقل حجما عن الكوارث التي واجهتها الشعوب العربية في العقود الثلاثة الماضية. وسوف يحتاج هو أيضا إلى عقود طويلة قبل أن يزيل عن صدره أنقاض انهيار إمبراطوريةٍ مذهبيةٍ كبيرةٍ أصيبت بداء العظمة والجنون، وفقدت صوابها، ولم يعد أمامها أي أمل في البقاء سوى بالعودة إلى العمل مع إسرائيل، واستعادة التحالف معها، كما كان الأمر في عهد الشاه، وخلال الحرب الإيرانية العراقية. أما نحن الذين فقدنا توازننا، ولا نزال نسير على أرضٍ تميد من تحت أقدامنا، ولا أمل واضحا بعد في أي بعثٍ أخلاقي قريب يعيد إحياءنا، فمن كابوس إلى كابوس.
د.برهان غليون