المفكر العربي منير شفيق
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
موقع عربي21
8/8/2023
تناقش هذه المقالة بُعداً من الأبعاد التي تعطل إرساء نظام ديمقراطي من النمط الذي مثلته الديمقراطية الغربية من حيث الانتخابات والتداول على السلطة، لا سيما في البلاد العربية.
وهذا البُعد مرتبط بوجود الكيان الصهيوني في فلسطين. فوجود الكيان الصهيوني مثّل مشروعاً فرضه الاستعمار البريطاني ودعمته الدول الغربية بخاصة، منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. وقد تم ذلك بالقوة العسكرية القاهرة، ومن خلال الغزو الاستيطاني لمجموعات يهودية صهيونية قامت باقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني، والحلول مكانهم وإقامة كيان صهيوني حمل اسم “دولة إسرائيل”. وقد اقتضت هذه العملية أن تتم من خلال الحروب التي عرفتها الأرض الفلسطينية، والأرض العربية المجاورة، طوال مائة سنة تقريباً حتى الآن.
فوجود هذا الكيان وتاريخه مع الشعب الفلسطيني، والأمة العربية، بخاصة، شكل حالة صراع تاريخية، لا حل لها، إلا بالخلاص منه (تحرير فلسطين) من جانب، أو فرض المشروع الصهيوني على فلسطين والعرب والمسلمين، من جانب آخر. وهو مشروع كما أثبتت تجربة مائة العام المذكورة، يقتضي الاستيلاء على كل فلسطين، واقتلاع، أو ترحيل، كل الشعب الفلسطيني لتكريس فلسطين “وطناً قومياً” ليهود العالم.
هذا الصراع، أو التناقض، بين هذين الجانبين جعل إرساء نظام ديمقراطي من النمط الغربي في البلاد العربية غير ممكن ما دام هذا الصراع قائماً، أو هذا التناقض، بلا حل. كيف؟ أو لماذا؟
الجواب: لأن نمط النظام الديمقراطي خاصة ببعده الانتخابي والتداولي على السلطة، استناداً لنتائج دورة انتخابية خلال أربع سنوات للبرلمان، والبعض الرئاسي قد يمتد لست سنوات، يقتضي، أو من شروطه أن يُصار إلى تحقيق إجماع وطني مدعوماً من الدولة العميقة، حول الاستراتيجية (أو السياسة) الخارجية للبلد المعني، كما لطبيعة النظام الداخلي، بما في ذلك الاتفاق على كيفية وحدود إجراء تغيير في هذين البعدين، (في العادة يكون جزئياً وضمن الإجماع الوطني حوله).
وهذا ما يفسّر في تجربة النظام الديمقراطي الغربي ثباته في الولايات المتحدة الأمريكية، أو بريطانيا مثلاً لمدى مئات السنين، أي بالنسبة للسياسة الخارجية، أو النظام الداخلي والدولة العميقة.
أما إذا تعرض أحد هذه الشروط: الاستراتيجية الخارجية، أو النظام الداخلي أو الدولة العميقة، لتغيير نوعي، فإن النظام الديمقراطي يسقط، ويدخل في أزمة لا تسمح له بإجراء انتخابات حرة نزيهة، أو التبادل في حكم البلاد. وإن المثل هنا يتجسد في التجربة الألمانية (النازية) أو الإيطالية (الفاشية). وقد أدتا إلى حرب عالمية، وليس إلى نسف النظام الانتخابي – التداولي فقط.
ولذلك، فإن تطبيق ديمقراطية (انتخابية تداولية على السلطة)، كما دلت التجربة، في أي من البلاد العربية غير ممكن. وذلك لأن من غير الممكن الاتفاق على السياسة أو الاستراتيجية الخارجية مع الكيان الصهيوني، كما على النظام الداخلي والدولة العميقة، لدعم تلك السياسة.
وبكلمات أخرى، فإن أي بلد عربي لا يستطيع أن يحقق إجماعاً داخلياً أو قبولاً عربياً على التعايش أو الاعتراف أو التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يستهدف سلب كل فلسطين وترحيل كل أهلها، وتحويلها إلى وطن قومي ليهود العالم. ومن ثم لا يحتمل الوضع أن تجري انتخابات حرة ويصار إلى تسلم السلطة على ضوئها، في نظام اعترف، أو طبع، أو تعايش مع المشروع الصهيوني، الذي يريد أن يطبق كل مشروعه.
أما من جهة أخرى، فإن إقامة نظام ديمقراطي تداولي معادٍ للكيان الصهيوني أو عامل على تحرير فلسطين أو حتى “محايد” غير مطبّع، سيواجه “حرباً” (حصاراً ومعاداة) من قٍبل أمريكا والدول الغربية. ومن ثم سيواجه كل ما يمنع استقراره كنظام ديمقراطي انتخابي ـ تداولي. وهذا ما واجهته كل الدول العربية التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني (الذي هو حق عربي، بامتياز، من فلسطين) من ألوان الحصار والتضييق ودعم الانقلاب العسكري ومحاولات تفتيت الوحدة الداخلية.
فما من نظام يمكن أن يقوم في البلاد العربية، أكان ديمقراطياً على النمط الغربي، أم على غير ذلك، إلاّ ويتعرض لضغوط الدول الغربية المسيطرة على النظام العالمي، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً، للاعتراف بالكيان الصهيوني. مما يجعل الحفاظ عليه، أو استقراره، أو اتباعه لنظام ديمقراطي انتخابي – تداولي حر ونزيه، غير ممكن بصورة شبه مطلقة.
أما إذا لم يقاوم، وقبل أن تؤدي الانتخابات إلى من يتبنى سياسة اعتراف وتطبيع وتعايش (خضوع) مع الكيان الصهيوني سيفقد الإجماع، ويسقط، ولن يكون من الممكن تطبيق نظام ديمقراطي تداولي بانتخابات حرة نزيهة. وذلك لما سينشأ من معارضة شعبية وعربية. وبهذا يسقط الإجماع حول السياسة الخارجية، وطبيعة النظام الداخلي، والدولة العميقة (التي لا يقوم نظام، أي نظام، من دون دعمها). فها هنا، أيضاً، وأكثر، لا يمكن أن يقوم نظام ديمقراطي – تداولي انتخابي على أساس الخضوع أو المساومة مع الكيان الصهيوني، كما مع الدول الغربية الكبرى.
لهذا، إن كل من يطالب بإقامة نظام ديمقراطي من النمط الغربي الانتخابي – التداولي عليه أن يتأكد من عدم إمكان تطبيق ذلك أكان تحررياً، استقلالياً، وحدوياً، شعبياً، أم كان ليبرالياً، أقرب لما يريده الغرب في سياسته الخارجية، أو نظامه الداخلي أو دولته العميقة. فالمشكلة هنا هي وجود “دولة” الكيان الصهيوني في فلسطين. أي في قلب البلاد العربية جغرافياً وتاريخياً وثقافياً ودينياً وانتساباً لأمّة واحدة. ومن ثم فإن كل من يعتبر أن النظام الديمقراطي – التداولي من النمط الغربي هو الحل والمبتغى، فعليه أن يدعم الخلاص من وجود الكيان الصهيوني، ويعارض ما يلقاه من دعم أمريكي-غربي، بصورة خاصة. وإن لم يفعل فتبنيه للنظام الديمقراطي-التداولي غير جدي، أو ذراً للرماد في العيون إن كان يدري حقيقة هذه العلاقة العدائية بين الديمقراطية ووجود الكيان الصهيوني.
وبالمناسبة لا يعرف الكثيرون أن إقامة الكيان الصهيوني في حرب 1948، أسهم في إسقاط الإرهاصات الديمقراطية الأولى في كل من مصر وسوريا والعراق. وذلك بسبب إنزال الهزيمة العسكرية بجيوشها التي واجهت جيش الكيان الصهيوني في تلك الحرب التي انتهت بنكبة فلسطين. الأمر الذي مهّد، أو حتم، لاحقاً لمسلسل الانقلابات العسكرية. فمنذ اللحظة الأولى التي قامت بها دولة الكيان الصهيوني فتحت الأبواب على الحروب والصراعات والويلات والكوارث، بما في ذلك تكريس التجزئة والعقبات الكأداء أمام النهوض والتنمية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة والديمقراطية بمعنييها الاجتماعي والسياسي. كما فتحت الأبواب أمام استشراء التبعية والفساد والاستبداد وألوان الانحطاط.
فلا يُهوننّ أحد من سلبيات زرع الكيان الصهيوني في فلسطين على كل البلاد العربية والإسلامية ومستقبل العالم.