إبراهيم درويش
لندن- “القدس العربي”:
السبت , 1 أبريل , 2023
حذرت مجلة “إيكونوميست” في افتتاحيتها من التنافس الأمريكي-الصيني، الذي قالت إنه يزداد خطورة، وما يراه المسؤولون الصينيون من تنمر أمريكي يسهم في توتر العلاقة. وتابعت أنه كان هناك أمل بأن تفضي إعادة فتح الصين بعد سنوات من الإغلاق بسبب كوفيد-19 وعودة الاتصالات بين السياسيين والدبلوماسيين ورجال الأعمال إلى تخفيف التوتر الصيني-الأمريكي. إلا أن المزاج في الصين اليوم يظهر كيف أن العلاقات الأهم في العالم أصبحت تتسم بالمرارة والعدوانية أكثر من أي وقت مضى.
ففي أروقة السلطة للحزب الشيوعي الصيني يقوم المسؤولون بشجب ما يرونه التنمر الأمريكي، ويقولون إن نية الولايات المتحدة هي ضرب الصين حتى الموت. وعبر عدد من مدراء الشركات المتعددة الجنسيات في مؤتمر عقد في داياويوتاي لضيوف الدولة مشاركين في منبر التنمية الصيني عن مخاوفهم من التنافر العميق وأثره على تجارتهم. ولكن الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع هو أنه في أحسن الحالات ستكون هناك عقود من الفصل وفك الارتباط وهذا هو أسوأ من الحرب.
وكل طرف يتبع منطقه الذي لا يفهمه الآخر. فقد تبنت أمريكا سياسة الاحتواء مع أنها تتجنب استخدام المصطلح. وترى في الصين المستبدة دولة تحولت من حكم الحزب الواحد إلى حكم الرجل الواحد.
ومن المتوقع أن يبقى “شي جين بينغ” في السلطة لسنوات وهو معاد للغرب الذي يعتقد أنه في حالة انحطاط. ويتبنى في داخل الصين سياسة قمعية تتحدى القيم الليبرالية، فقد كسر وعوده بضبط النفس وهو يستعرض السلطة للخارج، من هونغ كونغ إلى جبال الهملايا. وأكد لقاؤه مع الرئيس فلاديمير بوتين على أن هدفه هو بناء نظام دولي بديل وصديق للمستبدين.
وبمواجهة ذلك، تقوم الولايات المتحدة بتسريع عمليات الاحتواء العسكري للصين في آسيا حيث قامت بإحياء تحالفات قديمة وبناء أخرى جديدة، مثل “أوكوس”، وهو التحالف الأسترالي-البريطاني-الأمريكي.
وفي مجال التجارة والتكنولوجيا، تفرض واشنطن حصارا على أشباه الموصلات وبقية البضائع. والهدف هو إبطاء عمليات الاختراع الصينية والتأكد من أن الغرب قادر على الحفاظ على تفوقه التكنولوجي: ولماذا تسمح أمريكا باستخدام اختراعاتها لتجعل نظام معاد خطيرا جدا؟ وبالنسبة للقيادة الصينية فهذا عمل يفسر بأنه محاولة لشل بلادهم. فأمريكا في عيونهم لن ترضى بأن تكون دولة أخرى أقوى منها، مهما كانت شيوعية أم ديمقراطية. ولن تتسامح أمريكا مع الصين إلا في حالة إذعانها وكونها “قطة سمينة وليس نمرا”.
أما المحاولات الأمريكية العسكرية وتحالفاتها في آسيا فهي من أجل إشعار الصين بأنها محاصرة في مجال التأثير الطبيعي لها. وتم تجاهل الخطوط الحمر التي اتفق عليها البلدان في سبعينيات القرن الماضي مثل تايوان وداس عليها ساسة أمريكيون متغطرسون ومتهورون. ويرى قادة الصين أن زيادة الحشد العسكري هو الخيار المفضل.
وفي المجال التجاري، يرى قادة الصين المعاملة التي يلقاها بلدهم بأنها غير عادلة، فلماذا يجب حرمان بلد يعتبر الناتج القومي المحلي للفرد أقل بنسبة 83% من أمريكا من التكنولوجيا الحيوية لها؟ وشعر قادة الصين بالرعب من الطريقة التي هاجم فيها قادة الكونغرس تيك توك وهي تابعة لشركة صينية هذا الشهر.
ورغم حلم بعض الليبراليين الصينيين بالهجرة إلا أن المتعلمين التكنوقراط في الغرب يشجبون إظهار الثروة وأهمية الاعتماد على النفس وضرورة خدمة العولمة أولويات شي. وفي ضوء تمكن كل طرف وإيمانه برؤيته فمن السذاجة الاعتقاد أن الدبلوماسية أو مزيد منها ستؤدي إلى السلام.
وخفف لقاء بين جو بايدن وشي في جزيرة بالي بأندونيسيا من التوتر إلا أن حس المواجهة عاد وأكد نفسه من جديد. وأظهرت قضية منطاد التجسس، الذي يطلق عليه الصينيون بسخرية “المنطاد الشقي”، الطريقة التي يجب على الزعيمين الظهور بها وهي مظهر القوي أمام شعبه. وتريد أمريكا من الصين أن تتبنى حمايات مثل خطوط ساخنة وبروتوكولات متعلقة بالسلاح النووي، إلا أن الصين تعتبر نفسها الطرف الأضعف. ولماذا عليك ربط نفسك بقواعد فرضها الطرف المتنمر؟ ولا يوجد هناك ما يشي بتراجع المواقف العدوانية، وستظهر انتخابات 2024 أن الهجوم وتعنيف الصين سيتحول إلى مبارزة بين الحزبين. ويواجه الرئيس الصيني اقتصادا بطيئا وقد ربط نفسه في الداخل برؤية تقوم على إحياء الاقتصاد.
وأمام هذا الطرف المعادي، فعلى أمريكا والمجتمعات المفتوحة الأخرى أن تلتزم بثلاثة مبادئ، الأول هو تحديد عملية الفصل الاقتصادي. تساعد التجارة في المواد غير الحساسة على بناء اتصالات مع الشركات مما يقلل من حدة الانقسام الجيوسياسي. ويجب تخصيص العقوبات للمجالات الحساسة والتي تعتبر الصين طرفا محتكرا لها، وهذا ينسحب على غالبية التجارة الصينية-الأمريكية. ويجب تجنب أي مواجهة تجارية تعيد أصداء الحرب الباردة، مثل الهجوم على تيك توك المتهم بنشر التضليل الصيني، وبدلا من إغلاقها أو إجبارها على الإغلاق يجب التحصن منها، بيعها أو تعديلها. المبدأ الثاني هو تخفيف فرص اندلاع الحرب. ويواجه الطرفان “معضلة أمنية” تدفع كل منهما لتقوية موقعه، حتى لو أدى هذا لإشعار الطرف الآخر بالتهديد. ومن حق الغرب البحث عن طرق لحماية مصالحه من التهديد الصيني وإلا لكان البديل هو انهيار النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في آسيا.
ولكن البحث عن هيمنة أو استفزاز في مناطق ساخنة مثل تايوان بحيث تخرج الأمور عن السيطرة أمر لا معنى له، إذ يجب على أمريكا أن تردع الصين عن الهجوم على تايوان بدون استفزازها للقيام بعمل. وهذا يحتاج إلى حكمة وانضباط من الجيل السياسي في واشنطن وبيجين، فبالرغم من خلاف قادة أمريكا والاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن الماضي لم يشهدوا فظائع الحرب العالمية الثانية.
وأخيرا، فعلى أمريكا وحلفائها تجنب أي تصرف يجعلها مثل المستبدين الذين تحاول ضبط تصرفاتهم. وفي هذه المنافسة بين الليبراليين والمستبدين، الاقتصاديات الكبرى لها ميزة، أنها قادرة دائما على الإبداع وبناء الثروة والحصول على الشرعية في الداخل والخارج. لو التزمت أمريكا بقيم الانفتاح ومعاملة الجميع على قدم المساواة وحكم القانون فستجد سهولة لكي تحافظ على ولاء كل حلفائها. على أمريكا التأكيد أن خلافاتها ليست مع الشعب الصيني بل الحكومة الصينية التي تمثل تهديدا على السلام والأمن العالمي. فالمعركة في القرن الحادي والعشرين ليست عن الأسلحة والرقائق بل الكفاح من أجل القيم أيضا.