أ.د عبد الستار الجميلي
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني
في مسألة التعامل مع ما تبقى من قوات الاحتلال الأمريكي، يواجه النظام السياسي الحالي في العراق معضلة شديدة التعقيد وإضطراب في خياراته أمام الضغط الشديد للمصلحة الوطنية التي لها الأولوية، والمصالح الإقليمية ذات الطابع الأيديولوجي والمصلحي.. فقد لجأت إيران والفصائل المؤيدة لها إلى ممارسة كل أنواع الضغط العسكري وغير العسكري، لإخراج ما تبقى من الوجود العسكري للإحتلال الأمريكي المتمثل بتواجد قواته في بعض القواعد الأمريكية أو العراقية، وهي مطالب تنطلق من المصالح الإيرانية المرتبطة بملفات تتعلق بالمشروع الايراني وآليات إختراقه للعراق والوطن العربي والمنطقة بشكل عام، الذي إتخذ من قضية فلسطين غطاءً جاهزاً في ظلّ الإستقطاب الحاد في الشارع العربي المأخوذ عاطفيا ووجدانيا بقضية فلسطين، وكذلك الدور الإيراني الإقليمي والدولي الذي إرتبط بشكل خاص بفرض موازين قوى لصالح إيران عبر الملف النووي والتحالفات الدولية وغيرهما من الملفات.
ولا يعني هذا ان إخراج قوات الإحتلال الأمريكي من العراق لا يرتبط بالمصلحة الوطنية العراقية، بل إنه في صميم هذه المصلحة وسيادة العراق وإستقلاله وسلامة أراضيه الإقليمية.. لكنَّ هناك فارق نوعي وإستراتيجي ومبدأي بين المصلحتين الوطنية العراقية والمصالح الإيرانية، حيث تعتمد ايران في تحقيق مصالحها على حروب الوكالة والحرص على عدم مساس هذه الحروب بالداخل الايراني وحدودها الدولية، وكذلك بمواطنيها الا بقدر محسوب لا يتعدى الخسائر الجانبية المطلوبة، مع الإعتماد بشكل أساسي على العنصر البشري العربي كوقود للرسائل الساخنة الإيرانية في فلسطين والعراق ولبنان وسورية واليمن.
أما المصلحة الوطنية العراقية فإنها أمام خيارات صعبة في مواجهة معطيات ذات أبعاد متشابكة ومعقدة ومتعارضة داخليا وإقليميا ودوليا.. فالعملية السياسية، التي فرضها الإحتلال نفسه، مبنية على محاصصة طائفية وعرقية، أنتجت ديمقراطية هشة وتعددية في مراكز القوة والقرار، وكتلاً سياسية منقسمة على نفسها في توصيف المصالح والثوابت والمحددات الوطنية، ومصادر التهديد والمخاطر، والأصدقاء والحلفاء والأعداء.. فهناك كتل ترى في إيران صديقاً وحليفاً، وأخرى ترى في تركيا صديقاً وحليفاً، وكتل ثالثة ترى في أمريكا صديقاً وحليفاً، بل إنَّ بعضها يرى في الكيان الصهيوني صديقاً وحليفاً وإن لم يعلن عن ذلك مباشرةً.. وقد أفرز هذا التوصيف من جانب، إرتباطا متعسفاً وغير منطقي بين المصلحة الوطنية ومصالح هذه الصداقات والتحالفات إلى حدّ التماهي والتخادم، ومن جانب آخر زرع هذا التوصيف بذور قلق وخوف متبادل من هيمنة هذا الطرف أو ذاك على المشهد السياسي العراقي وما ستؤول إليه هذه الهيمنة من إقصاء وإلغاء للطرف الآخر، وبدعم مباشر وغير مباشر من الصديق والحليف المفترض.. ما أفضى هذا الواقع إلى المساس المباشر بالوحدة الوطنية العراقية إلى حدّ التمزيق، وتشتيت وإنقسام للرأي الشعبي العام، وإلى تقييم أو ردود فعل متباينة من الإحتلال الأمريكي والهجمات الإيرانية والتركية.
وأمام هذه الولاءات المتباينة كانت المصلحة الوطنية العراقية دائماً، إمّا منسية أو ذات إهتمام ثانوي أو ربطها تعسفياً بتلك الولاءات الخارجية، التي تجلّت تلك الولاءات بشكل خاص في ردود الفعل المتباينة في مواجهة أيّ عدوان على العراق التي غاب عنها الموقف الوطني الموحد، حيث تتوارد مقطعياً بحسب الولاءات، فمواقف التبرير والتأييد والترحيب تكون جاهزة إذا ما إعتدى على السيادة العراقية الصديق والحليف، فيما تُكيل الجهاتُ الأخرى الإستنكار والوعيد لهذا العدوان من غير الصديق والحليف، فدائماً ما تجد الهجمات الإيرانية والتركية والأمريكية تبريرها من الكتل والجماعات التي تعتبر هذه الأطراف الإقليمية والدولية، كل حسب ولاءه، صديقة وحليفة، بينما تلجأ الحكومة العراقية ووزارة خارجيتها، ودفعاً للحرج أمام هذه الموازنة الصعبة، إلى إصدار بيانات إدانة وإستنكار بلغة حذرة في محاولة لإرضاء كلّ الأطراف عبر صياغة بيانات قابلة للتأويل والقراءات المتعددة.
لكلّ ذلك فإن مفاوضات الحكومة العراقية مع الجانب الأمريكي تفتقر إلى العمق الشعبي والأرضية الوطنية للوصول إلى قرار وطني موحد من الوجود العسكري للإحتلال الأمريكي، فهناك كتل سياسية وطيف عراقي واسع يُبدي قلقاً وتخوفاً من إمكانية الهيمنة الطائفية الكاملة على الدولة من قبل القابضين على السلطة والثروة والقوة في هذه المرحلة، في حال إنسحاب قوات الإحتلال الأمريكي من العراق.. إلى جانب ان خطر خلايا داعش الإرهابية مازال نشطاً وسيحاول إستغلال الفرصة لإعادة تجربة ٢٠١٤ بإحتلال مساحات واسعة من الأرض العراقية، خصوصاً وان الجيش العراقي، رغم التطورات الايجابية التي وصل إليها والإنجازات النوعية التي حقّقها، مازال يعاني من بعض الفجوات في القوة الجوية والتسليح والدعم اللوجستي والإستخباري.
ومحصلة ما سبق فإن المفاوضات العراقية- الأمريكية تواجه معضلة حقيقية في كيفية الملائمة بين الضغط الايراني ومصالح ايران التي لها الأولية في حسابات النظام الايراني في لعبة قواعد الإشتباك والرسائل المتبادلة وإستثمار قضية فلسطين والعدوان الصهيوني على غزة لتحقيق أكبر قدر مسموح به من المكاسب، في ظلّ وجود فصائل عراقية مسلحة مؤيدة لهذا النظام وتُشكل قوة لا يُستهان بها على الأرض تلجأ بين فترة وأخرى إلى مهاجمة الأهداف الأمريكية العسكرية والدبلوماسية في العراق وخارجه، وما يستتبع ذلك من ردود فعل أمريكية بتنفيذ هجمات مضادة تطال هذه الفصائل، وفي الحالتين يتم التوصيف بإنتهاك وخرق للسيادة العراقية.. وبين المصلحة الوطنية العراقية المحكومة بالتمزق الوطني والمجتمعي بفعل المحاصصة الطائفية والعرقية، وما أفضت إليه من تناقض حاد بين مواقف الكتل السياسية من إخراج ما تبقى من قوات الإحتلال بين مؤيد أو متحفظ تحت ضغط إنعدام الثقة بينها والخوف من مرحلة ما بعد الإنسحاب، والذي ظهر جلياً في جلسة مجلس النواب التي غاب عنها أغلب النواب، ومن جميع الكتل بدون إستثناء، مع أنها كانت مخصصة لمناقشة إخراج هذه القوات، وكذلك القلق من تداعيات الوضع الأمني أمام محاولات داعش الإرهابي ومثيلاته لإستغلال المرحلة الإنتقالية المتشابكة إذا ما تحقّق الإنسحاب الأمريكي من العراق.
ومن جوانب المعضلة الأخرى المرتبطة بالمصلحة الوطنية، التصور المنقوص بأنّ الاحتلال الأمريكي مرتبط بوجود قواته فقط، دون الأخذ بنظر الإعتبار الجوانب الإقتصادية والإستراتيجية والدولية، فدورة الحياة الإقتصادية والمالية العراقية مرتبطة بالمؤسسات الإقتصادية والمالية الأمريكية خصوصا ما تعلق بمردودات بيع النفط الذي لا يتحكم فيه العراق بشكل كامل وكذلك أزمة الدولار.. ومن الناحية الإستراتيجية فإن العراق يمثل ميداناً رئيساً في الصراع الجيوسياسي الدولي، ليس من السهل التفريط به من قبل صانع القرار الأمريكي أمام المتغيرات في هيكل النظام الدولي وموازين القوى فيه لصالح التعددية القطبية على وقع العملية العسكرية الروسية الخاصة في مواجهة أمريكا والناتو في أوكرانيا، والصعود الصيني المتسارع، والتحالف الثنائي بين روسيا والصين أو ضمن منظمة بريكس التي إنضمت اليها الكثير من الدول، بما فيها عدد من الدول العربية وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، إذ انَّ الرؤية الأمريكية والغربية بشكل عام مبنية على أن أي منطقة تخرج منها أمريكا ستكون مفتوحة للتمدد الروسي أو الصيني أو كلاهما معا، وبالتالي فإن الخروج من العراق، بموقعه الإستراتيجي وثرواته، يُتيح الفرصة وفق الرؤية الأمريكية لروسيا والصين للتمدد فيه ما يٌهدّد الإستراتيجية الأمريكية في الوطن العربي والمنطقة عموما لخطر حال مباشر، خصوصاً وأن أمريكا والغرب عموماً في وضع تراجع إستراتيجي في العالم كله.. ومن الناحية الدولية فإنّ العراق يخضع بطريقة أو بأخرى لولاية الأمم المتحدة ومجلس الأمن والفصل السابع، فما زال ممثل الأمم المتحدة يحيط مجلس الأمن بالتقدم أو التراجع في العراق بين فترة وأخرى في الميادين التي حدّدتها قرارات مجلس الأمن الدولي والإحتلال الأمريكي، وما يترتب على هذه الإحاطة من ضغوط مادية وسياسية ونفسية، بحسب ما تتضمنه الإحاطة من نتائج مازالت تتراوح بين السلبية أو التقدم الطفيف.
أمام هذه المعطيات فإن أيَّة مفاوضات مع الجانب الأمريكي لن تشكل ضغطاً كافياً للخروج بنتيجة مقبولة وفق المصلحة الوطنية، لتحرير العراق من بقايا قوات الإحتلال الأمريكي وأبعاده الإقتصادية والإستراتيجية والدولية وتحرير القرار الوطني العراقي قبل كل شيء من ضغط التموضع الإقليمي ومصالحه ومطامعه ومن التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية التي تواجه هذه المصلحة، إلاّ بموجب موقف وطني موحد مستنداً على مشروع وطني جامع، يضمن إستعادة الدولة وفكرتها وحسها وهيبتها، والمغادرة الجذرية للمحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة والفيدرالية والأقلمة التقسيمية التفتيتية، وإعادة بناء الوحدة الوطنية على مبدأ المواطنة والعدالة السياسية والإجتماعية، وتفعيل الدور الوطني للجيش العراقي بناء وإعدادا وعقيدة وتسليحاً، وغير ذلك من الجوانب التي تعيد للعراق هيبته ودوره العربي والإقليمي والدولي، في موازين القوى، وفرض الإرادة والقرارات الوطنية في عالم تتحكم فيه واقعية متجهمة مبنية على المصالح والقوة التي تحميها.. وليس هناك من قوة تضاهي الوحدة الوطنية المتماسكة والمتجانسة في قوتها وقدرتها على فرض إرادة الشعوب مهما كانت التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية.