سمير صالحة*
موقع أساس ميديا
2024-11-28
هناك قلق تركي واضح من احتمال بروز اصطفاف إقليمي جديد في التعامل مع الملفّ السوري يتعارض مع مصالح أنقرة وحساباتها. ما يقود إلى قناعة بهذا الاتّجاه هو تطوّرات الأوضاع الأمنيّة والسياسية والمتغيّرات الإقليمية المحتملة، بعد بروز أكثر من عامل يدعم هذه الفرضيّة. فقد تقرّب هذه التطوّرات بين مصالح وأهداف تل أبيب وموسكو في سوريا أوّلاً، ويُحتمل إقناع الإدارة الأميركية الجديدة بقبول بناء منصّة ثلاثية مغايرة في التعامل مع الملفّ السوري بعيداً عن أنقرة وطهران ثانياً.
إلى متى ستبقى أنقرة تدافع عن سياستها السورية المعتمدة منذ عامين تقريباً وتراهن على دفع النظام في دمشق نحو طاولة الحوار التي ما زالت تتحدّث عنها؟ وهل شرط إقناع النظام ما زال ضرورياً بالنسبة للبعض داخل سوريا وخارجها حيث ما زالت دمشق تناور وتتردّد وتتمسّك بمحاولة رمي الكرة في الملعب التركي؟
رسائل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة إلى بشار الأسد لم تكن سوريّة فقط، بل ذات طابع إقليمي مرتبط بالملفّ ومساره. خاطب فيدان أمام الإعلاميين الأتراك 5 جهات على الأقلّ تتابع وترصد ما يجري في سوريا:
– الأسد في دمشق: “لم نشترط الجلوس ومحاورة المعارضة بل رأينا في ذلك خطوة لا بدّ منها على طريق الحلّ السياسي في سوريا. لن ننتظر مطوّلاً حسم موضوع اللجوء وسنحرّك البدائل عند اللزوم”.
– بغداد ودورها على خطّ التهدئة والتقريب بين أنقرة ودمشق: “نرحّب بأيّ دور عراقي مسهّل بين تركيا والنظام في سوريا”.
– دونالد ترامب الذي يستعدّ لتحمّل مسؤوليّات السياسة الأميركية الجديدة في سوريا: “الإدارة الجديدة ستراجع مسألة علاقتها بحزب العمّال في سوريا”.
– العالم عبر النظام في سوريا: “لا هدف تركيّاً باتّجاه تغيير النظام في سوريا أو احتلال أراضيها”.
– موسكو والاستعداد لسيناريوهات جديدة: “مؤتمر الآستانة حقّق التهدئة، لكنّه لم يحقّق الحلّ السياسي في سوريا. روسيا غير متحمّسة أكثر من ذلك. لا بدّ من البحث عن منصّة إقليمية جديدة”.
واضح تماماً أنّ هناك قلقاً تركيّاً حيال الانفتاح الروسي الأخير على تل أبيب في الموضوع السوري
الأسد يبحث عن مخرج
يريد بشار الأسد الخروج من مأزق ينتظره عند تراجع النفوذ الإيراني في سوريا. عليه هنا أن لا يتجاهل الهجمات والغارات الإسرائيلية المكثّفة ضدّ القوات الإيرانية ومن يقاتل إلى جانبها في سوريا، وأن يتأكّد أنّ تل أبيب لن تتراجع عن سحب ورقة إيران السورية من يده. وهذا ما يقلق طهران ويدفعها لتحريك 4 وفود سياسية وعسكرية خلال فترة زمنية قصيرة باتّجاه دمشق.
يعوّل الأسد على الخروج سالماً من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في لبنان وسوريا، وعلى فتح الأبواب عربيّاً أمامه لتحسين وضعه في الداخل السوري. لن يكفيه ذلك. عليه أن يقدّم أكثر لمن سيعمل على تعويمه وإبقائه فوق كرسي الحكم.
فيدان
لكنّ سيناريو التنسيق الروسي الإسرائيلي لن يكون في مصلحة أنقرة وما تريد الوصول إليه في سوريا، وقد يتعارض مع حساباتها هناك، التي تقوم على إضعاف إيران في سوريا وإخراج حلفائها المحليّين من المشهد، وتغيير سياسة دمشق الإيرانيّة وليس سياسة إيران السوريّة، وسحب ورقة داعش من يد مجموعات “قسد”، وإقناع واشنطن وموسكو بتفاهمات أميركية روسية في القرم مرتبطة بخطط تنسيق مشترك حول الحلحلة في سوريا.
ما هو توقيت هذه الأحداث؟
– إعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنّ أولويّات إيران في سوريا لا تشمل تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وأنّ هذا الموضوع ليس مدرجاً على أجندة روسيا في الوقت الراهن، نظراً لوجود وقف إطلاق نار على الجبهات ولعدم وجود تهديد كبير.
– بيان “منصّة موسكو” الأخير الذي يدعو إلى بناء نظام جديد في سوريا يقوم على علاقة متوازنة بين المركزية واللامركزية، يأخذ بعين الاعتبار حقوق أكراد سوريا، ويتمسّك بتعويم النظام السوري.
خاطب فيدان أمام الإعلاميين الأتراك 5 جهات على الأقلّ تتابع وترصد ما يجري في سوريا
– التسلّل الذي نفّذته “قوات سوريا الديمقراطية” قبل أيام ضدّ مواقع “الجيش الوطني السوري” المعارض وحليف أنقرة، على محاور بريف مدينة الباب شرقي حلب، والذي أسفر عن مقتل 13 من عناصر “حركة التحرير والبناء” في الجيش الوطني، وقد يكون رسالة إسرائيلية روسية لأنقرة وحلفائها المحليّين بأنّ ورقة “قسد” ستظلّ تُلعب بوجه تركيا حتى لو انسحبت القوات الأميركية من شرق الفرات لمصلحتها.
– زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر لموسكو مطلع تشرين الثاني، وما تبعها من حديث للمبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف عن “الاحتلال التركي” وتعويل موسكو على إمكانية التفاهم مع إدارة ترامب بخصوص تسوية ما في سوريا تتضمّن استيعاب مصالح إسرائيل، تعكس حجم الرغبة الروسية الإسرائيلية في التنسيق بسوريا، ومدى الاستعداد الروسي للعمل مع فريق ترامب وعقد الصفقات في الملفّ السوري وتفرّعاته الإقليمية.
– حديث عن ضغوطات روسية على بغداد لدفعها باتّجاه التخلّي عن جهود الوساطة التي تقودها بين أنقرة ودمشق، بما يتعارض مع تصريحات فيدان الذي يرحّب بدور “المسهّل” العراقي ويتحدّث عن تعاون ثلاثي منظّم بين الأطراف الثلاثة.
موقف الدّولة العميقة
أسئلة كثيرة تراود صنّاع القرار التركيّ في مسألة انسحاب الولايات المتحدة من سوريا عسكريّاً. لمصلحة من؟ ولماذا؟
يقول فيدان إنّ دونالد ترامب سيتريّث قبل اتّخاذ القرار، لكنّه يعرف جيّداً أنّ الجناح العسكري والبيروقراطي الأميركي هو من عرقل محاولة ترامب في فترة حكمه الأولى سحب القوات من شرق الفرات. الدولة العميقة في واشنطن ستحاول مرّة أخرى من دون تردّد، فورقة “قسد” لا يمكن التفريط بها بالمجّان، خصوصاً بعد إعلان تل أبيب جهوزيّتها للعب هذه الورقة في سوريا.
تدعم واشنطن مجموعات “قسد” في سوريا وتستثمر في أرباحها منذ عام 2014، فلماذا تنسحب وتحيل ملفّ شرق الفرات إلى الجانب التركي بمثل هذه السهولة؟ لا بل لماذا تتخلّى واشنطن عن مواقع تجسّس ورصد عسكري استراتيجي متطوّر على إيران أنشأته منذ سنوات في شرق سوريا وتغادر المكان بالمجّان لمصلحة تركيا؟
رسائل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة إلى بشار الأسد لم تكن سوريّة فقط، بل ذات طابع إقليمي
إذاً هناك السيناريو الروسي الإسرائيلي الذي قد تلتحق به واشنطن، بهدف دفع إيران نحو مواجهة قدر جديد يدفع “الحزب” وحلفاء طهران في المنطقة الثمن الأكبر فيه. وهناك بالمقابل السيناريو التركي الذي يوجزه فيدان على طريقته: “سننتظر الأسد، لكنّنا لن ننتظره إلى ما لا نهاية. ومنصّة الآستانة لعبت دوراً مهمّاً على طريق التهدئة، لكنّها لم تعد صالحة لتفعيل الحوار السياسي وتسريعه. ولا بدّ من بدائل أخرى سنلجأ إليها عندما لا نصل إلى نتيجة مع النظام”.
احتمال سيناريو تركيّ – أميركيّ
الغامض الذي يقلق موسكو ويغضب تل أبيب هو احتمال وجود سيناريو تركي أميركي نوقش مع فريق ترامب الجديد باتّجاه تسريع الانسحابات الأميركية العسكرية من سوريا لمصلحة القوات التركية التي ستتقدّم لملء هذ الفراغ.
واضح تماماً أنّ هناك قلقاً تركيّاً حيال الانفتاح الروسي الأخير على تل أبيب في الموضوع السوري. ويبدو بالمقابل أنّ هناك قلقاً روسيّاً من المباحثات التركية الأميركية، ومحاولة أنقرة تقديم ضمانات لإدارة ترامب تؤكّد قدرتها على ملء فراغ القوات الأميركية في حال قرّر ترامب المضيّ قدماً في خطّة إعادة الانتشار في سوريا.
التفاهمات الروسية الإسرائيلية حول سوريا هدفها إشراك واشنطن في الطاولة الجديدة وإبقاء الأسد في مكانه في إطار مشروع تسوية سياسية تضعف أنقرة وتقوّي النظام و”قسد”، والكرة من جديد في ملعب ترامب.